الفرق بين الموت الحقيقي والحكمي للمفقود
فرق قانون الاحوال الشخصية اليمني بين الموت الحقيقي للمفقود والموت الحكمي له ، بيد ان القانون ذاته جعل اثرهما واحد ، فالموت الحكمي للمفقود: هو إنقضاء المدة المقررة في الشريعة الإسلامية والقانون من وقت فقدان المفقود ، وإنقطاع أخباره لمدة سنتين في ظروف يغلب فيها الهلاك أو إنقطاع اخباره لمدة أربع سنوات في ظروف لايغلب فيها الهلاك ، وخلال المدتين المشار اليهما لا تعلم حياة الشخص أو موته، فبعد إنقضاء هذه المدة يحكم القاضي بإعتبار المفقود ميتًا حكما ، ويرتب هذا الحكم اثاره من تاريخ النطق بالحكم بإعتبار المفقود ميتاً وهذا هو (الموت الحكمي) للمفقود.
اما الموت الحقيقي للمفقود: فهو فقدان الشخص وإنقطاع أخباره لمدة سنتين في ظروف يغلب فيها الهلاك أو إنقطاع اخباره لمدة أربع سنوات في ظروف لايغلب فيها الهلاك ، وخلال المدتين المشار اليهما لا تعلم حياة الشخص أو موته، ثم بعد ذلك تظهر أدلة تدل قطعاً على أن الشخص المفقود قد مات في وقت معين ومكان معين ،ولكن أهل بلدته لم يعلموا بموته، فعندئذٍ يكون هذا المفقود ميتاً حقيقة بموجب الإدلة الشرعية على ذلك ، فلايكون الموت في هذه الحالة حكميا، وعندئذ يحكم القاضي بثبوت موت المفقود،
حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 23-6-2012م في الطعن رقم (45114)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه:
(وبالتأمل لما ورد في أسباب حكم محكمة الموضوع ومنطوقه ، فقد تبين من خلال ذلك وجود الشهادة بثبوت وفاة والد المطعون ضده بعد غيابه عن بلده (...) ، فهذا هو الحكم بوفاته ، ولكن الطاعن يتجاهل هذا الحكم بقصد أو بغير قصد، مما يستوجب رفض الطعن)،
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: تعريف المفقود:
المفقود في اللغة: هو الضائع، فيقال فقد الكتاب أو المال، ويقال فقدت المرأة زوجها، اما في الفقه الإسلامي ; فقد اتفق الفقهاء على تعريف المفقود بأنه: الغائب الذي لا يعرف مصيره حي أم ميت، اي ان حياته أو مماته مجهولان، وقد اكتفى بعض الفقهاء بذلك أي إنه يكفي عندهم لإعتبار الشخص مفقوداً أن تكون حياته أو موته مجهولين، في حين ذهب بعض الفقهاء إلى إنه لا يكفي لاعتبار الشخص مفقودا أن تكون حياته أو موته مجهولين وإنما يضاف إلى ذلك أن يكون مكانه مجهولا، فعلى هذا القول فأن المفقود هو: المجهول حياته وموته ومكانه.
وقد عرف الشافعية المفقود بأنه (من انقطع خبره وجهل حاله من سفر أو حضر في قتال أو عند إنكسار سفينة أو غيرها).
اما قانون الأحوال الشخصية اليمني فقد عرف المفقود في الفقرة (2) من المادة (113) التي نصت على أن (-2- المفقود هو الغائب الذي لا تعرف حياته ولا وفاته)، ووفقاً لهذا النص فقد أخذ القانون اليمني بقول الفقهاء الذين اشترطوا لإعتبار الشخص مفقوداً أن تكون حياته وموته مجهولين اما مكانه فلايشترط ان يكون مجهولاً.
وعلى هذا الأساس فإن الشخص يكون مفقوداً طالماً لا تعرف حياته ولا موته ولو كان قد تم فقدانه في مكان معين أو دولة معينة أو في منطقة معينة داخل اليمن، ولاشك أن القانون اليمني قد حالفه الصواب في إختيار القول الفقهي المناسب، لأن الفقدان قد يقع داخل الدولة أو خارجها، وقد يقع الفقدان في مكان معلوم أو مكان مجهول ، فلا يشترط أن يكون مكان الفقدان مجهولاً لإعتبار الشخص مفقوداً. (الوجيز في أحكام الأسرة، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص148).
الوجه الثاني: بداية مدة الفقدان ونهايتها:
تبدأ مدة الفقدان بعد تاريخ ورود اخر خبر عن الشخص المفقود إذا فقدانه في ظروف لايغلب فيها الهلاك، كالمغتربين والمبعوثين اليمنيين للدراسة في الخارج الذين تنقطع اخبارهم، فمثلاً القضاء اليمني اعتبر بداية مدة الفقدان بعد تاريخ ورود اخر خبر عن المفقود ، فقد قضى القضاء اليمني بأن مدة الفقدان يتم إحتسابها من التاريخ التالي للتاريخ الذي حدده الشهود الذين شهدوا بأنهم قد سمعوا من القادمين من اثيوبيا أنهم شاهدوا المدعى فقدانه في مطعم (النخلة) في العاصمة الاثيوبية (أديس أبابا) أو الزهرة البيضاء في تاريخ...، فاعتبرت المحكمة تاريخ مشاهدة الاشخاص الذين ذكروا للشهود انهم شاهدوا المفقود في اثيوبيا اعتبرت المحكمة ذلك بداية مدة فقدان ذلك الشخص ، فمدة الفقدان تبدأ في هذه الحالة من تاريخ آخر خبر عن حياة الشخص، هذا في حالة الفقدان في ظروف لايغلب فيها الهلاك .
اما إذا كان الفقدان في ظروف يغلب فيها الهلاك كالحروب والكوارث والفيضانات والزلازل ، فمدة الفقدان فيها سنتان ،وتحسب مدة السنتين بدءاً من تاريخ صدور البيان العسكري من وزارة الدفاع الذي يحدد عدد القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين وذلك بعد انتهاء العملية العسكرية، أما بالنسبة للمفقودين في الكوارث الطبيعية كالحرائق والفيضانات فيتم إحتساب مدة السنتين من تاريخ اليوم التالي لصدور البيان من قبل هيئة الدفاع المدني الذي يحدد عدد القتلى والجرحى والمفقودين في الكارثة الطبيعية ، بإعتبار البيانات العسكرية وبيانات الدفاع المدني بيانات رسمية صادرة من الجهات ألمختصة، فتكون لتلك البيانات حجيتها الرسمية ، ويتم إصدار تلك البيانات بناءً على شهادات متواترة للموجودين في مكان المعركة أو مكان وقوع الكارثة كالزلزال.
وقد بينت مدد الفقدان في ظروف يغلب عليها الهلاك أو ظروف لا يغلب عليها الهلاك المادة (117) أحوال شخصية التي نصت على إنه (للقاضي أن يحكم بموت المفقود في الحالات الآتية: -أ- إذا قام دليل على وفاته –ب- إذا مرت فترة كافية على إعلان فقده في ظروف لا يغلب فيها الهلاك على أن لا تقل المدة عن أربع سنوات –ج- إذا فقد في ظروف يغلب فيها هلاكه ومضت سنتان على فقده)، وإذا كان من المعلوم أن تصدر بيانات أو إعلانات بفقدان الأشخاص في الحالات التي يغلب فيها الهلاك كالعمليات العسكرية حيث تصدر الإعلانات من وزارة الدفاع وكذا تصدر من الدفاع المدني في حالة الكوارث إلا أنه بالنسبة للمفقودين في ظروف لا يغلب فيها الهلاك فيتم إحتساب بداية مدتها (4 سنوات) من التاريخ التالي لورود آخر خبر عن الشخص المفقود .
كما انه من المعلوم أن مدة فقدان الشخص تنتهي في حالات ثلاث: الحالة الأولى: عودة المفقود حياً، الحالة الثانية: ثبوت موت المفقود بشهادة الشهود أو غيرها من طرق الإثبات مثلما حصل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا، الحالة الثالثة: صدور حكم من القاضي المختص بإعتبار المفقود ميتًا حكما ، وفي هذا المعنى نصت المادة (116) أحوال شخصية على أن (ينتهي الفقدان في الحالات الآتية: -أ- عودة المفقود حياً –ب- ثبوت وفاته –جـ- الحكم بإعتباره ميتاً).
الوجه الثالث: الموت الحقيقي للمفقود:
بعد تحقق حالة الفقدان وأثناء سريان مدة الفقدان السابق ذكرها (سنتان في ظروف يغلب عليها الهلاك وأربع سنوات في ظروف لا يغلب عليها الهلاك) أثناء سريان هذه المدة أو بعدها قد يثبت لدى محكمة الموضوع بدليل من أدلة الإثبات المقررة في القانون أن المفقود قد مات حقيقة في وقت معين اثناء فقدانه، فاذا تم إثبات موت المفقود حقيقة أمام القاضي فعندئذٍ يقوم القاضي بالحكم بثبوت موت المفقود بناءً على تلك الادلة وذلك في التاريخ المحدد في دليل إثبات موت المفقود، وبناءً على ذلك يكون تاريخ موت المفقود في الفقه الاسلامي هو تاريخ موت المفقود حقيقة اما في القانون اليمني فان تاريخ موت المفقود في هذه الحالة يكون في تاريخ صدور الحكم بثبوت موت المفقود وليس تاريخ موته حقيقة ، وبصدور الحكم بثبوت موت المفقود تنتهي حالة الفقدان حسبما هو مقرر في المادتين (116 و 117) أحوال شخصية السابق ذكرهما في الوجه السابق.
الوجه الرابع : اثار الحكم بثبوت موت المفقود : وتوصيتنا للمقنن اليمني :
سبق القول في الوجه السابق أن الحكم بثبوت موت المفقود يصدر بعد ان يقدم المدعي بموت المفقود الادلة الشرعية على موت المفقود حقيقة في تاريخ معين وفي مكان معين ، وفي ضوء ذلك يصدر القاضي الحكم بثبوت موت المفقود وليس الحكم بإعتبار المفقود ميتًا.
فاذا اصدر القاضي الحكم بثبوت موت المفقود فإن زوجة المفقود تعتد عدة الوفاة من تاريخ صدور الحكم بثبوت موت المفقود وليس من تاريخ واقعة الموت التي قد كانت سابقة للحكم بوقت طويل، فلم يبلغها وفاة زوجها الا بهذا الحكم ، فلاتعتد زوجه المفقود من تاريخ واقعة موت المفقود، اما بالنسبة لتحديد ورثة المفقود ومورثيه فانهم يتحددوا من تاريخ واقعة موت المفقود وليس تاريخ الحكم بثبوت موت المفقود عند غالبية الفقه الاسلامي طالما أن واقعة موت المفقود قد تم اثباتها عن طريق ادلة شرعية دلت على موت المفقود حقيقة وليس حكما ، فالميراث يتحدد بناء على ثبوت واقعة الموت حقيقة ، فيعامل المفقود في هذه الحالة معاملة غير المفقود.
اما قانون الاحوال الشخصية اليمني سامحه الله فالظاهر من نصوصه ذات العلاقة إلى انه لايفرق بين الموت الحقيقي والموت الحكمة للمفقود ، فقد قرر لهما حكما واحدا ، وفي هذا المعنى نصت المادة (119) احوال شخصية على أن (يعتبر يوم صدور الحكم بموت المفقود تاريخا لوفاته)، فوفقا لهذا النص فإن كافة الآثار المترتبة على الحكم بموت المفقود تكون من تاريخ الحكم بموت المفقود بما في ذلك تحديد ورثة المفقود ومورثيه .
وفي السياق ذاته نصت المادة (300) احوال شخصية على أنه (لا إستحقاق لاحد في تركة المورث إلا بعد تحقق وفاته أو صدور حكم من القضاء بإعتباره ميتًا مع مراعاة حياة الوارث عند الوفاة حقيقة او حكما) ، ومع ذلك فان هناك اتجاه في اليمن يذهب إلى أن هذا النص قد فرق بين الموت الحقيقي والحكمي للمفقود حيث يفهم من هذا النص انه إذا ثبتت وفاة المفقود حقيقة بادلة شرعية قبل تاريخ صدور الحكم بثبوت موته فان العبرة عند تحديد ورثته وتحديد مورثيه الذين يرثهم نكون بتاريخ وفاته الثابت حقيقة وليس بتاريخ صدور الحكم بثبوت الوفاة، سيما ان الفقه الاسلامي يفرق بين ثبوت موت المورث حقيقة بموجب ادلة شرعية ففي هذه الحالة يتحدد ورثة المفقود ومورثيه بتاريخ واقعة موت المفقود التي تم اثباتها ، اما إذا كان اثبات وفاة المورث قد تم بموجب إجتهاد القاضي فان العبرة بتاريخ صدور حكم القاضي.
ولذلك : فإننا نوصي المقنن اليمني بحسم الجدل بشان هذا الموضوع بنص واضح.
الوجه الخامس : الموت الحكمي للمفقود:
نصت المادة (119) احوال شخصية على أن (يعتبر يوم صدور الحكم بموت المفقود تاريخا لوفاته)، فالموت الحكمي للمفقود: هو الذي يتقرر بموجب الحكم الصادر من القاضي المختص بعد إنقضاء مدة الفقدان (سنتان/ أربع سنوات) فإذا انقضت سنتان من تاريخ إعلان فقدان الشخص في ظروف يغلب عليها الهلاك وقام صاحب الصفة والمصلحة برفع دعوى بذلك أمام القضاء واستطاع المدعي إثبات صحة دعواه فإن القاضي يصدر حكمه بإعتبار المفقود ميتاً حكماً وليس حقيقة، وكذلك الحال بالنسبة للمفقود في ظروف لا يغلب فيها الهلاك إذا انقضت أربع سنوات من تاريخ ورود آخر خبر عن المفقود، وفي الحالتين لا يرتب الحكم بإعتبار المفقود ميتًا آثاره إلا من تاريخ صدور الحكم باعتباره كذلك، وتطبيقاً لذلك تعتد زوجة المفقود عدة االوفاة من تاريخ النطق بالحكم ، وتكون عدتها عدة المتوفي عنها زوجها (أربعة أشهر وعشرا) ، وكذا يتحدد ورثة المفقود ومورثيه من تاريخ صدور الحكم بإعتباره ميتًا، والله أعلم.