وجوب تحري القاضي عن مصير المفقود
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
قضايا المفقودين في اليمن لها اشكالياتها التي تختلف من قضية الى اخرى، ولفقدان الأشخاص اثار شرعية وقانونية على المفقود وعلى زوجته وورثته بل على محيطه ومجتمعه، ولذلك ينبغي ان يبنى الحكم القضائي بفقدان الشخص على بيانات ومعلومات وافادات من الجهات الرسمية المختصة التي تقدم بيانات موثوقة تستطيع المحكمة الاطمئنان لها والاستناد اليها في الحكم بفقدان الشخص ؛لان اطراف الخصومة في دعاوى المفقودين تكون مصالحهم متعارضة كما انهم يهتمون بمصالحهم الخاصة دون مراعاة لمصلحة المفقود والمصالح العامة حيث يقدمون بيانات لا تطمئن المحكمة اليها لاسيما ان النيابة العامة في اليمن لاتتدخل في قضايا المفقودين بخلاف ماهو متبع في الدول المختلفة اضافة الى انه لاتوجد في اليمن جهة معينة برعاية ومتابعة شئون المفقودين يمكن الرجوع اليها لمعرفة المعلومات والبيانات الحديثة عن مصير المفقودين؛ ومع ذلك فقد قرر قانون الاحوال الشخصية صراحة وجوب قيام بالتحري والبحث للتاكد عن مصير المفقود والتاكد من صحة البيانات والمستندات التي يقدمها الخصوم؛ولهذه الغاية يقوم القاضي بمخاطبة الجهات المعنية بشئون المفقودين ومنها وزارة الخارجية حسبما قرر الحكم محل تعليقنا وهو الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 13/3/2010م في الطعن الشخصي رقم (37443) لسنة 1430هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان شخصاً قام برفع دعوى أمام المحكمة الابتدائية ادعى فيها ان عمه قد هاجر من اليمن قبل 85 سنة الى جهة غير معلومة وانقطعت اخباره فلم تعلم حياته أو موته وانه بعد مضي هذه المدة يكون عمه في حكم الميت، وطلب المدعي في دعواه الحكم بموت عمه المفقود وقسمة تركته التي بحوزة المدعى عليهم ابناء عمه الاخر غير المفقود؛ فرد المدعى عليهم بان عمهم المدعى فقدانه ليس مفقوداً بل ما زال حياً يرزق في مدينة اسمرا عاصمة ارتيريا وان له ورثة يرثونه؛ فله ولدان قد حضرا الى اليمن وحصلا على الجنسية اليمنية وله بنت متزوجة تقيم في السعودية، وقدم المدعى عليهم مستندات حصول اولاد المفقود على الجنسية وكذلك صورة من جواز بنت المفقود المقيمة في السعودية، ومن جهته قدم المدعي مستندات تدل على ان الوثائق المقدمة من المدعى عليهم لا علاقة لها بالمفقود وان المفقود ليس له اولاد مطلقاً وان تلك الوثائق تخص اشخاص اخرين من ابناء ابناء عم المفقود فليسوا اولاد المفقود، وبعد ان سارت المحكمة الابتدائية في اجراءات نظر القضية توصلت الى الحكم (بعدم قبول الدعوى فاللازم على المدعي القنوع لعدم ثبوت دعواه بل ان هناك قرائن تدل على ان المدعى فقدانه لا زال حياً مغترباً في دولة ارتيريا وان له من يرثه حسب المستندات المقدمة من المدعى عليهم) فلم يقبل المدعي بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه وارفق باستئنافه المستندات التي تناقض المستندات التي استند اليها الحكم الابتدائي، فقبلت الشعبة الشخصية الاستئناف وقضت بإلغاء الحكم الابتدائي واعتبار المفقود متوفياً حكماً وقسمة تركته بين ورثته، فلم يقبل المدعى عليهم بالحكم الاستئنافي حيث قاموا بالطعن فيه بالنقض، فقبلت الدائرة الشخصية الطعن وقضت بنقض الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (حيث تبين من خلال الاطلاع على أوراق القضية عدم التحري والبحث بجدية عن حقيقة حياة المفقود من عدمها فاذا تحقق للمحكمة حياة المفقود او وفاته كان ينبغي التحقق هل له اولاد حسبما يفيد الطاعنون ؛فالبحث في هذه الموضوع في العصر الحاضر قد اصبح قريب المنال لتوفر وسائل الاتصالات ووجود السفارات اليمنية في كل دولة، ولذلك فاللازم الرجوع الى وزارة الخارجية للبحث عن المفقود بواسطة السفارة اليمنية في ارتيريا ؛ الامر الذي يلزم معه نقض الحكم الاستئنافي وإرجاع ملف القضية الى المحكمة المختصة للاستيفاء بحسب ما اشرنا اليه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية:
الوجه الأول : وجوب تحري القاضي وتأكده من مصير المفقود قبل الحكم بموت المفقود :
أوجب القانون على
القاضي نفسه ان يبحث ويتحرى عن مصير المفقود قبل ان يحكم بموت المفقود حكما؛ً وهذا
الواجب يقع على عاتق القاضي حسبما صرح القانون حيث نصت المادة (118) أحوال شخصية
على انه (على القاضي في جميع الاحوال ان يبحث عن المفقود بكل الوسائل للوصول الى
معرفة ما اذا كان حياً أو ميتاً قبل ان يحكم بوفاته) وهذا النص هو الاساس القانوني
للحكم محل تعليقنا حينما قرر نقض الحكم الاستئنافي الذي لم يرد في وقائعه ما يدل
على ان المحكمة الاستئنافية او الابتدائية قد قامت بالبحث والتحري عن مصير المفقود
الذي أوجبه القانون، ولا ريب ان وجوب تحري وبحث القاضي عن مصير المفقود قبل الحكم
بموته يستند الى اعتبارات كثيرة منها الاثار الشرعية والقانونية البالغة الخطورة
المترتبة على الحكم بموت المفقود مثل التفريق بينه وبين زوجته واعتبار امواله
تركة يتم تقسيمها على ورثته وانتهاء
شخصيته وذمته المالية وتبعاً لذلك انتهاء حقوقه وواجباته والتزاماته، ومما يجدر
ذكره انه بمقتضى المادة (118) احوال شخصية فان القاضي يجب عليه التأكد أو التحري
سواء طلب الخصوم ذلك أو لم يطلبوا ذلك.
الوجه الثاني : كيفية تحري القاضي عن المفقود واجراءاته :
أوجب القانون على
القاضي ان يبحث عن المفقود بكل الوسائل لمعرفة مصير المفقود دون ان يبين النص
القانوني السابق ذكره كيفية ذلك البحث واجراءاته وليس ذلك عيباً في النص القانوني
حيث اتاح للقاضي السلطة التقديرية في اتخاذ الاجراءات المناسبة للبحث عن مصير
المفقود بحسب مقتضيات كل حالة على حدة لاختلاف الوسائل والاجراءات بحسب اختلاف كل
حالة من حالات الفقدان، وهذا مسلك حسن للقانون في هذه المسألة، ولذلك نجد ان الحكم
محل تعليقنا قد قضى بان البحث والتحري عن مصير المفقود المدعى بانه مغترب في
ارتيريا يتم عن طريق مخاطبة وزارة الخارجية التي تتولى مخاطبة السفارة اليمنية في
اسمرا للإفادة الرسمية عن مصير المفقود موضوع الدعوى وما اذا كان له ورثة، ولذلك
فان بعض القضاة يخاطبون مصلحة الجوازات والهجرة ووزارة المغتربين للإفادة عن مصير
المفقود في بعض القضايا التي يرون انه من المناسب مخاطبة تلك الجهات، كما ان بعض
القضاة وفي بعض حالات الفقدان يخاطبون السلطة المحلية (المديرية) للإفادة عن مصير
المفقود وما ان كانت اخباره قد انقطعت ولا تعلم حياته من موته لان اخبار المفقود
ترد الى المديرية التي ينتمي اليها أو يقيم فيها ؛ وفي هذه الحالة تقوم المديرية بمخاطبة عدل المحل أو شيخ القبيلة.
الوجه الثالث : الحجية القانونية للإفادات عن مصير المفقود :
عندما يقوم القاضي
بالتحري والتأكد من مصير المفقود فانه يقوم بمخاطبة جهات رسمية مختصة قانوناً
ولذلك فان المحررات التي تصدر من تلك الجهات وترد الى القاضي تكون محررات رسمية
يستطيع القاضي الركون اليها والاعتماد عليها، إضافة الى ان هذه المحررات عبارة عن
افادات ردا على مخاطبة القاضي؛ فهي افادات رسمية بشأن موضوع المفقود خاصة ولذلك
فلها دلالتها بخلاف المحررات الرسمية العامة في دلالتها لان هذه الافادات تكون
حديثة ومعاصرة للقضية التي ينظرها القاضي ؛ولذلك لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا لم
يثق بالمحررات المقدمة من الخصوم اطراف القضية لقدمها وتناقضهامع انها محررات
رسمية، كما ان الافادات التي ترد الى القاضي من الجهات الرسمية رداً على مخاطبة
القاضي اقل تعرضا لعبث الخصوم وتلاعبهم.
الوجه الرابع : تناقض المحررات بشأن مصير المفقود :
لاحظنا من خلال
مطالعة الحكم محل تعليقنا ان الخصوم قدموا امام القاضي محررات متناقضة بشأن مصير
المفقود كما انها اثارت الشك من حيث علاقتها بالشخص المدعى فقدانه وما اذا كانت
تلك الوثائق تخص المدعى فقدانه ام غيره، ولذلك قضى الحكم محل تعليقنا بوجوب مخاطبة
الجهات المعنية بما فيها وزارة الخارجية والسفارة للإفادة عن مصير المدعى فقدانه
وما اذا كان له ورثة، وبناءً على ذلك فان القاضي الذي ينظر في دعوى المفقود يستطيع
الاعتماد على افادات الجهات الرسمية عند تناقض المحررات أو القرائن بشأن مصير
المفقود.
الوجه الخامس : الوضعية القانونية لإعلان الجهات الرسمية المختلفة عن المفقودين:
تقع حروب وعمليات
عسكرية وزلازل وتفجيرات وانفجارات وقصف وانهيارات وانزلاقات وسقوط طائرات وغرق سفن
وغير ذلك ويترتب على هذه الحوادث قتلى
وجرحى ومفقودين حيث تقوم الجهات المعنية بعد وقوع هذه الحوادث تقوم بإعلان حالات
الوفيات والاصابات وفقدان الاشخاص حيث يتم
الاعلان الرسمي للجمهور بحالات الفقدان ؛فيرد في تلك الاعلانات : وقد نجم عن ذلك
استشهاد (4) وجرح (8) وفقدان (3) ، حيث تقوم الجهات المعنية بحصر الاشخاص الاحياء
الموجودين في الموقع العسكري أو مكان الحادث قبل وقوع الحادث؛وبعد وقوع الحادث يتم
حصرهم مرة اخرى فيتم الاعلان عن نتائج الحادث من القتلى والجرحى منهم بعد التعرف
عليهم والعدد المتبقي الذين لايتم العثور عليهم في موقع الحادث يتم الاعلان عن
فقدانهم أي انه لا تعلم حياتهم من مماتهم ( احكام المفقود ؛يوسف عطا محمد؛ص24 ) وعلى هذا الأساس فان التكييف القانوني
لإعلان الفقدان من اسمه فهو عبارة عن قرار الجهات المعنية باعتبار اولئك الاشخاص
مفقودين اي لاتعلم حياتهم او مماتهم فذلك
الاعلان لا يعني اعفاء القاضي من واجب التحري والتأكد من مصير المفقودين واموالهم
والتفاصيل اللازمة للحكم القضائي بموتهم، كما ان ذلك الإعلان لايغني عن صدور حكم قضائي بموتهم حتى تترتب
الاثار القانونية اللازمة وتستقر المراكز القانونية لزوجة وورثة المفقود بل
للمجتمع باسره.
الوجه السادس : وجوب تدخل النيابة في دعاوي المفقودين وتوصيتنا للجهات المختصة :
شئون المفقودين ليست
شأناً خاصاً بهم وبأقاربهم وانما شأن عام يهم الأمة باسرها ولذلك فان قوانين
العالم تجمع على وجوب تدخل النيابة العامة في دعاوى المفقودين لمواجهة أي تلاعب أو
انحراف من قبل الخصوم وكذا لغرض توفير البيانات والمعلومات بعد التحقيق والتحري
اللازم عن المفقودين لانها النيابة سلطة تحقيق تتوفر لديها الخبرات والامكانيات
اللازمة لاداء هذه المهمة على خير ما يرام اما في اليمن فان الحال يختلف فان تدخل
النيابة العامة في دعاوى المفقودين جوازي
وليس وجوبيً ولذلك فان النيابة في اليمن لا تتدخل مطلقاً في قضايا المفقودين مع انها
تنوب عن المجتمع ومع ان قضايا المفقودين شان عام لاسيما في الظروف السائدة في
اليمن في الوقت الحاضر، ولذلك فإننا نوصي : بإعادة النظر في النصوص القانونية في
قانون المرافعات وقانون الاحوال الشخصية للنص صراحة على وجوب تدخل النيابةالعامة
في دعاوى المفقودين.
الوجه السابع : وجوب استحداث وحدات في الجهات المعنية للاهتمام بشئون المفقودين :
موضوع المفقودين له
اهميته الدينية والوطنية والاخلاقية، وقد سبقت الاشارة الى اهمية هذا الموضوع،
واكثر ما في هذا الموضوع من أهمية هو تضارب البيانات والمعلومات والمستندات عن
أحوال ومصير المفقودين وشئونهم واموالهم واسرهم ؛ولذلك فان غالبية الدول قد انشأت
هيئات مستقلة لإدارة ورعاية شئون المفقودين ومتابعة قضاياهم ومتابعة وجمع البيانات
والمعلومات اللازمة عنهم وتقديمها رسمياً الى الجهات المختصة المختلفة في الدولة،
لان المعلومات والبيانات عن المفقودين تتجدد وتتغير بين الوقت والاخر فتظهر
معلومات وبيانات، ولان احوال ومصير المفقودين لا يمكن ان يظل ثابتاً غير متغير،
ولذلك فإننا نوصي الجهات المعنية مثل وزارة الدفاع ووزارة الداخلية ووزارة العدل
ووزارة المغتربين ووزارة الخارجية ووزارة حقوق الانسان ومجلس تنسيق جهود الاغاثة
باستحداث وحدات خاصة فيها للاهتمام بهذا الموضوع ومتابعته لدى الجهات المختصة
المختلفة حتى يمكن الرجوع اليها للاستفادة من المعلومات والبيانات المتوفرة لديها
عند النظر في دعاوى وقضايا المفقودين، والله اعلم.