تحديد المورث لنسبة السعي في المؤسسة التجارية الفردية
لأسباب ليست محل تعليقنا فإن أغلب المؤسسات التجارية القائمة في اليمن تتخذ شكل المؤسسة الفردية التي يتم تسجيلها لدى الوزارة المختصة باسم مالك المؤسسة أو صاحبها، فتكون المؤسسة التجارية الفردية ملكاً خالصاً وخاصاً بمالكها ومؤسسها، وبعد حين ينخرط أبناء وأقارب صاحب المؤسسة التجارية في المساهمة في أعمال المؤسسة ، ويساهم هؤلاء الأولاد والأقارب في تنمية وزيادة أموال المؤسسة وزيادة أرباحها وتوسع نشاطها وتطوير اعمالها ، ويختلف مردود أو عائد سعي وعمل وجهد الاولاد والاقارب في المؤسسة التجارية الفردية بحسب الجهود والمساعي التي يبذلها الاولاد والاقارب وبحسب المردود المالي والنماء والتطور الذي تحققه جهود ومساعي هؤلاء الأقارب (الورثة لاحقاً) في المؤسسة التجارية لمورثهم.
فإذا كان صاحب المؤسسة (المورث) قد حدد نسب معينة من حصص المؤسسة لكل وارث بحسب المردود الذي حققه نشاطه وجهوده في المؤسسة ، فإن تلك النسبة تكون مقابل السعي الذي بذله الوارث اثناء حياة مورثه .
اما إذا كان صاحب المؤسسة قد قام بمنح الورثة نسب من حصص المؤسسة من غير أن يقوم هؤلاء (بالسعي) في نشاط المؤسسة وتطوير اعمالها وتعظيم أرباحها فإن ذلك يكون من قبيل الهبة أو الوصية وليس مقابل السعي.
ولاشك أن حكم (السعي) يختلف عن حكم (الوصية) أو الهبة، ومن جانب آخر فإن تحديد المورث نسب السعي كحصص في المؤسسة التجارية ملزم أثناء حياة المورث وبعد وفاته ، لان ذلك بمثابة اجر مستحق للوارث الساعي،
حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 30-1-2012م في الطعن رقم (43792)، المسبوق بالحكم الاستئنافي الذي قضى بأنه:
(لا يجوز للوارث أن ينكر ما أقر به مورثه وتم تنفيذه في حياة مورثهم (والدهم) والذي تضمن حضور جميع الورثة أمام قلم التوثيق حيث اقروا بأنهم قد قبلوا بتوزيع الأرباح وفقاً للحصص المحددة من والدهم مضاف إليها نصيب كل واحد من الحصص الخاصة بوالدهم والتي سيتم توزيعها وفقاً للفرائض الشرعية، وهذا الإقرار يؤكد صحة المحرر الصادر من والدهم المؤرخ.... الذي تضمن تحديد نسبة السعي المعين لكل واحد منهم مقابل مابذله من جهد)،
وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا انه:
(اما من حيث الموضوع فقد ناقشت الدائرة أسباب الطعن وما ورد في الرد عليها ،فوجدت الدائرة: أن نعي الطاعنين ماهو إلا أقوال مرسلة، إذ أن الحكم محل الطعن قد ناقش تلك المناعي مناقشة صحيحة وفقاً للقانون، فما توصل إليه الحكم المطعون فيه موافق للشرع والقانون ، مما يستوجب رفض الطعن موضوعاً)،
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: الوضعية القانونية للمؤسسة التجارية الفردية في اليمن:
خشية من إشكاليات الشراكة ومضارها ولعدم وجود نظام شركة الشخص الواحد في القانون اليمني يقوم غالبية التجار اليمنيين بإنشاء مؤسسات تجارية فردية كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وتباشر هذه المؤسسات الفردية أعمالها التجارية مثلها في ذلك مثل الشركات النظامية (المحدودة/ التضامن/ المساهمة/التوصية) ،لأن القانون اليمني لا يسمح للتاجر بإنشاء شركة الشخص الواحد المقررة في قوانين عدة دول، ولذلك يتم تسجيل المؤسسة التجارية الفردية لدى الوزارة المختصة وذلك باسم مالك المؤسسة ، وعلى أساس أنها مملوكة له بالكامل، ويكون صاحب هذه المؤسسة مسئولاً عن مؤسسته الفردية مسئولية تضامنية في سائر أمواله ، حسبما هو مقرر في قانون الشركات اليمني، وفي بعض الحالات قد يقوم صاحب المؤسسة ومالكها بإبرام عقد شراكة في تلك المؤسسة ، في حين تظل تلك المؤسسة مسجلة باسمه، كما قد يقوم مالك المؤسسة وصاحبها بتوزيع حصصها على ورثته المحتملين أثناء حياته بحسب الفرائض الشرعية، وقد يكتفي صاحب المؤسسة اثناء حياته بمنح أولاده أو اقاربه العاملين معه في المؤسسة نسب محددة من حصص المؤسسة مقابل السعي والجهد الذي قاموا به في سبيل تنمية المؤسسة وزيادة أرباحها وتوسيع وتطوير نشاطها.
الوجه الثاني: معنى (سعي) الورثة في المؤسسة التجارية الفردية:
كلمة (السعي) الشائعة في اليمن عربية فصحى مستفادة من قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، وعلى هذا الأساس فإن معنى (السعي) هو: الجهد الذي بذله الوارث الساعي في سبيل زيادة أرباح المؤسسة وتوسيع وتطوير نشاطها، ويتم إحتساب ما يستحقه الساعي على أساس المردود الذي حققه الوارث الساعي لحساب المؤسسة، ويتم تقدير نسبة السعي على أساس نسبة من حصص المؤسسة.
وقد يقوم المورث نفسه صاحب المؤسسة ومالكها أثناء حياته بتقدير نسبة السعي مثلما أشار الحكم محل تعليقنا، وقد يتم تقدير نسبة السعي المشار إليها من قبل خبراء عدول من أهل الإختصاص والخبرة في مجال نشاط المؤسسة.
الوجه الثالث: مدى خبرة المورث في تحديد نسب السعي للورثة:
بإعتبار المؤرث مالك المؤسسة الفردية التي سعى لحسابها الورثة جميعاً أو بعضهم فإن المؤرث هو الأعرف بالجهد أو السعي المبذول من كل وارث لحساب المؤسسة والعائد او المردود الذي حصلت عليه المؤسسة من سعي كل وارث، لذلك فإن المؤرث يكون خبير الخبراء في تقدير وتحديد نسب السعي لكل وارث من الورثة الذين سعوا لحساب المؤسسة.
والغالب ان المورث صاحب المؤسسة المستفيدة من السعي هو اعدل الناس في تقديره للسعي ، لانه الاكثر عدلا وشفقة على اولاده واقاربه الذين سعوا لحساب مؤسسته ، غير إنه لا تخلوا في بعض تقديرات المورث من المجازفة أو المحاباة وإيثار بعض الورثة على الآخرين منهم.
الوجه الرابع: قبول الورثة بتقدير المؤرث لسعيهم أثناء حياة المؤرث ملزم لورثته من بعده:
قضى الحكم محل تعليقنا بأن المؤرث صاحب المؤسسة التجارية إذا قام أثناء حياته بتقدير وتحديد سعي كل وارث في المؤسسة وقبل الورثة ذلك اثناء حياة مورثهم فأنه لا يجوز لهم بعدئذٍ الطعن أو التشكيك في صحة ذلك التقدير، وقد يكون قبول الورثة صريحاً بتصريحهم لفظاً أو كتابة بالقبول، وقد يكون قبول الورثة ضمنيا ، وذلك بتنفيذ ما حدده مورثهم لكل واحد منهم من سعي .
الوجه الخامس: تقسيم المؤرث لحصص المؤسسة التجارية بحسب الفرائض الشرعية أثناء حياته : وتوصيتنا للمقنن اليمني:
كان جانب من الجدل الذي أشار إليه الحكم محل تعليقنا قد اتجه إلى هذه الوجهة، فقد كان قسم من الورثة ينازعوا في قسمة مؤرثهم لحصص المؤسسة على الورثة أثناء حياته وان ذلك لا يكون قسمة إلا بعد إجازة الورثة لهذه القسمة بعد وفاة مورثهم وفقاً لقانون الأحوال الشخصية اليمني، غير ان الحكم محل تعليقنا لم يستجب لهذا النعي ، لأن الورثة جميعهم قد حضروا أثناء حياة مورثهم أمام قلم التوثيق واقروا بصحة وسلامة الحصص التي حددها لهم مورثهم أثناء حياته وأنهم سوف يتقسمون الحصص التي ظلت ملكاً لمورثهم بعد وفاته بحسب الفرائض الشرعية، إضافة إلى أن الورثة قد قبضوا تلك الحصص أثناء حياة مورثهم وقبضوا ارباحها واستمروا على هذه الحال لمدة من الزمن، علاوة على أن قسمة المؤسسة التجارية الفردية العملاقة بعد وفاة المورث يعني تصفيتها وانهائها ، وفي ذلك ضرر بالورثة الذين صاروا شركاء فيها ، بل أن في ذلك ضرر بالإقتصاد الوطني برمته سيما في اليمن ، لان اغلب الشركات والمؤسسات التجارية اليمنية شركات ومؤسسات عائلية عرضة للتصفية بعد وفاة ملاكها أو الشركاء إذا لم تتم حوكمتها أثناء حياة المورث وتحويل الورثة المحتملين إلى شركاء أثناء حياة المورث لضمان إستمرار نشاطها بعد وفاة المورث.
ولذلك فإننا نوصي المقنن اليمني : باستحداث نظام شركة الشخص الواحد في قانون الشركات إضافة إلى استحداث نص في قانون الشركات يجيز للشركاء في الشركات العائلية وملاك الموسسات التجارية الفردية تقسيم الحصص اثناء حياتهم بين ورثتهم الشرعيين بحسب الفرائض الشرعية، وتحويل الورثة المحتملين الى شركاء في تلك الشركات والمؤسسات حتى لاتنهار تلك الشركات والمؤسسات بعد وفاة المورث فينهار معها الاقتصاد القومي للدولة، لأن اغلب النشاط الاقتصادي في اليمن يتم بواسطة الشركات والمؤسسات العائلية.
الوجه السادس: القضاء المختص بقسمة المؤسسة التجارية الفردية:
من المعروف في اليمن ان دعاوى القسمة من مسائل الأحوال الشخصية التي يختص بنظرها القضاء الشخصي، ولذلك عندما تكون المؤسسة الفردية ضمن أموال التركة فإن القضاء الشخصي هو المختص بنظر القسمة.
ولذلك فقد لاحظنا أن الحكم محل تعليقنا قد صدر من الدائرة الشخصية وليس من الدائرة التجارية، علما بان هناك قوانين في الدول كنظام الاحوال الشخصية في السعودية يعتمد اجراءات القسمة النوعية المختلفة الذي تتعدد فيه قسمة التركة إلى عدة قسمات نوعية بحسب نوع اموال التركة المطلوب قسمتها ، وبموجب هذا النظام تتم قسمة الاسهم في الشركات بصفة مستقلة بنظر الجهة ألمختصة كوزارة الاقتصاد.
الوجه السابع: كيفية قسمة المؤسسة التجارية الفردية في اليمن :
من محاسن الحكم محل تعليقنا أنه لم يقض بتصفية المؤسسة التجارية الفردية بعد وفاة المورث مالكها ، وإنما قضى بوجوب الوقوف على الحصص المتفق عليها في حياة المورث وكذا الحصص التي حددها المورث لبعض الورثة مقابل سعيهم لحساب المؤسسة ، في حين أن المفهوم السائد لدى غالبية القسامين في اليمن أن قسمة المؤسسة التجارية الفردية يتم عن طريق تصفية المؤسسة وقسمة ناتج التصفية على الورثة بحسب الفرائض الشرعية، وبسبب هذا المفهوم العقيم فقد تم تقويض مؤسسات تجارية يمنية كانت عملاقة وغابت أسماء تجارية كانت لامعة في الوسط التجاري اليمني.
الوجه الثامن: توصية للجهات المعنية في اليمن بشأن قسمة المؤسسات التجارية:
ليس خافياً على أحد أن بعض المؤسسات الفردية التجارية في اليمن تضاهي من حيث نشاطها وأهميتها كبريات الشركات في اليمن، ولذلك فإن وجودها واستمرارها ضروري لإرتباطها بالإقتصاد الوطني ككل، ولذلك يجب على الجهات المعنية في الدولة أن تسعى في سبيل حوكمة هذه المؤسسات التجارية أثناء حياة صاحبها وتقديم الدعم الفني القانوني لها لتحويل الورثة المحتملين فيها إلى شركاء فيها أثناء حياة المؤرث ، والنص في القانون المدني ضمن أحكام القسمة على أن هذه المؤسسات لا تخضع لإجراءات القسمة من حيث تصفيتها.
الوجه التاسع: التكييف الشرعي والقانوني لتحديد وتقدير المؤرث لنسبة السعي والحصص في المؤسسة الفردية:
إذا تولى المؤرث أثناء حياته تحديد وتقدير نسب السعي كحصص في المؤسسة أثناء حياته ، فإن ذلك يكون من قبيل دفع المؤرث إجرة السعي إلى السعادة من ورثته، اما إذا كان المورث قد قام اثناء حياته بقسمة حصص المؤسسة على جميع الورثة أثناء حياته فإن ذلك من قبيل القسمة أثناء حياة المؤرث، علماً بأن المؤرث قد يقوم بقسمة الحصص كلها على ورثته بحسب الفرائض الشرعية ، وقد يكتفي بقسمة بعضها مع احتفاظه ببعضها الآخر، مثلما حدث في القضية التي اشار إليها الحكم محل تعليقنا.
ومن المعروف ان قسمة المؤرث لحصص مؤسسته اثناء حياته على ورثته المحتملين تكون من قبيل الهبة لوارث ، وتسري عليها احكام الوصية لوارث ، ووفقا لذلك يجب على المورث المساواة بين ورثته بحسب الفرائض الشرعية ، ولا تكون هذه القسمة جائزة إلا إذا اجازها الورثة بعد وفاة مورثهم ، حسبما هو مقرر في قانون الاحوال الشخصية اليمني، والله اعلم.
![]() |
تحديد المورث لنسبة السعي في المؤسسة التجارية الفردية |