لا تجوز مخالفة عادة السقي من عين الماء الجارية

لا تجوز مخالفة عادة السقي من عين الماء الجارية

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.

المجتمع اليمني مجتمع زراعي منظم عماد نشاطه الإقتصادي هو الزراعة منذ القدم، وقد تعارف الفلاحون اليمنيون على عادات معينة ومحددة في سقي حقولهم ومزارعهم من ماء العيون الجارية وقاموا بتوزيع حصص السقي إلى حصص وساعات وايام معلومة بحسب نوع الغروس والمزروعات ومساحات الأراضي المطلوب سقيها بماء العين ،وقد استقرت هذه العادات في معاملات الفلاحين لمدة طويلة لأن هذه العادات نابعة من احتياجات الفلاحين الفعلية وملبية لها، وقد نجحت هذه العادات في تلبية احتياجات المجتمعات الزراعية المحلية، وإن اختلفت عادات السقي من ماء العيون من منطقة إلى أخرى إلا ان هذه العادات تعبر عن إحتياجات المنطقة التي استقرت فيها.

وتحترم الشريعة الإسلامية اعراف وعادات الناس التي لا تخالف الشريعة، وللدلالة على ذلك فقد اتفق الفقه الإسلامي على تقرير القاعدة الفقهية الجامعة: (العادة محكمة)، وفي هذا الإتجاه ذهب القانون المدني اليمني المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء.

ولأن عادات السقي من عيون الماء الجاري (الغيول) بلهجة اليمن قد استقرت ردحاً من الزمن بين اسلافنا ، ولأن هذه العادات معتبرة في الشريعة والقانون، فلا يجوز للقاضي أن يحكم على خلافها، كالحكم بإعادة توزيع سقي الماء من العيون ولو كان الحكم قد قضى بإعادة توزيع اوقات السقي بحسب مساحات الأراضي طالما ان هذا القضاء يخالف عادة السقي التي اعتادها الناس ردحا من الزمن، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 28-3-2012م في الطعن رقم (44230)، المسبوق بالحكم الاستئنافي الذي قضى بتعديل الحكم الابتدائي حتى يكون منطوقه (توقف الطرفين على ما تضمنه المرقوم المؤرخ.... بين أسلاف الطرفين، وعلى أن يوزع السقي بحسب المراقيم السابقة وبحسب العادة والعرف المتبع)، وقد كان الحكم الابتدائي قد قضى بتوزيع الماء بحسب مساحات الأراضي، وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: (فما اثاره الطاعن متعلق بوقائع النزاع ، وقد ناقش ذلك الحكم الاستئنافي، ومن خلال ذلك توصل إلى نتيجة صحيحة موافقة للشرع والقانون، مما يستوجب رفض الطعن)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: نظرة في عادات السقي من عيون الماء في اليمن:

بفضل الله تعالى كل المناطق الزراعية في اليمن تجري فيها مياه العيون بعضها طوال العام وبعضها تجري فيها مياه العيون في موسم الأمطار، ويعتمد اليمنيون على ماء هذه العيون في مياه الشرب والفائض منها يتم سقي المزروعات منه، ويتم سقي المزروعات في المناطق اليمنية المختلفة بحسب العادة المستقرة في كل منطقة وإن اختلفت عادات السقي من ماء العيون باختلاف المناطق الزراعية اليمنية إلا أن هناك قواسم مشتركة بين هذه العادات، ومن أهم هذه القواسم: مساحات الأراضي إذ تراعي عادات السقي المساحات المختلفة لملاك أو مستأجري الأراضي الزراعية فكلما زادت المساحة زاد نصيبها من السقي شريطة أن تكون المزروعات فيها متماثلة ، وللتدليل على ذلك فإن الفلاحين يكتفوا بذكر الفترة المخصصة للسقي من ماء العين للتدليل على المساحات الكبيرة التي يمتلكها بعض الأشخاص في الوادي ، فيقال: فلان له ثلاثة أيام من الماء أو اكثر، كذلك تراعي عادات السقي نوع المزروعات وعمرها ومدى إحتياجها إلى الماء، وبحسب ذلك يتم توزيع ماء العين بين المزارع المحيطة بالعين مثل نصف يوم لمزرعة فلان ويوم لفلان وربع يوم لفلان وهكذا.

وفي بعض الحالات يتم تدوين جدول توزيع ماء العين للسقي في وثائق مكتوبة تسمى في بعض المناطق بالمرقوم مثلما ورد في الحكم محل تعليقنا، وفي بعض الحالات لا يتم تدوين الاوقات المخصصة للسقي إلا انها تكون معلومة ومفهومة عند اهل الوادي أو المنطقة الزراعية يتناقلها الاهالي شفاهة خلف عن سلف، بيد انه في كل الأحوال تكون هذه العادات أو الأسلاف التي يتم على اساسها توزيع اوقات السقي ملزمة لجميع اهل الوادي أو المنطقة الزراعية، ولذلك يحرص أهل المناطق الزراعية المختلفة على العمل بتلك العادات وإحترام تنفيذها .

وكلمة (المرقوم) الواردة في الحكم محل تعليقنا عربية فصحى ، لأن الرقم في لغة العرب الكتابة، وكذلك الحال بالنسبة لكلمة الأسلاف أو السلف التي يستعملها اليمنيون للتعبير عن العادة، فهذه الكلمة عربية فصحى يتم استعمالها للتأكيد على ان العادة قد استقرت منذ عصر أسلاف الناس وهم المتقدمون في الوادي أو المنطقة حتى خلف الاسلاف وهم الناس في الوقت المعاصر.

الوجه الثاني: موقف الشريعة الإسلامية والقانون اليمني من العادات الجارية في المجتمع بما فيها عادات السقي من العيون:

من المؤكد أن العرف مصدر من المصادر الإجمالية في الشريعة الإسلامية التي تستنبط منها الاحكام التفصلية ، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)، وبناء على هذا الحديث فقد قرر الفقهاء قواعد عدة تقرر العمل بالأعراف والعادات وتوجب على الأفراد العمل بمقتضاها ومن ذلك قاعدة: (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، وكذا قاعدة: (العادة محكمة).

والعادة والعرف معتبران في القانون اليمني المستمد من الشريعة الإسلامية، وفي هذا المعنى فقد نصت المادة (12) مدني على أن (الأصل في المعاملات وأنواعها وكيفيتها ما اقره الشرع ثم ما جرى به عرف الناس وتراضوا عليه مالم يخالف الشرع من تحليل حرام او تحريم حلال).

الوجه الثالث: مدى إلزامية عادة السقي من ماء العيون الجارية:

سبق القول ان الفلاحين في المناطق اليمنية المختلفة قد اعتادوا وتعارفوا وتراضوا على توزيع ماء العيون لسقي مزارعهم وخصصوا لكل مزرعة وقت معلوم ومعتاد بينهم، وبما أن الشريعة الإسلامية قد اوجبت العمل بالعرف غير المخالف للشريعة وجعلت العرف الحسن من المصادر الاجمالية الذي تستنبط منه الاحكام التفصيلية بما في ذلك احكام العرف المحلي التي تحدد الاوقات أو الساعات المعتاد عليها لسقي المزارع، وبما أن القانون المدني اليمني قد نص على العمل بما جرى به العرف بين الناس، لذلك فإنه يجب العمل بحسب ما جرى به عرف الناس وعوائدهم في سقي المزروعات من ماء العيون، وإنه يجب العمل بحسب العرف والعادة في توزيع ماء العيون بين المزارع، وإنه يجب أن تكون أحكام القضاء موافقة لما استقر عليه العرف والعادة في السقي، وإنه لا يجوز لبعض الأفراد أن يطالبوا بإعادة توزيع ماء العيون على خلاف ما استقر عليه العرف والعادة، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.

لا تجوز مخالفة عادة السقي من عين الماء الجارية
لا تجوز مخالفة عادة السقي من عين الماء الجارية
مقال ذات صلة: