الإثبات بالصور الجوية في المنازعات العقارية

الإثبات بالصور الجوية في المنازعات العقارية

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.

منذ عام 1983م والصور الجوية لكافة الأراضي والعقارات في اليمن موجودة ، منذ ان كانت هناك هيئة اسمها هيئة المساحة والسجل العقاري ،اضافة إلى ان الصور الجوية لكافة اراضي وعقارات اليمن منشورة ومتاحة عن طريق موقع (قوقل) ، إذ يسهل إستخراج هذه الصور ورقيا ونقلها إلى الهاتف والحاسوب وتكبيرها لاظهار كافة التفاصيل التي تبين بدقة متناهية تفاصيل الأرض وحالتها من قبل النزاع وبعده ، فالصور موجودة لفترات متعاقبة ومختلفة تصل إلى اكثر من ستين سنة في بعض الدول وخمسة واربعين سنة في اليمن، وتبين هذه الصور الجوية التطورات والتغيرات والابنية التي تطرأ على الأرض خلال الفترات المتعاقبة بما في ذلك توسع الأرض على حساب رهقها أو دمجها وخلطها مع أراضي أخرى، وكذا تبين الصور الأبنية والمنشآت التي كانت قائمة على الأرض لفترات سابقة، والأهم من هذا وذاك أن الصور الجوية للأراضي والعقارات وسيلة إثبات واقعية ومحايدة، فهي عبارة عن تصوير فوتوغرافي ملون للأرض كماهي خلال فترات متعاقبة قبل النزاع واثناء النزاع وبعده ، فضلاً عن أن الصور الجوية توفر البيانات الدقيقة والتفصيلية عن الأراضي المتنازع عليها لفترات متعاقبة، فهذه الصور قابلة للتكبير، ولذلك يمكن تكبير صورة الجزء محل النزاع في الأرض كحدود الأرض، كما أن هذه الصور غير قابلة للتلاعب بها أو من المستحيل التلاعب بها، فضلاً عن أن الحصول على هذه الصور الجوية متاح للكافة ليس فيه أدنى كلفة على الخصوم، والصور الجوية من السهل الحصول عليها ، كما انها رخيصة ، فضلا عن انها تقطع دابر (الإنتقال للمعاينة) وما تجره من تكاليف على الخصوم والعدالة وما تثيره من إشكاليات وشبهات.

 ولاهمية الصور الجوية في الاثبات فان قوانين الإثبات في دول العالم اجمع تنص صراحة على ان الصور الجوية حجة قاطعة في المنازعات العقارية غير قابلة لإثبات عكسها ولايجوز ان يعارضها اي دليل اخر مطلقا، ومن هذه القوانين تعديل قانون الاثبات الكويتي بموجب المرسوم بالقانون رقم (114) لسنة 1986 الكويتي، وقد نصت المادة (1) من ذلك المرسوم على أن (تعتبر المصورات الجوية التي اجرتها أو تجريها الدولة حجة على الكافة بما تدل عليه، ولا يجوز قبول دليل آخر يناقض هذه الحجية، وتقضي المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها) ، في حين نصت المادة (2) من هذا المرسوم على أن (تسري أحكام هذا القانون على جميع المنازعات القائمة مالم يكن قد صدر في موضوعها حكم قضائي نهائي)، هذه النصوص في القانون الكويتي وغيره قبل أكثر من أربعين سنة ، ونحن في اليمن لا زلنا حتى 2024م نتمسك (بالمعاينة) والانتقال لما فيها من عوائد وفوائد وإن كانت مضرة بالعدل والعدالة والأخلاق، ولاهمية ودقة الصور الجوية فانه ينبغي على محكمة الموضوع الإستعانة بالصور الجوية عند تطبيق المحررات العقارية على الأراضي المتنازع عليها؛

حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 12-8-2015م في الطعن رقم (56900)، وقد ورد ضمن أسباب ذلك الحكم:

(وحيث أن النزاع منحصر في تحديد مساحة واجهة الخمس اللبن المطلة على الشارع، ولذلك فاللازم معرفة موقع الخمس اللبن بالضبط ومعرفة حدودها المحكية في بصيرة شرائها من خلال تطبيق البصيرة على الواقع وذلك بالإستعانة بعدلين خبيرين بالمنطقة والاسترشاد بالصور الجوية للمنطقة وسماع شهود البصيرة وكاتبها بغية الحصول على الحقيقة)،

وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: ماهية الصور الجوية:

الصور الجوية: هي صور فوتغرافية ملونة دقيقة للارض كما هي ، يتم التقاط هذه الصور بواسطة كاميرات دقيقة مثبتة في الطائرات، وتوفر هذه الصور بيانات دقيقة وتفصيلية عن الأراضي المختلفة بما فيها الأراضي محل النزاع، وهذه الصور منشورة ويتم الحصول عليها من الهيئة العامة للاراضي في اليمن أو من موقع (قوقل)، وترصد هذه الصور التغيرات والتطورات والإختلافات والاحداثات التي تقع على الأرض المتنازع خلال اكثر من خمس واربعين سنة مضت، وتبين هذه الصور التفاصيل الدقيقة الموجودة في الأرض، وهذه الصور عبارة عن صور فوتوغرافية ملونة تبين التفاصيل الدقيقة الموجودة في الأرض كما هي خلال عدة فترات أو حقب ماضية حتى وقت إستخراجها، كما أنها قابلة لتكبير أي شيء صغير موجود على سطع الأرض المتنازع عليها ، كما أنها ترصد التطورات التي جرت على الأرض خلال الفترة المطلوبة.

 وإستخراج الصور الجوية من هيئة الأراضي أو من (قوقل) لا يكلف شيئاً ويتم إستخراجها عن طريق طباعتها ورقياً أو عن طريق نسخ إلكترونية يتم إرسالها إلى أي هاتف ويمكن عرضها عن طريق شاشات جهاز الهاتف الجوال أو عن طريق شاشات جهاز الحاسوب المنقول (لاب توب) بل على شاشات التلفزيون أو أية شاشات مرئية التي تجعل المشاهد لها كما لو أنه يتجول حقيقة في الأرض المطلوبة وافضل، وتسمح هذه الصور للمطالع برؤيتها والرجوع إليها مرات عدة لمعرفة وتشخيص محل النزاع في الأرض المقصودة، ويستطيع القاضي أن يستعرض الصور الجوية المختلفة للأرض محل النزاع عن طريق شاشة إلكترونية أو عن طريق النسخ الورقية أو عن طريق شاشة الهاتف، ويستطيع القاضي أن يناقش الخصوم عن التفاصيل المختلفة للأرض محل النزاع من خلال إستعراض الصور الجوية المختلفة للأرض محل النزاع وكذا مناقشة الخبراء العدول للتروية من خلال إستعراض الصور الجوية المختلفة أثناء جلسة المحكمة دون حاجة لانتقال المحكمة الى الارض ذاتها ، وتتم هذه الطريقة بدقة وسهولة من غير حاجة إلى الإنتقال إلى الأرض محل النزاع وتطبيق المستندات عليها والسماع لعدول التروية، ومن خلال دراسة الصور الجوية الملونة والمكبرة يستطيع القاضي الإحاطة التامة بتفاصيل النزاع بشأن الأرض محل النزاع من غير حاجة إلى إنتقال أو معاينة.

الوجه الثاني: إستحالة التلاعب بالصور الجوية:

سبق القول أن الصور الجوية عبارة عن صور فوتوغرافية حقيقية للأرض محل النزاع وأنها منشورة وموجودة في هيئة الاراضي وفي موقع (قوقل) ، وأنه بالإمكان إستخراج نسخ ورقية أو إلكترونية منها، ولذلك فإن الخصم لا يستطيع التلاعب ، لأنه من الممكن ومن السهل جداً إكتشاف هذا التلاعب عن طريق الرجوع إلى الصورة الجوية المنشورة في الهيئة او موقع (قوقل) في اللحظة ذاتها.

الوجه الثالث: أوجه إستعمال الصور الجوية في الإثبات أمام القضاء:

لا شك أن الصور الجوية تحل محل المعاينة والتروية بل أن الصور الجوية أكثر دقة من معاينة الارض ذاتها، لأن القاضي يستطيع عن طريق الصور الجوية الإحاطة بالأرض محل النزاع كما لو أنها قطعة واحدة بين يديه، كما أن القاضي يستطيع الإحتفاظ بالصور الجوية ودراستها وتحليلها في أي وقت بخلاف المعاينة التي تضيع معالمها من ذهن القاضي بعد وقت يسير .

ولذلك فإن القاضي يستعين بالصور الجوية عند إختلاف الخصوم بشأن حدود الأراضي المتنازع عليها والحدود والمعالم الفاصلة بينها، والمنشآت التي كانت قائمة عليها قبل النزاع وبعده، وكذا عن طريق هذه الصور يستطيع القاضي أن يقوم بتطبيق مستندات الخصوم على الأرض محل النزاع ومعرفة الحقيقة مثلما قضى الحكم محل تعليقنا.

الوجه الرابع: التكييف القانوني للصور الجوية في المنازعات العقارية:

التكييف القانوني بصفة عامة: هو إطلاق التسمية القانونية على الوسيلة أو الفعل أو التصرف، وفي هذا الشأن نقول: أن الصورة الجوية: هي صورة فوتوغرافية لا تكون عرضة للدبلجة أو خلط الصور، كما أن الصور الجوية تقوم مقام المعاينة، والمعاينة يتم تكييفها عند شراح قانون الإثبات بأنها دليل مزدوج أو دليل يقترن بأدلة أخرى أو تكون وسيلة لإستعمال أدلة أخرى، فمن خلال مناقشة الخصوم أمام القاضي للصور الجوية يتصادق الخصوم على بعض تفاصيلها فيكون ذلك إقراراً كما يستمع القاضي لإفادات العدول بشأن بعض تفاصيل الصور فيكون ذلك من اعمال الخبرة ،وكذا يستمع القاضي إلى أقوال الشهود وتعليقاتهم على الصور فتكون تلك الإفادات بمثابة شهادات، إضافة إلى أن تطبيق مستندات الملكية على هذه الصور يؤكد صحة هذه المستندات أو عدم صحتها، وعلى هذا المعنى فإن الصور الجوية لا تكون دليلاً مستقلاً بحسب المفهوم القانوني لأدلة الإثبات.

الوجه الخامس: توصية إلى المقنن اليمني لإستيعاب الصور الجوية في قانون الاثبات كحجة مطلقة في مواجهة الكافة:

لأهمية الصور الجوية ولدورها في سرعة حسم النزاعات العقارية فإننا نوصي المقنن اليمني بأن يستوعب الصور الجوية ضمن قانون الاثبات وضمن وسائل الإثبات كدليل مستقل على غرار ما ورد في غالبية قوانين الإثبات في الدول العربية، ونكتفي هنا بذكر المادة (1) من المرسوم بالقانون رقم (114) لسنة 1986 الكويتي التي نصت على أن (تعتبر المصورات الجوية التي اجرتها أو تجريها الدولة حجة على الكافة بما تدل عليه، ولا يجوز قبول دليل آخر يناقض هذه الحجية، وتقضي المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها)، في حين نصت المادة (2) من هذا المرسوم على أن (تسري أحكام هذا القانون على جميع المنازعات القائمة مالم يكن قد صدر في موضوعها حكم قضائي نهائي)، هذه النصوص في القانون الكويتي قبل أكثر من أربعين سنة ونحن في اليمن لازلنا في 2024م نتمسك (بالمعاينة) لما فيها من عوائد وفوائد وإن كانت مضرة بالعدل والعدالة والأخلاق.

 وفي ختام هذا التعليق هناك قصة حقيقية وقعت في اليمن عام 1965م حينها كان أحد القضاة قد قرر الإنتقال والمعاينة إلى محل النزاع في قرية خارج مركز المديرية ، وبعد القرار بيوم أدرك الخصمان المتنازعان أن تكاليف إنتقال القاضي مع بغلته ومرافقيه ستكون وخيمة عليهما تكاليفها اكثر من الحق محل الخلاف (شجرة)، فذهب الخصمان سوية إلى القاضي لمراجعته بعدم لزوم المعاينة أو (الناظرة) كما كانت تسمى في ذلك الحين ،وافاد الخصمان امام القاضي بأنه لا لزوم للإنتقال والمعاينة لأنهما قد تصالحا، وعندئذ انفعل القاضي قائلاً: ضروري المعاينة (النظارة)، لأن قلبي وقلب البغلة قد عزما على الإنتقال والمعاينة، وقد كانت البغلة في ذلك الحين هي وسيلة القاضي المفضلة للانتقال، والله اعلم.

الإثبات بالصور الجوية في المنازعات العقارية
الإثبات بالصور الجوية في المنازعات العقارية.

مقال ذات صلة:

حجية الصورة الجوية في النزاعات العقارية