حكم مطالبة أولياء الدم بالقصاص أمام محكمة الاستئناف
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
يعرف الفقه الإسلامي القصاص بأنه: عقوبة مقدرة
حق أولياء الدم فيها هو الغالب، ويعرف قانون الجرائم والعقوبات القصاص بأنه: حق
المجني عليه في حياته ثم ورثته الشرعيين بعد وفاته، حسبما ورد في بداية المادة ( 50
) من القانون ، وعلى هذا الأساس فأنه حكم القضاء بالقصاص يستلزم ان تسبق الحكم
بالقصاص مطالبة أصحاب الحق في القصاص وهم أولياء الدم مطالبتهم للقضاء بالحكم بالقصاص،
إلا أنه في حالات كثيرة لايطلب أولياء الدم من القضاء الحكم بالقصاص اما لعزمهم
على الثار من قاتل مورثهم بدلا من المطالبة بالقصاص واما لعدم علمهم بمقتل مورثهم،
ففي هذه الحالة تكفي مطالبة النيابة الواردة في الدعوى الجزائية بتوقيع العقوبة
المقررة شرعا على القاتل العامد وهي القصاص، بإعتبار القصاص عقوبة مقررة في
القانون لجريمة القتل العمد، ولذلك لايبطل الحكم القضائي بالقصاص اذا لم يطلبه
أولياء الدم، ومن باب أولى لايبطل حكم
القضاء بالقصاص اذا لم يبطله أولياء الدم أمام
المحكمة الابتدائية وقاموا بالمطالبة به أمام محكمة الاستئناف، حسبما قضى الحكم
الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 7-5-2013م
في الطعن رقم (46272)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((اما نعي الطاعن بأن أولياء الدم لم
يقدموا دعواهم بالحق الشخصي أمام محكمة أول درجة فلم يطلبوا القصاص إلا أمام محكمة
الاستئناف، فيتعين طرح هذا النعي لثبوت أن أولياء الدم قدموا دعواهم بالحق الشخصي
أمام محكمة الاستئناف مطالبين بالقصاص، وعلى النحو المبين في مدونة الحكم
الاستئنافي المطعون فيه، اما عدم تقديم دعواهم أمام محكمة أول درجة فإن سبب ذلك
يرجع إلى عدم إعلانهم من قبل النيابة العامة لعدم معرفتها بعناوينهم، حيث ظهر بعد ذلك
عند نظرمحكمة الاستئناف للقضية أن أولياء الدم يقيمون في دولة... خارج اليمن،
ومعلوم قطعاً من نص المادة (50) عقوبات: (أنه إذا أمتنع المجني عليه أو ورثته عن
تقديم دعواهم بالحق الشخصي بطلب الحكم بالقصاص اكتفى للحكم به بطلب النيابة العامة
بما لها من الولاية العامة في رفع الدعوى الجزائية)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم
حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: الوضعية الشرعية لمطالبة أولياء الدم بالقصاص:
يعرف
الفقه الإسلامي القصاص بأنه: عقوبة مقدرة حق العبد فيها غالب، وبما أن حق العبد
فيها غالب فإن حكم القضاء بالقصاص واستيفائه يحتاج إلى دعوى أو مطالبة من من صاحب
الحق الغالب وهم أولياء دم القتيل بعد وفاته ، ومع ذلك فأنه من المقرر في الفقه
الإسلامي وقانون الجرائم والعقوبات اليمني أن هناك حقوق أخرى في جريمة القتل العمد
غير حق أولياء الدم، ومن ذلك الحق العام بإعتبار النفس كلية من الكليات الخمس (الدين والنفس والنسب والمال والعقل) التي
لا يقوم المجتمع بدونها، فالمجتمع يلحقه
الضرر الفادح من القتل العمد لأحد أفراده، وبالاضافة إلى الحق العام فهناك حق ثالث
في القتل العمد وهو حق الله سبحانه تعالى، فالقاتل العامد آثم توعده الله بالخلود
في جهنم بقوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) من سورة النساء } فما
اجتمعت العقوبات الخمس المذكورة في الآية كإجتماعها في القاتل العامد، ونخلص من
هذا الوجه إلى القول: بأن جريمة القتل العمد تجتمع فيها ثلاث حقوق " حق أولياء الدم: وهو الحق
الغالب فيها وحق المجتمع وحق الله سبحانه وتعالى حسبما هو مقرر في الفقه الإسلامي ،
وبناءً على ذلك فإن عدم مطالبة صاحب الحق
الغالب بالقصاص وهم أولياء الدم لا يمنع المجتمع من المطالبة بحقه في دم القتيل عن
طريق النيابة العامة (التشريع الجنائي الإسلامي، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين،
ص125).
الوجه الثاني: الوضعية القانونية لمطالبة أولياء دم القتيل بالقصاص:
من المؤكد أن مصدر قانون الجرائم
والعقوبات اليمني هو الفقه الإسلامي، فالقانون اليمني في معظمه تقنين لأحكام
الجنايات المقررة في الفقه الإسلامي، ولذلك فقد صرح قانون الجرائم والعقوبات على
أن المطالبة بالقصاص تصدر اصلا من أولياء الدم وان لم يطلب أولياء الدم ذلك فتكفي
مطالبة النيابة العامة الواردة في قرار الإتهام بتوقيع العقوبة المقررة في قانون الجرائم والعقوبات لجريمة
القتل العمد وهي عقوبة القصاص ، وفي هذا الشأن نصت المادة (50) عقوبات على أنه (القصاص
هو حق للمجني عليه في حياته ثم ورثته الشرعيين بعد وفاته، ويكفي للحكم به طلبه من
احد الورثة او من يقوم مقامه قانونا ومن النيابة العامة بمالها من الولاية العامة
في رفع الدعوى الجزائية، فاذا امتنع المجني عليه او ورثته لاي سبب اكتفي للحكم به
بطلب النيابة العامة، على ان تراعي الاحكام الخاصة بتنفيذ احكام القصاص الواردة في
هذا القانون)، وقد كان هناك إعتبار عملي وواقعي جعل القانون اليمني يكتفي بمطالبة النيابة
العامة للحكم بالقصاص وهو شيوع ظاهرة الثأر في المجتمع اليمني، ففي حالات كثيرة
يمتنع أولياء الدم عن المطالبة بالقصاص حتى يأخذوا حق بأيديهم ثأراً لدم قتيلهم،
وحتى لا تتعطل إجراءات محاكمة المتهم بسبب إمتناع أولياء الدم عن المطالبة بالقصاص،
فقد نص القانون على أنه يكفي مطالبة النيابة العامة على أساس أن القصاص عقوبة
وفقاً لما هو مقرر في الشريعة والقانون والنيابة العامة هي صاحبة الولاية في
المطالبة بتوقيع العقوبات المقررة في القانون بما في ذلك عقوبة القصاص المقررة في
قانون الجرائم والعقوبات .
الوجه الثالث: كيفية مطالبة أولياء الدم الحكم بالقصاص وعلاقته بالدعوى الجزائية العامة المرفوعة من النيابة العامة :
للقصاص في النفس موجباته الشرعية ومن
أهمها مطالبة أولياء الدم به وتوفر الدليل الموجب له وهو ثبوت فعل القتل وصحة
نسبته للجاني عن طريق الإقرار الصريح الصادر من الجاني أو شهادة الرؤية من شاهدين
عدلين، ولاشك ان إثبات واقعة القتل والتحقق من نسبتها إلى المتهم يحتاج إلى تحقيق
النيابة العامة التي تتولى جمع أدلة الجريمة بواسطة مأمور الضبط ثم تتولى تكييفها وتحقيقها ورفع الدعوى الجزائية
مع قائمة الوصف والأدلة، ولذلك فإن أولياء الدم ينتظروا حتى تقوم النيابة العامة برفع الدعوى
الجزائية وتقديمها أمام المحكمة من قبل النيابة وحينئذ فإن أولياء الدم يكتفوا بالتصريح أمام
المحكمة بانضمامهم إلى الدعوى الجزائية المرفوعة من النيابة العامة والمطالبة بإجراء القصاص الشرعي، لإن
النيابة العامة اصلا تطلب في الدعوى الجزائية أو قرار الإتهام تطلب توقيع العقوبة
المقررة في القانون للقتل العمد وهي عقوبة القصاص، وبناء على ذلك تكفي للحكم
بالقصاص مطالبة النيابة اذا تخلف أولياء الدم عن المطالبة به لأي سبب كان (أصول النظام
الجنائي الإسلامي، د. محمد سليم العواء، ص ٣٧٦).
الوجه الرابع: جواز مطالبة أولياء الدم بالقصاص أمام محكمة الاستئناف:
كان الطاعن في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان يجادل في عدم جواز مطالبة أولياء الدم بالقصاص أمام محكمة الاستئناف، لأن ذلك قد فوت عليه درجة من درجات التقاضي، وقد رفض الحكم محل تعليقنا هذا النعي، لان القانون قد جعل الدعوى الجزائية المرفوعة من النيابة العامة المتضمنة مطالبة المحكمة بتوقيع العقوبة المقررة شرعاً وقانوناً على القاتل العامد، وهذه العقوبة المقررة في القانون هي القصاص، ولذلك فإن الدعوى الجزائية تكفي للمطالبة بالقصاص من الجاني حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا، ووفقاً لهذا المفهوم فإن المطالبة بالقصاص كانت مثارة أمام محكمة أول درجة، وتبعاً لذلك فإن مطالبة أولياء الدم بالقصاص أمام محكمة الاستئناف ليست دعوى جديدة أو طلب جديد حتى يتذرع الطاعن بعدم جواز قبول مطالبة أولياء الدم بالقصاص أمام محكمة الاستئناف حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.