الشهادة عن طريق الهاتف غير جائزة
استعمال وسائل الاتصال الحديثة في التقاضي حلم وهدف يراود الساعون لتطوير القضاء في اليمن ولكن هذا الهدف يحتاج الى إيجاد البيئة القانونية المناسبة لاستعمال وسائل الاتصال الحديثة في التقاضي ومن ذلك قيام الشهود بإدلاء الشهادة عن طريق الهاتف، ولأن المنظومة القانونية النافذة في اليمن لم تواكب التطورات الهائلة والمتسارعة في مجال وسائل الاتصال الحديثة فقد قضت المحكمة العليا في اليمن بعدم جواز ادلاء الشهادة او مناقشة الشاهد بواسطة الهاتف حيث صدر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 2007/2/6م الحكم محل تعليقنا وذلك في الطعن المدني رقم (26887) لسنة 1427هـ وخلاصة أسباب هذا الحكم (ان الدائرة قد وجدت الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد ناقش السبب الأ ول في دعوى بطلان حكم المحكم المتضمن مخالفة حكم التحكيم لقواعد النظام العام واحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بإدلاء الشهادة عبر الهاتف حيث ورد في الحكم الاستئنافي في تسبيبه : ان الثابت سلامة كافة إجراءات هيئة التحكيم باستثناء الاستماع الى الشهادة ومناقشتها عبر الهاتف فهذا يتعارض مع المادة (26) إثبات) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:
الوجه الأول : عدم جواز الاستماع الى الشهادة ومناقشة الشاهد بواسطة الهاتف
صرح الحكم محل تعليقنا بعدم جواز الاستماع الى الشهادة او مناقشة الشاهد عن طريق الهاتف لأن ذلك مخالف لمادة (26) اثبات التي نصت على أن (الشهادة إخبار في مجلس القضاء من شخص يلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره ) فهذا النص يشترط بإن الادلاء بالشهادة يتم في مجلس القضاء أي ان يحضر الشاهد امام القاضي في الجلسة المحددة وأن يقسم اليمين على أن يقول الحق والحكمة من حضور الشاهد مجلس القاضي وجلسة المحاكمة هو التأكد من شخصيته وصحة أقواله وعدم خضوعه لأي تأثير او ضغوط او مؤثرات او تلقين عند الادلاء بشهادته، وعلى ذلك فإن الشاهد عن طريق الهاتف لا يؤمن من تعرضه لأي من هذه الأمور إلا انه قد تم استحداث الوسائل المناسبة كالصوت والصورة والحركة للتأكد من شخصية الشاهد وعدم خضوعه لأي من المؤثرات السابق ذكرها واستطاع القاضي والخصوم مناقشة الشاهد وتوجيه الأسئلة اليه والوقوف على تعبيرات وجهه من خلال الهاتف المرئي فإن الشهادة وإن تمت بواسطة الهاتف بالصوت والصورة والحركة تكون في مجلس القضاء حكما المجلس الحكمي وليس الحقيقي ولها أصل في اجتهادات الفقه الحديث الذي أجاز التعاقد بين غائبين عن طريق الايميل او الهاتف او الواتس او غيرها طالما وقد تم التأكد بما لا يدع مجالا للشك من شخصيات المتعاقدين واصواتهم وتعبيراتهم فليس هناك فرق بين التعاقد بين غائبين والشهادة عن بعد عن طريق الهاتف المرئي ، فالتعاقدات الكبيرة تتم في الوقت الحاضر عن بعد من غير وجود مجلس بيع او شراء حقيقي بالمفهوم الشرعي والقانوني، بل ان الادلاء بالشهادة بواسطة الهاتف جائز في الفقه الإسلامي فقد ذكر ابن عابدين الحنفي في الجزء الخامس من حاشيته أن الدولة العثمانية قد نصبت طير الهواء المواصلات السلكية حتى اذا ثبت رؤية هلال رمضان أو شوال وشهد الشهود عن ذلك في اية ولاية من ولايات الدولة العثمانية فإنه يتم ابلاغ شهاداتهم الى الباب العالي (السلطان العثماني) في الاستانة (استانبول) لإعلان رمضان او عيد الفطر، وقد استدل ابن عابدين على جواز الشهادة عن طريق (طير الهواء) بجواز التعاقد بين غائبين اذا عرف كل منهما الآخر كان ينادي المشتري من مكان على البائع الذي يرد عليه من مكان اخر بعيد فيقول المشتري بعني الثور بكذا فيرد عليه المالك البائع بالقول بعتك الثور بكذا، والثور المبيع معلومة اوصافه للطرفين مسبقا، وقد ذهب الى هذا المذهب فقهاء الشافعية والزيدية في اليمن لأن تضاريس اليمن الجبلية تتيح للبائع والمشتري أن يرى بعضهما البعض من بعيد وكذا التعرف على صورتيهما فكثير من التعاقدات في اليمن كانت تتم عن بعد أبن شخصين لا يجمعهما مجلس عقد واحد وانما يكون كل واحد منهما في مكان بعيد عن الآخر، والخلاصة أن الفقهاء قد اتفقوا على جواز الشهادة عن بعد وقد اختلفوا في بعض تفاصيلها وقد شرعت الشهادة على الشهادة في الفقه الإسلامي لجبر غياب الشاهد الأصلي او موته او سفره او جحده للشهادة ولذلك فإن الهاتف أولى لوجود شهادة الأصل طالما انه يجوز ان ينقل عنه الشهادة شخص آخر لذلك فشهادة الشاهد الأصل نفسه عن طريق الهاتف أولى.
الوجه الثاني: مدى الحاجة لتعديل النصوص القانونية للعمل بالشهادة عن بعد (الشهادة عن طريق الهاتف المرئي)
من خلال المطالعة للحكيم محل تعليقنا نجد انه قد قرر عدم جواز الشهادة بواسطة الهاتف لأن المادة (26) إثبات السابق ذكرها قد اشترطت ان تتم الشهادة في مجلس القضاء أي في جلسة المحكمة، ومن وجهة نظرنا انه با الإمكان الاستماع الى اقوال الشاهد وتوجيه الأسئلة اليه ومناقشته عن طريق قاعة تكون مزودة بكاميرا وريسيفر ينقل بالصوت والصورة والحركة تكون متصلة لا سلكيا بقاعة المحكمة ويتم من خلال تلك القاعة التي يتواجد فيها الشاهد اثبات حضوره وادائه اليمين ثم ادلائه بالشهادة وبعد ذل ك يتم توجيه الأسئلة اليه ومناقشته كما لو انه حاضر حقيقة او بالفعل في مجلس القاضي، وعندئذ لا حاجة لتعديل المادة (26) إثبات واذا أصر البعض على فهم مضمون المادة (26) انها تشترط حضور الشاهد الى مجلس القاضي حقيقة وبالفعل فعندئذ لا بأس من تعديل المادة (26) بحيث تكون صياغتها بعد التعديل الشهادة اخبار في مجلس القضاء حقيقة او حكما من شخص يلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره، علماً بإن كثيراً من الدول العربية تتم الشهادة فيها عن طريق الهاتف المرئي، ونحن نحبذ ان يتجه القانون اليمني الى هذه الوجهة لتحديث القضاء في اليمن والأخذ بأسباب التقدم ووسائل التقنية طالما وهي لا تخالف الضوابط الشرعية والقانونية للشهادة، والله أعلم.