لا يصح الحكم بما يخالف الصلح الجزئي

لا يصح الحكم بما يخالف الصلح الجزئي

وظيفة القضاء بموجب أحكام الشرع والدستور والقانون هو الفصل في النزاعات، فلا يحق للقاضي أن يفتح نزاعاً تم حسمه بحكم قضاء أو تحكيم أو عقد صلح، وكذا لا يحق للقاضي أن يهدر ما سبق للخصوم ان تصالحوا عليه ولو كان هذا الصلح بشأن جزئية من النزاع ا، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 29-1-2011م في الطعن رقم (43328)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (وحيث أن الحكم الابتدائي قد قضى بموجب الإتفاق بين الطرفين على تعديل المشروع التجاري لدى طرف ثالث ،ليكون المشروع تحت إدارته وإشرافه ويقوم بتشغيله وإستثماره، والاحتفاظ بعائداته ، ويبقى المشروع تحت يده حتى إنتهاء القضية وصدور حكم نهائي، وحيث أن هذا الإتفاق مشهود عليه وتم التوقيع عليه من الطرفين ، وحيث أن الطرف الثالث ألتزم للمحكمة بموافاتها بكشوفات تفصيلية شهرية عن الأموال الواردة والمنصرفة، لذلك فإن حكم الشعبة المطعون فيه بإلغاء الحكم الابتدائي يكون قد قضى بما يخالف ما اتفق عليه الطرفان برضاهما واختيارهما مما يتعارض مع ما هو مقرر شرعاً وقانوناً)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية

الوجه الأول: الصلح الجزئي وطبيعته الشرعية والقانونية:

كان محل النقاش في الحكم محل تعليقنا هو إتفاق بين الطرفين المتنازعين على تجنيب المشروع التجاري المشترك بينهما تجنيبه مغبة التعطيل أو التوقف عن العمل بسبب خلاف الطرفين بشأن حقوق الشراكة فيه، ولذلك قام الطرفان بتعديل المشروع أي نقل صلاحيات إدارته وإستثماره والإحتفاظ بعائداته إلى طرف ثالث لإدارة المشروع وتشغيله حتى يتم حسم النزاع بين الطرفين.

فهذا الإتفاق حسم جزء من النزاع بين الطرفين بشأن الأحق من الطرفين بإدارة المشروع وتقسيم عائداته،فالصلح بشان هذه الجزئية لم يحسم بقية مسائل النزاع بين الطرفين التي تم رفعها أمام المحكمة.

بيد أن تصالح الخصوم بشأن مسألة معينة من مسائل النزاع لا يعني أن ذلك الصلح لا يعد صلحاً ولا تسري عليه أحكام الصلح، وعلى هذا الأساس فإن الصلح بين الخصوم بشأن مسألة معينة من مسائل النزاع جائز وتسري عليه أحكام الصلح ، ولا يجوز للمحكمة أن تهدره أو تتجاهله، وهو ما توصل إليه الحكم محل تعليقنا. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الصلح، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2024م، صـ114).

الوجه الثاني: مزايا الصلح الجزئي:

ليس خافياً أن من أسباب إطالة إجراءات التقاضي في القضايا وتعثرها وتعقيدها هو كثرة مسائل أو نقاط الخلاف بين الخصوم وتشعبها، ولذلك فإن الصلح الجزئي يحصر النزاع في مسائل معينة يسهل للخصوم والقاضي التعامل معها، فالصلح الجزئي يسهم في سرعة حسم المسائل الأخرى التي لم يشملها الصلح الجزئي.

الوجه الثالث: أثر الصلح الجزئي:

لاشك أن الصلح الجزئي يحسم المسألة التي شملها الصلح دون بقية مسائل النزاع التي تظل محل خلاف بين الخصوم، ويكون الصلح الجزئي ملزماً لطرفيه، ومع ذلك فإن آثار الصلح الجزئي لا تمتد إلى المسائل الخلافية الأخرى التي لم يشملها الصلح الجزئي، وكذلك فإن النزاع بين الخصوم في المسائل الأخرى الخلافية التي لم يشملها الصلح الجزئي لا تؤثر من جانبها في حجية الصلح الجزئي والزاميته.

الوجه الرابع: لا يجوز للمحكمة التي تنظر النزاع أن تهدر الصلح الجزئي:

كانت هذه المسألة هي محل النقاش في الحكم محل تعليقنا الذي قضى بأنه لا يحق للمحكمة أن تهدر أو تتجاهل الصلح الجزئي بين الخصوم بإعتبار هذا الصلح قد صدر بناء على تراضي الخصوم واتفاقهم، وأنه بعد ذلك يصير ملزماً لهم بإعتبار عقد الصلح واجب النفاذ بين الطرفين المتصالحين سواء كان الصلح جزئيا أو شاملا، وإلزامية الصلح الجزئي للخصوم المتمسكين به أو احدهم أمام المحكمة، هذه الإلزامية تجعل المحكمة التي تنظر النزاع ملزمة أيضاً بإحترام إرادة الخصوم المتراضين على الصلح الجزئي.

الوجه الخامس: إمكانية نزول الخصوم معاً عن الصلح الجزئي:

ذكرنا فيما سبق أن الصلح الجزئي ملزم لأطرافه وأنه يجب على المحكمة التي تنظر النزاع أن تحترم هذا الصلح وأن لا تهدره أو تتجاوزه طالما وأطراف الصلح أو أحدهما متمسك بالصلح الجزئي.

بيد أن عقد الصلح الجزئي أو الكلي قابل للفسخ من قبل طرفيه معا ، وقد يقع الفسخ صراحة أو ضمناً ، والفسخ الصريح يعني إعلان الخصوم المتصالحين بالصلح الجزئي عن تراجعهما عما ورد في الصلح وعودتهما إلى الخلاف بشأنه وطلبهما من المحكمة الفصل فيه، وقد يكون فسخ الصلح الجزئي ضمنيا ، ويقع الفسخ الضمني للصلح عندما يتنازع الخصوم المتصالحون بالصلح الجزئي بشان المسالة ذاتها التي حسمها الصلح الجزئي فلا يتمسك أحدهم بالصلح الجزئي أمام المحكمة التي تنظر النزاع .

ويتأسس فسخ الصلح الجزئي على القاعدة ذاتها التي قام عليها الصلح وهي الرضائية بين الخصوم المتصالحين فإذا كان من حقهم التصالح فإن من حقهم العودة إلى النزاع، غير أن فسخ الصلح لا يقع إلا من قبل كافة أطراف الصلح ،فلايجوز لاحدهما أن يستقل بذلك بفسخ الصلح. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الصلح، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2024م، ص١١٨)، والله اعلم.

✍🏼 أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين، الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.