العبارات الجارحة في مرافعات الخصوم
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
نتيجة لقلة الوعي الشرعي والقانوني في اليمن فإن الخصوم يتبادلون العبارات الجارحة والمخالفة للنظام العام أو الاداب العامة، وذلك في مرافعاتهم الكتابية والشفهية أمام القضاء دون ادنى إحترام لمقام القضاء وهيبته.
بل ان بعض الخصوم يفخر عند إستعماله لالفاظ السخرية والتهكم والاهانة لخصمه امام القضاء على إعتبار ان ذلك مظهر من مظاهر قوة الشخصية والقدرة على إفحام خصمه.
ولاريب أن الخصم قوي الشخصية قليل الحياء يستغل الموقف المخجل لقانون المرافعات اليمني في المادة (١٧٥) الذي اكتفي بأن اجاز القاضي ان يقوم (بمحو العبارات الجارحة والمخالفة للنظام العام والاداب العامة)!!!؟، دون ان يقترن المحو بالتصريح في النص بان ترديد هذه العبارات يعد من جرائم الجلسات التي يجب على القاضي ان يضبطها بإعتبارها جرائم مشهودة وقعت امام القاضي وفي مجلسه لا ان ترديد هذه العبارات امام القاضي يعد إهانة للقاضي نفسه، لان التلفظ بتلك العبارات أو كتابتها في المذكرات المقدمة الى القاضي دليل على عدم إكتراث الخصم بهيبة القضاء.
وقد تجاهل نص المادة (١٧٥) مرافعات ان تبادل تلك العبارات بين الخصوم في مقام القضاء وفي مجلس القضاء هو في الأصل إهانة للقاضي الذي يترافع الخصوم أمامه، فضلا عن ذلك دليل على عدم إحترام الخصم أو الخصوم لمقام القاضي والقضاء.
وهذا الموقف المخجل لقانون المرافعات غريب ومريب، لان موقف القوانين الاجنبية في هذه المسالة اكثر تشددا من قانون المرافعات اليمني الذي يشجع قلة حياء الخصوم وقلة ادبهم، ويهدر هيبة القاضي ومقامه.
ولاريب أن موقف قانون المرافعات اليمني في هذا الشأن متعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية والعادات والأعراف الاصلية السائدة في اليمن، فمثلاً عندما يتلفظ أو يكتب الخصم عبارة جارحة بخصمه أمام المحكم فإن المحكم اليمني يعتبر ذلك عيباً في حق المحكم نفسه يتحتم على الخصم الجارح أن يقوم بتهجير المحكم، ولازالت عبارات المحكمين الموجهة للخصوم قبل بدء المرافعة تتردد في مسامعنا منذ الطفولة إلى اليوم، وهذه العبارة هي قول المحكم: (الكلام أمامي مثمن) يقصد المحكم من هذه العبارة تنبيه الخصوم إلى منعهم من تبادل الألفاظ الجارحة.
وكذلك الحال في القضاء في الإسلام وآدابه التي تحرم على الخصوم تبادل الألفاظ الجارحة سواءً أمام القضاء أم خارجه، لان الشريعة الإسلامية شريعة الإخلاق والأدب والتهذيب، وتوجب الشريعة الإسلامية تعزير الخصم الذي يتلفظ بالألفاظ الجارحة، وقد ذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى تعزير الخصم الذي يجرح أو يسب خصمه أو جاره بالحبس لثلاثة أيام.
أما قانون المرافعات اليمني فإن جرح الخصوم لبعضهم وتبادل الالفاظ المخالفة للنظام العام او الاداب العامة أمام القضاء أمر إعتيادي، فقد صرح القانون بانه يكفي أن يقوم القاضي إن اراد (بمحو العبارات الجارحة او المخالفة للنظام العام او الاداب العامة) وإن لم يرد ذلك فلاحرج على القاضي، مع أن وقع هذه العبارات على الخصوم هو الذي يولد اللدد والخصام بين الخصوم، مما يؤدي إلى تعقيد وإطالة إجراءات الفصل في القضايا وحدوث الاعتداءات الدامية على الخصوم ومحاميهم بسبب ذلك.
وتتسبب عبارة (محو العبارات الجارحة او المخالفة للنظام العام او الاداب العامة) الواردة في المادة (١٧٥) من قانون المرافعات تتسبب بتعطيل الاحكام الشرعية والقانونية التي تضع الخصم المتلفظ بالعبارات الجارحة او المخالفة للنظام العام او الاداب العامة تضعه تحت طائلة المسئولية القانونية، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 30/1/2011م في الطعن رقم (41954)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (وتشير الدائرة هنا إلى ما لاحظته من تضمين عرائض الطرفين لعبارة غير لائقة، وفيها ما يمكن إعتباره تجريحاً، وهي لا يكون لها مردود إيجابي بل العكس فإنها قد توقع قائلها تحت طائلة المسؤولية، ومعلوم أن ممارسة حق التقاضي تقوم على حُسن النية (م 18) مرافعات، ومن ثم تقرر الدائرة: شطب العبارات غير اللائقة، وحرى بالطرفين عدم تكرارها)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: محو العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة في قانون المرافعات اليمني:
نصت المادة (175) مرافعات على أنه: (على المحكمة أن تمنع العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة ولها من تلقاء نفسها أن تأمر بمحوها من محضر الجلسة أو الأوراق والمذكرات الأخرى بقرار يثبت في محضر الجلسة).
ومن خلال إستقراء هذا النص نستنتج الآتي:
1- من الواجب على القاضي أو المحكمة أن تمنع الخصوم بداية من التلفظ بالعبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة، ويتحقق هذا المنع عن طريق قيام القاضي بتنبيه الخصوم في الجلسة الأولى لنظر القضية حيث يصرح القاضي منبها الخصوم في الجلسة بعدم تبادل العبارات الجارحة. . . الخ، وهذا الأمر هو المحمود فقط في النص السابق.
وتنبيه الخصوم بعدم التلفظ أو كتابة تلك العبارات في مذكراتهم نهج محمود كان يسلكه جميع قضاة اليمن الأوائل وبعض المتأخرين من القضاة، وقد كان تنبيه للخصوم يتلخص بتلك العبارة الرائعة: (يجب عليكم التقيد بموضوع النزاع وعدم الكلام عن أشخاص الخصوم)، ويضيف مشايخ اليمن الكرام المتقدمين والمتأخرين إلى تلك العبارة عبارة إضافية اخرى هي : (أن الكلام امامي مثمن) أي أن الإهانة للخصم أمام المحكم هي إهانة للمحكم شخصياً تستلزم ان يقوم الخصم الذي يتلفظ بالعبارات غير اللائقة بتهجير المحكم، لان ترديد تلك الالفاظ امام الشيخ المحكم إهانة للمحكم نفسه.
اما القاضي في اليمن فانه وان قام بتنبيه الخصوم بيد انه في أفضل الأحوال لايملك إلا محو العبارات الجارحة !!!؟.
2- عمومية وإجمال مصطلحات (العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة)، المنصوص عليها في النص القانوني السابق.
ومعنى ذلك: ان تلفظ الخصم أو كتابته لأية عبارة جارحة أو مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة ممنوع أمام المحكمة، سواء كانت تلك العبارات موجهة للخصم الاخر ام لا، ولذلك يتحتم على القاضي ان يمنع الخصوم من ترديد تلك العبارات على مسامع المحكمة أو كتابتها في مذكراتهم، غير ان جزاء مخالفة هذا المنع هو (محو تلك العبارات من الأوراق) فقط، وهذه مرهون بإرتدة القاضي لان المحو جوازي وليس جولي كما سنرى.
3- محو العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة أمر جوازي للمحكمة حسبما ورد في المادة (١٧٥) مرافعات، فبموجب هذه للمحكمة أن تمحو تلك العبارات أو لا تمحوها (فالأمر عادي جداً)، فالمحكمة غير ملزمة بمحو العبارات ولو كانت مخالفة للنظام العام او الاداب العامة !!!؟، فهذا الامر عادي جدا في بلد الإيمان والحكمة والفقه.
الوجه الثاني: مفهوم العبارات الجارحة في المادة (175) مرافعات:
العبارات الجارحة هي: العبارات التي تجرح النفس عند سماعها أو قراءتها وتندرج فيها الفاظ التهكم والسخرية والاستهزاء واللمز والغمز والاهانة، مثل أن يقول الخصم لخصمه: أنت لا تفهم، أنت مغالط، أنت تأكل أموال الناس بالباطل،انت مفغل. . . الخ، وليعذرني المطالع الكريم عن ذكر بقية الأمثلة على الكلمات الجارحة، فهي مفهومة ومعلومة لدى القضاة والمتقاضين والمحامين والخصوم في اليمن، لانها موجودة بكثرة للاسف الشديد.
فمصطلح العبارات الجارحة ورد في نص المادة (١٧٥) مرافعات بصيغة العموم حسبما ذكرنا في الوجه السابق، ولذلك من الصعب للغاية حصر هذه العبارات أو التمثيل لها كلها في هذا التعليق الموجز.
وقد ورد في النص القانوني المشار إليه وصف هذه العبارات بأنها (جارحة) ومعنى ذلك أن أي عبارة تجرح النفس هي عبارة جارحة، لأنها تؤدي إلى شعور الشخص أو الخصم المجروح بالإحباط وعدم الثقة بالنفس وتترك آثار نفسيه طويلة الأمد قد تصل إلى الكآبة أو العدوانية، وتؤدي إلى إذكاء وتاجيج الضغائن والبغضاء بين الخصوم وتوسيع نطاق النزاع وتعقيده، بل ان هذه العبارات سبب من اسباب الاعتداءات الدامية التي تقع فيما بين الخصوم والتي تقع ايضا من الخصوم على بعض المحامين.
الوجه الثالث: مفهوم العبارات المخالفة للنظام العام المذكورة في المادة (175) مرافعات:
من المعلوم أن مفهوم النظام العام مفهوم هلامي واسع عصي عن التعريف، ولكن من الممكن تلخيص مفهوم النظام العام وجمع أطرافه بالقول أن: النظام العام هو النصوص القانونية الآمرة الملزمة التي يجب على الافراد العمل بموجبها وعدم مخالفتها.
ولا يمكن بصورة عامة وضع تعريف جامع مانع لمفهوم النظام العام؛ لأنه غالباً ما يسحب التعريف عن المفهوم المراد تعريفه معنى العموم والشمول ليضعه في قالب محدود وضيق، فقد حاول الفقهاء وضع تعريف للنظام العام بغية ضبطه وتحديده، ولكنهم لم يصلوا إلى صيغة مقبولة لتعريفه من جميع الوجوه، فظل تعريفه قاصراًعلى صيغ تصويرية. فعدّ بعض الفقه الخوض في ذلك أشبه بالمغامرة في رمال متحركة، أو في ممر تحيط به الأشواك (Alglave)، في حين عدّه الفقيه الفرنسي Carbonier الصخرة التي يؤسس ويبني عليها المجتمع، وذهب سوميير في هذا الصدد إلى أن محاولة تعريف النظام العام تعد إعناتاً ذهنياً كبيراً. فالنظام العام بحسب الفقه الفرنسي فأرٌ لا يدع نفسه سجيناً في تعريف محدد، وانتهى الأمر إلى التسليم بصعوبة وضع تعريف له، أو باستحالته تقريباً، لأنه مرن، ونسبي، وغير قابل للتحديد، إلاَّ أنه لا يمكن الالتفات أو العزوف عن التعريف بحجة عدم ضبطه، ولا يمنع ذلك من وضعه في إطار قانوني محدد وواضح يحكم أبعاده، وعليه يمكن تعريف النظام العام بأنه: "مجموعة القواعد القانونية التي تتمتع باستعلاء على باقي القواعد، والتي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي يقوم عليها كيان الدولة، كما ترسمه القوانين النافذة فيها.
والأصل عدم تبعيض النظام العام في جعل بعض قواعده مقصورة على فئة اجتماعية دون أخرى، فلا يتصور أن يكون معيار النظام العام شخصياً، وإنما يتسم تقديره بالموضوعية حين يكون متفقاً وما تدين به الجماعة في الأغلب من أفرادها، فالنظام العام يشكل مظلة يتعين على التصرفات القانونية التي تتوجه الإرادات الفردية إليها كافة أن تستظل بشرعيتها، إذ يصبح البطلان والعقاب جزاؤه الخروج على شرعة هذه المظلة. فهو ينظم إذن حركة الإرادات الفردية داخل المجتمع، ويحول دون تعارضها أو تصادمها
يعد النظام العام تعبيراً عن روح النظام القانوني للمجتمع عامة، وهذه الروح تشكل قاعدة للبنيان المجتمعي المراد تنظيمه، فلا يقتصر مداه على ناحية معينة من نشاط المجتمع، بل يشمل كل مظاهر النشاط وميادينه، ويتوغل في مساماته، فيتخذ أنواعاً، وبعبارة أدق مظاهر متعددة. ومن هذه المظاهر أو الأنواع:
1ـ النظام العام النصي: ويتجسد بالنصوص القانونية الإلزامية، وهذا النوع محدد بشكل صريح وواضح ومقنن عبر نصوص آمرة وملزمة بصيغة المنع، وهي تحدد ماهيته ومضمونه وترتب البطلان بوصفه جزاء ومؤيداً على مخالفتها؛ وبالتالي لا تثور في هذا الصدد أي صعوبات في تحديد الحالات المخالفة للنظام العام، ففي بعض المسائل يحدد القانون أن طابعه من النظام العام، كما في النصوص المتعلقة بحماية المستهلك مثلاً، وأحياناً طبيعة النصوص هي التي تفرضه حتى لو لم يذكر فيها صراحة،،كالسبب غير المشروع عندما يكون مناقضاً للنظام العام، ولو كان من غير الضروري أن يحظره القانون.
2ـ النظام العام المضمر (الاجتهادي): وهو حالة مفترضة كرّسها الفقه القانوني والاجتهاد القضائي، يضاف إليهما الأحكام غير المكتوبة في الأنظمة القانونية التي تأخذ وتتوسع بسلطان العرف (كالقانون الإنكليزي)، ويمكن تلّمس حالات هذا النوع من النظام العام واستنباطها في روح التشريع، وفي المبادئ العامة، ويعد الاجتهاد القضائي حامياً للنظام العام ومفسراً له، فبإمكانه أن يعلن أن اتفاقية ما أو بنداً ورد فيها هو غير قانوني إذا ظهر أنه يخالف النظام العام. ويعدّ النظام العام المضمر نسبياً من جهة، نظراً لاختلاف الرؤى الاجتماعية من مجتمع إلى آخر، وواسعاً من ناحية أخرى في التشريعات التي تعطي الأعراف دوراً أساسياً في تقنيناتها، فبإمكان القانون الذي يحيل إلى الأعراف أن يعطيها استثنائياً القيمة الآمرة، وتثور الصعوبات في الحالات التي يسكت فيها المقنن عن مخالفة النظام العام، ففي مثل هذه الحالات يُترك الأمر إلى القاضي ليحدد في كل حالة مدى تعلق الأمر بالنظام العام، واضعاً نصب عينيه نوع المصلحة التي يرمي المقنن إلى حمايتها، فالفيصل أو الضابط في تحديد مفهوم النظام العام المضمر هو المصلحة العامة.
ويتسع النظام العام في هذا النوع ليشمل أموراً قد تعد من الكماليات في المجال العام، بغية المحافظة على الشكل الجمالي العام والرونق، فقد أُلزم مالك أرض عرصة بتسويرها، محافظة على الرونق والشكل الجمالي، ولمنع الأتربة المتراكمة بها من أن تثيرها الرياح فتزيد نسبة التلوث مما يضر المصلحة العامة، ويقع على القاضي في هذا النوع من النظام العام عبء تحديد النص من خلال استقراء معناه بعمل ذهني تحليلي يقوم به.
3ـ النظام العام السياسي: وهو ما يعرف بالنظام العام التقليدي أو (المطلق)، ويرمي إلى حماية أركان المجتمع، وهي: الدولة، والأسرة، والحريات الفردية من انتهاكات الأفراد في تصرفاتهم. وغالباً ما يؤيد هذا النوع من النظام العام بنصوص جزائية رادعة.
4ـ النظام العام الاقتصادي: إن تدخل الدولة في السياسة الاقتصادية لكل القطاعات الاقتصادية، وتنظيم المنافسة، والتعامل بالعملات مثلاً لم يترك النشاط الاقتصادي للأفراد على إطلاقه، فقد يتعرض الاقتصاد، وبالتالي المجتمع لهزات ومخاطر يصحبها آثار اجتماعية، كل ذلك حدا الدولة على التدخل في هذا الشأن، فشمل هذا التدخل القانون العام والخاص؛ لأن النظام العام الاقتصادي يفرض قيوداً معينة على الحرية التعاقدية، ويستبعد من العقود الخاصة ما يعارض التوجه العام الاقتصادي، كما في الاتفاقات التي تنطوي على غبن، ومنع الاحتكار في التكتلات الاقتصادية كحال المجتمعات الصناعية الحديثة، وفي سياسة الاستيراد والتصدير. ويحظر الشروط التعاقدية المخالفة له، وكذا الاتفاقات التي صيغت على نحو غير قانوني، إذ يعدها باطلة. ويأخذ النظام العام الاقتصادي طابعين أو مظهرين من مظاهر التدخل؛ طابع توجيهي، وطابع حمائي.
أ ـ النظام العام الحمائي: يهدف هذا النوع من النظام العام إلى حماية فئة معينة من فئات المجتمع لاعتبارات إنسانية اجتماعية، وكذا حماية أي مصلحة خاصة من خلال إسباغ الحماية القانونية عليها التي تكون قياساً على غيرها من الفئات الاجتماعية في وضع اقتصادي ضعيف. كالعامل في عقد العمل، والمزارع في عقد المزارعة، والمستأجر في ظروف خاصة تستدعي حمايته، وكذا المستهلك، والمدين في صدد الفوائد المركبة، ويأخذ شكل الحماية أو مؤيدها طريق تقرير البطلان النسبي (ويقابله قابلية الإبطال).
ب ـ النظام العام التوجيهي (الوقائي): يعزى ظهور هذا النوع من النظام العام إلى اتجاهات السياسة التدخلية للدولة الاشتراكية التي زادت زيادة ملموسة بتأثير الاتجاهات الفلسفية الاشتراكية، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم في نهائيات العقد الثالث من القرن العشرين، إذ مضت الدول في إصدار عدد من قوانين التوجيه الاقتصادي والاجتماعي بغية التصدي للانفلات الحاصل في توجهات الإرادة، استهدافاً منها وسعياً إلى تحقيق المصالح العامة الحيوية الضرورية (اقتصادية ـ اجتماعية) كقوانين النقد والائتمان والجمارك والبنوك… مما حدا المقنن أن يفرض حماية خاصة لهذه القوانين، فكان أن أسبغ عليها طابعاً آمراً. فالنظام العام التوجيهي يتصدى لحماية المصالح العامة الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية في المجتمع، ويرمي إلى دفع الاقتصاد الوطني في اتجاه معين، كضبط العقود الخاصة في شكل صحيح يتسق مع هذا الاتجاه، كتحديد الأسعار في شؤون التموين والتسعير، ولا يخفى ما تركته العولمة من آثار وبصمات في شتى المجالات، وخاصة الاقتصادية منها. فيلاحظ مثلاً التطور الذي اعتور القانون الفرنسي منذ العام 1982، إذ يمكن الاتفاق على ما يخالف النصوص الملزمة المتعلقة ببعض نواحي قانون العمل كالأجور مثلاً، والعقود الجماعية، وهذا ليس بالمستغرب لأنه كما سلف القول إن مفهوم النظام العام في مجمله متغير، ومؤيد هذا النوع من النظام العام وجزاؤه البطلان المطلق. (النظام العام والاداب العامة، د. مازن نهار، الموسوعة القانونية، ص٤) و (مفهوم النظام العام والآداب العامة، د. دينيس لويد، ترجمة حسن زكريا، مجلة القضاء، العدد 04، السنة 14، ١٩٩٦م، صـ29).
وبالنسبة للدولة المسلمة فان مقاصد الشريعة الإسلامية وهي:الدين والنفس والعرض والمال والعقل، وكذا الاحكام الشرعية القطعية الدلالة هي اهم ركائز النظام العام للدولة الاسلامية .
فمثلاً الشريعة الاسلامية والقانون اليمني المستفاد من الشريعة يمنعا السخرية والاستهزاء والتهكم على الناس كما يمنعا إتهام الناس لبعضهم بالسرقة اوالنصب والكذب والسب والإهانة والتشهير والقذف. . . إلخ.
وعلى هذا الأساس فإن إتهام اي شخص بأي فعل من هذه الأفعال وغيرها من النظام العام، سواء كان هذا الاتهام باللفظ أو الكتابة، مثل قول الخصم لخصمه: كاذب أو يكذب أو نصاب أو سارق او مغالط أو مضلل. . إلخ. كل هذه الالفاظ تخالف النظام العام. (فكرة النظام العام في الفقه الاسلامي، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مجلة جامعة بسكرة الجزائر ٢٠١٦م، ص٧٦).
الوجه الرابع: مفهوم العبارات المخالفة للآداب العامة:
نصت المادة (١٧٥) مرافعات في بدايتها على انه: (على المحكمة أن تمنع العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة).
فمن خلال مطالعة النص القانوني السابق يظهر أنه قد تضمن (او) التخيير الفاصلة بين جملة (النظام العام) وجملة (الآداب العامة)، فتارة يرد في بعض النصوص النظام العام اوالآداب العامة مثلما ورد في المادة (175) مرافعات السابق ذكرها واحياناً تكون العبارة (الآداب العامة اوالنظام العام) ومن المعلوم أن (أو) التخيير التي ترد بين الكلمتين تفيد المغايرة اي أن الآداب العامة غير النظام العام.
ولاشك أن تقديم إحدى الجملتين على بعضهما له دلالته، ولذلك فقد جاءت جملة النظام العام متقدمة على جملة الآداب العامة، وذلك في المادة (175) مرافعات مع أن هناك خلافاً بين فقهاء القانون بشأن مدى إستقلال فكرة الآداب العامة عن فكرة النظام العام، وما يعنينا هنا في هذا التعليق هو القول بأن الآداب العامة هي الأخلاق العامة السائدة في المجتمع، وتندرج فيها عادات واعراف المجتمع الحميدة، فالآداب العامة غير مكتوبة ولكنها شائعة ومستقرة في سلوك المجتمع، ومعيار تطبيقها عند القاضي معيار الرجل العادي، ومثل الكلمات المخالفة للآداب، حاشا المطالع الكريم: مثل قول الخصم لخصمه: يا سفيه، يا إبن السوق يا إبن الشارع. . . إلخ، (فكرة الآداب العامة ومدلولها القانوني والفلسفي – دراسة قانونية، د. حسين الكلابي، كلية القانون جامعة بغداد – مجلة كلية القانون 2001م بغداد، صـ29).
فمفهوم الآداب العامة مفهوم مجرد ومستقل عن مفهوم النظام العام، إذ درج الفقه القانوني في غالبيته على التطرق إليهما وذكرهما معاً على سبيل العطف وليس على سبيل التفريق، فقد تلازم المصطلحان (النظام العام والآداب) واقترن بعضهما ببعض في كل حالة تناولت أحدهما، فالنظام العام يعد مفهوماً مستقلاً عن الآداب العامة التي تعد المظهر الأخلاقي الأكثر خصوصية للنظام العام.
فالآداب العامة المقصودة والمتداولة والمعنية بالبحث هي : الأخلاق الحسنة جرياً مع ترجمة المصطلح les bonnes moeurs فالتصور القانوني الغربي للاداب العامة يحمي الآداب الحسنة، ولا يحمي مطلق الآداب العامة. فالآداب مجردة وعلى إطلاقها هي مجموعة من القواعد السلوكية والشمائل المهذبة، وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية، وللدين أثر كبير في تكييفه، فكلما اقتربت الحضارة من قواعد الدين ارتفع المعيار الخلقي، ويعد مفهوم الآداب مفهوماً مرناً على أساس أنه الفكرة المعبرة عن مجموع المصالح الجوهرية التي تمس الأخلاق في الجماعة، لذا فهو يختلف باختلاف المكان والزمان، فبينما تبيح بعض النظم القانونية الوضعية إنشاء نوادٍ للقمار، وشواطئ للعراة تذهب أخرى إلى اعتبار ذلك منافياً للآداب. فمعيار الآداب ينبغي ألا يكون معياراً ذاتياً يرجع فيه القاضي إلى معتقداته أو تقديره الشخصي، وإنما هو معيار موضوعي يؤخذ فيه بما اصطلح في أوساط الناس على تقبله من أفكار واتجاهات سائدة، ومن قواعد أخلاقية أساسية يجدون أنفسهم ملزمين باتباعها، ولو لم يأمرهم القانون بذلك. وإلى جانب المعيار الموضوعي يجب الأخذ بالحسبان فكرة النسبية؛ لأنه لا يمكن تحديد دائرة الآداب وضبطها في أمة معينة وجيل معين، فقد قضيفي فرنسا بإبطال شرط العزوبة المفروض على مضيفة الجو (الطيران) لأنه اعتداء على الآداب بصورة غير مباشرة، مادام أنه يحث على العيش في معاشرة غير مشروعة. وإن تحديد مفهوم الآداب صعب بصورة عامة، وقد درج الفقه القانوني الغربي ومنذ سنين طويلة على تحديد مفهوم الآداب بأمثلة ضيقة ومباشرة وتقليدية وحبسه في قوالبها، كمنازل الدعارة، ونوادي القمار، والعلاقات الجنسية غير المشروعة، في حين يجب توسيع دائرة هذا المفهوم ليشمل حالات قد تؤدي إليه بصورة غير مباشرة كما في المثال آنف الذكر، بحسبان أنه (أي مفهوم الآداب) مفهوم نسبي ومتغير.
وعلى هذا الأساس فان الفقه القانوني يذهب الى تعريف الآداب بأنها: "مجموعة من القواعد السلوكية، والشمائل المحمودة المتعارف عليها بين الناس، في زمان ومكان معينين، وجدوا أنفسهم ملزمين باتباعها، ومتفقين على احترامها بينهم، طبقاً لناموس أدبي سائد في علاقاتهم ومتّرسخ في ضميرهم الاجتماعي". ويؤدي انتهاك هذه القواعد، والخروج عليها ومساسها، أو السخرية منها وعدم المبالاة بها إلى نوع من الإساءة إلى شعورهم العام. ومعيار الآداب هو معيار موضوعي اجتماعي، وليس ذاتياً، يرجع فيه إلى ما أجمع عليه الناس، إضافة إلى أنه نسبي، يختلف من مجتمع لآخر، وغير ثابت، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة، وللدين والعرف أثر مهم في تكوينه وتكييفه.
2- التمييز بين الآداب وقواعد الأخلاق في الفقه القانوني: يجب التمييز وعدم الخلط بين الآداب وقواعد الأخلاق، فقواعد الآداب هي دون قواعد الأخلاق منزلة، وهي في حقيقتها برأي كاربونييه Carbonier ليست سوى عادات الأفراد الشرفاء في زمان ومكان معينين، فهي بذلك لا تشبه القواعد الأخلاقية السماوية الثابتة، بل هي متغيرة تتبع السلوك الإنساني الذي له معايير تختلف من مجتمع لآخر. فقد ذهب أحد علماء الاجتماع للتعبير عن اختلاف الآداب باختلاف المجتمعات إلى القول: إن الناس ظلوا يظنون أن الوقوف للتعبير عن الاحترام مثلاً شيء غريزي، حتى وجدوا أُناساً يعبرون عن احترامهم بالجلوس. إذاً عبارة الأخلاق العامة أشمل من عبارة الآداب، أي إن ما ينافي الآداب ينافي حتماً الأخلاق، أما ما ينافي الأخلاق فقد لا يُعد انتهاكاً لقواعد السلوك التي تعارف عليها المجتمع، فمنزلة الآداب من الأخلاق هي بمنزلة القاعدة من تطبيقاتها. أجل، إن المجتمع المتوازن هو الذي تنتشر فيه مفاهيم الوعي بالآداب، ثم الالتزام بها، في حين أن منظومة الأخلاق لها جذورها الضاربة في أعماق النفس البشرية. وهناك رقعة عريضة مشتركة بين القانون والأخلاق ليست بعيدة المنال، فكلاهما ـ القانون والأخلاق ـ معني بفرض مستويات معينة من السلوك، ويعزز كل منهما الآخر بوصفه جزءاً من نسيج الحياة الاجتماعية، وقد لخص الفيلسوف كانت Kant مشكلة الأخلاق في رسالة له عنوانها: "حول القول الذائع" بقوله: هذا أمر جيد على الصعيد النظري، ولكنه ليس شيئاً في المستوى العملي. وذهب الفيلسوف الفرنسي رو F. Rauh في مؤلفه "التجربة الأخلاقية" إلى أنه من الممكن أن نطلق على الاعتقاد الأخلاقي اسم تجربة، ولكنها ليست تجربة حادث، بل تجربة مثل أعلى، وليست مبدأ أو فكرة تخطر في الذهن، بل هي حقيقة موضوعية. فالاعتراف الاجتماعي بالإلزام الأخلاقي بحسب ساليه يحول فعل الإحسان إلى فعل واجب، وقد يُلقي على عاتق القضاء توضيح الجرائم الجديدة وتمييزها وفقاً لمتطلبات الأخلاق العامة، كما في قصة "دليل السيدات" إذ أُدين ناشر قام بنشر كُراس يتضمن عناوين وهواتف ومعلومات عن بعض المومسات بالتآمر على إفساد الأخلاق العامة، وقد أيد مجلس اللوردات حكم الإدانة، كما أيد القضاء دور المحكمة في الأخلاق العامة وواجبها في حماية مصلحة الدولة الأخلاقية، وقد كان لهذه القضية مضاعفات خطرة في مضمار الحرية وحكم القانون. إلا أن ما يجمع بين مفهومي الآداب والأخلاق فكرة واحدة هي حماية الشعور العام من الأذى بالجرأة على القواعد والفضائل التي تعارف الناس على احترامها بدافع دينهم وعاداتهم، أو بحكم التفسير السليم أو الأخلاق الفاضلة. . (النظام العام والاداب العامة، د. مازن نهار، الموسوعة القانونية، ص٨).
اما مفهوم الاداب العامة في الدولة الإسلامية فانه مختلف، فالآداب العامة في المجتمع الاسلامي هي الاداب التي تقررها الشريعة الاسلامية، فهي الأخلاق العامة السائدة في المجتمع المسلم، وتندرج فيها عادات واعراف المجتمع الحميدة التي لاتخالف أحكام الشريعة الاسلامية، والاداب الاسلامية مكتوبة، أما الآداب العامة النابعة من الاعراف والعادات فهي غير مكتوبة ولكنها شائعة ومستقرة في سلوك المجتمع، وتطبيق الاداب الاسلامية ملزم للمسلم أما الآداب الناتجة عن الاعراف والعادات فمعيار تطبيقها هو الرجل العادي.
والاداب الاسلامية النابعة من الشريعة الاسلامية ملزمة للمسلم، ويجب تعزيره وردعه ان لم يلتزم بها، وينطبق هذا المفهوم على العبارات المخالفة للاداب الشرعية التي مصدرها الشريعة الاسلامية (فكرة النظام العام في الفقه الاسلامي، ا. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مجلة جامعة بسكرة الجزائر ٢٠١٦م، ص٧٦) .
الوجه الخامس: التكييف القانوني للعبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام او الآداب العامة:
من خلال ما سبق عرضه في الأوجه السابقة يظهر أن العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة هي عبارة عن جرائم قذف وسب وإهانة علنية وفقاً لقانون الجرائم والعقوبات اليمني، ولذلك كان الأحرى بالمادة (175) مرافعات السابق ذكرها ان تنص صراحة على ان محو العبارات المشار إليها لا يخل بحق الخصم الذي تم توجيه العبارات في المسائلة الجنائية والمدنية للخصم الذي قام بتوجيه العبارات، وان المحكمة ملزمة بضبط هذه الجرائم التي وقعت في جلسات المحاكمة أو في مذكرات الخصوم المقدمة الى المحكمة.
كما ينبغي على قانون المرافعات أن يصرح بان توجيه العبارات المشار إليها يعد من جرائم الجلسات، لأن التلفظ بتلك العبارات أو كتابتها وتقديمها للقاضي يدل على أن الخصم لا يحترم القاضي، وأن الخصم يخل إخلالاً جسيماً بإجراءات التقاضي وجلسات المحاكمة وصرفها عن تناول موضوع النزاع والتركيز عليه إضافة إلى إهانة الخصوم وتجريحهم.
الوجه السادس: مدى فاعلية (محو العبارات) لظاهرة التنابز في مرافعات الخصوم وتوصيتنا للمقنن اليمني:
بعد أن يكيل الخصم لخصمه القذف التعزيري كاتهام الشخص بالغباء أو عدم الفهم أو الجهل أو الكذب. . الخ، وبعد ان يتلفظ الخصم أو يكتب عبارات السب والشتم والإهانة العلنية في مجلس القضاء في جلسة علنية يحضرها الجمهور وبعد إهانة الخصم للقضاء وإسماع القضاة العبارات والأقوال النابية والسوقية يتلخص موقف القضاء إزاء كل ذلك يتلخص بجواز(بمحو العبارات من الأوراق)!!!؟.
حتى أن النص الأعور لم يلزم الخصم الذي تلفظ بتلك العبارات المهينة أو كتبها يلزمه بالإعتذار للقضاء و للخصم المجني عليه بتلك العبارات النابية، وهذا التساهل القانوني هو الذي يجعل قاعات المحاكم في اليمن ميداناً يتبارى فيه الخصوم في تبادل السباب والإهانات التي هي في أساسها إهانة للقضاء، وبدلاً من ضبط تلك الجرائم العلنية المشهودة بإعتبارها من جرائم الجلسات ومسائلة الخصوم يتبرع القاضي من تلقاء نفسه يتبرع بمحو تلك العبارات، ولاشك أن هذا هو الضلال المبين.
ولذلك أجزم أن جملة (محو العبارات الجارحة) المنصوص عليها في المادة (175) مرافعات هي مسخ لردة فعل القانون والقضاء في مواجهة السفهاء من الخصوم بل أن النص يحتوي ردة فعل الخصم الذي تم توجيه الإهانة والسب إليه فقد جاءت (محو العبارات الجارحة) بديلاً سيئاً لردع سوء خلق بعض الخصوم وقلة أدبهم.
ولذلك نوصي مخلصين: بإعادة النظر في ذلك النص، وأن يتضمن النص على أن التلفظ بالعبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة يعد جريمة من جرائم الجلسات يتم ضبطها وفقاً لنص المادة (177) مرافعات سيما أن المادة (177) مرافعات قد صرحت أنه عند وقوع في الجلسة غير ما ذكر تقوم المحكمة بضبطها، الا ان صيغة المادة (١٧٥) مرافعات توحي ان العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة ليست جرائم جلسات وان سبيل مواجهتها يقتصر على (محو تلك العبارات)، (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل المحاماة الجزء الثاني، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة ٢٠٢٥م، ص١١٤).
الوجه السابع: موقف الفقه الاسلامي من العبارات الجارحة أو المخالفة للنظام العام أو الآداب العامة:
وبيان ذلك كماياتي:
أولا: موقف الفقه الاسلامي من العبارات الجارحة:
سبق القول ان العبارات الجارجة هي تلك التي تجرح النفس عند سماعها، لانها تتضمن السخرية والتهكم والإهانة للناس، ومن المعلوم أن الشريعة تحرم ذلك، والنصوص في هذا الباب كثيرة، نكتفي بعرض بعضها، فالعبارات الجارحة تؤدي الى جرح الناس والحاق الاذى النفسي بهم، وذلك محرم بقوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا). الاية (٥٨) الأحزاب.
وقد سبق القول ان العبارات الجارحة تتضمن عبارات السخرية والتهكم على الناس أوغمزهم أو لمزهم، وهذا الاقوال محرمة في الشريعة الاسلامية لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11] فمعنى السخرية في الاية الكريمة: هو الاستهزاء الذي يقصد به إنتقاص الناس.
فالنهي في هذه الاية عام يشمل السُّخْرِية بأنواعها المختلفة فالسخرية محرمة، فالإمام السفاريني رحمه الله يقول في كتابه "غذاء الألباب" (1/ 135): وتحرم السُّخْرِية والهُزْءُ؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ فالنهي في هذه الآيات يفيد التحريم.
واللمز: هو الطعن والضرب باللسان، والهماز: هو اللماز من الرجال والنساء، وهو مذموم ملعون عند الله وعند الناس، ومأواه جهنم وبئس المصير، قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]، فمعنى: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، أي: لا يعيب بعضكم على بعض؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 10-11]، أي: يحتقر الناس ويهمزهم، طاغيًا عليهم، ماشيًا بينهم بالنميمة. وقال الله في هذه الآية الكريمة: ﴿ ولاتَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات:١١]، أي: لا يدعُ أحدكم أخاه بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها، والألقاب التي ينفر منها ويكرهها صاحبها؛ إذا كان له أسماء حسنة غيرها، فالنبز لقب السوء، وهو المنهي عنه، لكونه يكرهه المدعو، إمَّا لكونه تقصيرًا له، أو ذمًّا له وشينًا به.
والباعث على السُّخْرِية واحتقار الناس إنما هو الكبرُ، وهو من أعظم خصال الشر، والنبيُّ صلى الله عليه واله سلم يقول كما في "صحيح مسلم": ((الكِبْر بطرُ الحقِّ وغمطُ الناس))، فالمُتَكَبِّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيرِه بعين الانتقاص؛ فيحتقرهم ويزدريهم، وهذا محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجَنَّةَ من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْر))؛ (رواه الترمذي).
وقد ورد الخطاب بصيغة جماعية في قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) مع ان المفروض أن الذي يسخر هو فرد واحد وليس القوم كلهم، ولكن الله سبحانه أسند السخرية المنهي عنها إلى (قوم)،مع أن العادة جارية بأن السخرية لا تنشأ إلا من فرد واحد؛ فقد ورد بصيغة جماعة (قوم)،لان القوم الذين يسكتون عن سخرية الساخر منهم أثمون، فالراضي عن الفعل شريك في الإثم.
لأن الواحد يتكلم باسم جماعته، ومن هنا لو أن البعض لم يسخر ولم يرض لكنه مشارك بالسكوت بمعنى أنه سمع ورضي بذلك، فالساكت مشارك للذي سب أو سخر في الإثم، في الجماعة الواحدة؛ فالذي يتكلم منهم ويسخر من الطائفة الثانية كأنه تكلم باسم الجميع، والجميع يتحمل الإثم؛ لأنه سكت ورضي.
والحاصل: أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، والقوم موافقون وراضون وساكتون فهم شركاء في الإثم، أما من ينكر ذلك فقد خرج منهم، ولذلك يجب على القاضي ان يمنع الخصوم من التلفظ بالعبارات الجارحة أو كتابتها ويجب عليه ان يعزرهم إن فعلوا ذلك.
وقوله: ﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ واللمز هو العيب، وقد جاء النهي: (وَلا تَلْمِزُوا)عقب النهي عن السخرية، لأن من سخر من إنسان في نفسه لمزه بلسانه عند غيره،فهذا مترتب على ذاك.
﴿ أَنْفُسَكُمْ ﴾ فسَّر بمعنيين:
المعنى الأول: لا يلمز بعضكم بعضاً، لأن كل واحد منا بمنزلة نفس الإنسان، أخوك بمنزلة نفسك، فإذا لمزته فكأنما لمزت نفسك.
والمعنى الثاني: إن المعنى لا تلمز أخاك، لأنك إذا لمزته لمزك، فلمزك إياه سبب لكونه يلمزك، وحينئذ تكون كأنك لمزت نفسك، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من لعن والديه» فقالوا: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه»رواه البخاري، وهذا الأمر ينطبق على تبادل العبارات الجارحة بين الخصوم مثلما اشار الحكم محل تعليقنا.
قوله تعالى: ﴿ وَلاتَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ﴾ اللقب: هو الاسم الذي يشعر بذم أو بمدح، يذكر تارة للتعريف وتارة للتنقص، وإذا كان للتنقص وكان ذلك المسمى به يكرهه؛ فلا يجوز أن يذكر به.
قوله تعالى: ﴿ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ﴾ يعني بئس لكم أن تنقلوا من وصف الإيمان إلى وصف الفسوق، فإذا ارتكبتم ما نهى الله عنه صرتم فسقة، فلا تجعل نفسك بعد الإيمان فاسقاً. (غذاء الالباب في شرح منظومة الاداب، العلامة محمد بن احمد السفاريني، دارالكتب العلمية٢٠٠٧م، ص٣٨٩).
ثانيا: موقف الفقه الاسلامي من العبارات المخالفة للنظام العام:
سبق التعريف بمفهوم النظام العام، والمقصود بالنظام العام في الشريعة الإسلامية حفظ وتحقيق الكليات الخمس : الدين والنفس والعرض والمال والعقل، إضافة إلى النصوص والاحكام الشرعية القطعية الدلالة.
وبناء على هذا المفهوم فان العبارات التي تتعلق بتلك المقاصد او الكليات أو تتعلق بالاحكام الشرعية القطعية تكون من قبيل الفول المحرم الذي يستوجب تطبيق العقوبة الشرعية التي قد تكون حدية مثل عبارة الردة أو عبارة القذف، وقد تكون العبارات المخالفة للنظام العام الاسلامي من قليل التعازير كالسب والتشهير والاهانة والتحقير.
ثالثا: موقف الفقه الاسلامي من العبارات المخالفة للاداب العامة:
سبق القول ان الآداب العامة في المجتمع الاسلامي هي الاداب التي تقررها الشريعة الاسلامية بالاضافة الى الأداب العامة النابعة من العرف والعادة في المجتمع المسلم التي لاتخالف الشرع، وتندرج فيها عادات واعراف المجتمع الحميدة التي لاتخالف أحكام الشريعة الاسلامية، والاداب الاسلامية مكتوبة، أما الآداب العامة التي تعتمد على الاعراف والعادات فهي غير مكتوبة ولكنها شائعة ومستقرة في سلوك المجتمع، وتطبيق الاداب الاسلامية المقررة في الشريعة الاسلامية ملزم للمسلم أما الآداب الناتجة عن الاعراف والعادات فمعيار تطبيقها هو الرجل العادي.
والاداب الاسلامية النابعة من الشريعة الاسلامية ملزمة للمسلم، ويجب تعزيره وردعه ان لم يلتزم بها، وينطبق هذا المفهوم على العبارات المخالفة للاداب الشرعية التي مصدرها الشريعة الاسلامية (فكرة النظام العام في الفقه الاسلامي، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مجلة جامعة بسكرة الجزائر ٢٠١٦م، ص٧٦) . والله اعلم.