لا يختص الخبير بتفسير العقد
أ. د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
تفسير العقود مسألة قانونية يختص بها القاضي الذي ينظر النزاع، إذ يتولى القاضي تفسير العقد في ضوء إرادة المتعاقدين عن طريق قيام القاضي بإستجواب المتعاقدين للوقوف على إرادتهم الحقيقية، كما يعتمد القاضي في تفسيره للعقد على كيفية تنفيذ المتعاقدين للعقد بعد إبرامه، كما يستعين القاضي في تفسيره للعقد بالأحكام الشرعية الناظمة للعقود وكذا بالنصوص القانونية ذات الصلة بالعقد، وهذه الوسائل قانونية محضة يختص بها القاضي.
أما دور الخبير في هذا الشأن فهو كشف وبيان طريقة التعامل بين المتعاقدين تنفيذاً للعقد الذي سبق لهم ان ابرموه، حتى يقف القاضي على كيفية تطبيق المتعاقدين المتنازعين للعقد بإعتبار تطبيق المتعاقدين للعقد وسيلة من أهم وسائل تفسير العقد، بيد أنه لا يجوز للخبير عند دراسته وفحصه لطريقة تعامل المتعاقدين أن يتولى بنفسه تفسير العقد، وان يطبق تفسيره الشخصي للعقد عند تنفيذه للمهمة، لأن تفسير العقد مسألة قانونية يختص بها القاضي، فليست مسألة فنية يختص بها الخبيرالعدل، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 16/4/2011م في الطعن رقم (44530)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (خاصة أن تقرير الخبير قد ترك للمحكمة الفصل في مسائل قانونية، ومن ذلك مثلاً ما أشار إليه الخبير من صعوبة في قراءة المستندات المقدمة من الأطراف كعقد الإيجار والوثائق الأخرى التي تمسك كل طرف بأحقيته بموجب ما ورد فيها من حيث التفسير حسب تعبير الخبير، ذلك أن تفسير العقود والمحررات المطروحة على المحكمة من صميم عمل القاضي)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الاول: معنى تفسير القاضي للعقد:
تفسير العقد عملية ذهنية يقوم بها القاضي بسبب ما اعترى العقد من غموض وإبهام وذلك للوقوف على الإرادة الحقيقية المشتركة للمتعاقدين، ويستند القاضي في ذلك إلى بنود العقد ذاته والعناصر الخارجية عنه والمرتبطة به، وهناك من يعرف تفسير العقد بأنه: الوسيلة القضائية لإظهار إرادة المتعاقدين في العقد وتحديد مضمونه.
وقد تعددت تعاريف تفسير العقد، حيث اعتمد بعض الفقه في تعريفه لتفسير العقد معيار الهدف من عملية التفسير وهو “تحديد مضمون العقد أي المعنى المراد منه فيما اعتمد فريق ثان من الفقه في تعريفه لتفسير العقد على معيار الباعث على تفسير العقد وهو البحث عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين، في حين اعتمد فريق ثالث في تعريفه لتفسير العقد على الهدف والباعث معاً، فقدعرف تفسير العقد بانه: “تلك العملية التي يقوم بها المفسر بسبب ما اعترى العقد من غموض من أجل الوصول إلى الإرادة الحقيقية المشتركة للطرفين مستنداً إلى العقد ذاته والعناصر الخارجة عنه والمرتبطة به. (تفسير العقد في القانون المدني المصري والمقارن، د. عبد الحكم فودة، منشأة المعارف الإسكندرية 2016م، صـ20).
الوجه الثاني: تفسير العقد وفقاً للقانون المدني اليمني:
وردت النصوص المنظمة لتفسير العقد في القانون المدني اليمني وردت متفرقة في سياق تنظيم القانون، ولم يفرد القانون للنصوص بابا مستقلا كما الحال في القوانين المدنية في الدول الاخرى.
فقد وردت في القانون المدني نصوص عدة أشارت إلى تفسير العقد؛ منها المادة (205) مدني التي نصت على انه: (إذا استعمل المتعاقدان الفاظاً خاصة بعقد لإبرام عقد آخر تواف يمني رت أركانه وشروط صحته فالعبرة بما قصدا إليه كقصد الإيجار بلفظ البيع) وكذا نصت المادة (212) من القانون ذاته على أنه: (يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما توجبه الأمانة والثقة بين المتعاقدين إذا كان في العقد إجمال، ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد صريحاً فيه فحسب بل يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للشرع والعرف والعدالة بحسب طبيعة الإلتزام، وإذا كانت عبارات العقد واضحة فلا يجوز العدول عنها عن طريق تفسيرها بحجة التعرف على إرادة المتعاقدين)، كما نصت المادة (213) مدني على أنه: (إذا حصل شك في عبارات العقد يفسر الشك في مصلحة المدين لأنه الطرف الملتزم، إلا في عقود الإذعان وهي التي وضع شروطها القوي على الضعيف فلا يجوز أن يكون التفسير فيها ضاراً بمصلحة الطرف المذعن الضعيف)، كذلك نصت المادة (214) مدني على أنه: (إذا كان العقد قد تم بطريقة التسليم الإذعان لشروط تعسفية مرهقة جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط او أن يعفي الطرف الذي سلم بها منها وذلك وفقاً لما تقضي به الشريعة والعدالة، وإذا وجد نص يدل على إعتبار الشروط التعسفية المرهقة كان باطلاً).
الوجه الثالث: تفسير العقد مسألة قانونية:
تفسير العقد مهارة قانونية خاصة لا يجيدها إلا الضليع المشتغل بالعلوم القانونية واللغوية، إذ يتطلب تفسير العقد الرجوع إلى الاحكام الفقهية المنظمة للعقد وكذا الرجوع إلى النصوص القانونية المنظمة للعقد، والرجوع إلى المراجع والمصادر الفقهية والقانونية الشارحة للاحكام الفقهية والنصوص القانونية وتفسير ما ورد في العقد أو المحرر في ضوء ذلك.
ومن أهم اعمال تفسير العقد: التكييف القانوني للعقد محل الخلاف أي معرفة التسمية القانونية للعقد أو التصرف حتى يتم تطبيق الاحكام الشرعية والنصوص القانونية عند تفسير ما ورد في العقد، ومن المقرر قضاءً أن تفسير العقد محل الخلاف أمام القضاء يتم من قبل القاضي.
أما المسألة الفنية التي يختص بدراستها الخبير فهي المسألة الفنية الدقيقة التي يدق فهمها على القاضي فلا يستطيع الإحاطة بها، ولذلك يقوم القاضي بتعيين الخبير لدراستها وبيان الرأي الفني فيها وليس الرأي القانوني. (التعليق على احكام المحكمة العليا في مسائل العقود، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2024م، صـ175).
الوجه الرابع: إسهام الخبير غير المباشر في تفسير العقد عن طريق تقديم البيانات الفنية للقاضي التي يستعين بها القاضي في تفسير العقد:
سبق القول أن تفسير العقد مسألة قانونية يختص بها القاضي وليست مسألة فنية يختص بها الخبير، إلا أن الخبير يقوم ببيان وشرح كيفية تطبيق الخصوم المتعاقدين لبنود العقد، لأن تطبيق المتعاقدين لبنود العقد بعد التعاقد يكشف عن إرادة المتعاقدين بإعتبارها بيت القصيد في تفسير العقد.
ولذلك فإن الخبير يقدم المعلومات والبيانات عن كيفية تطبيق المتعاقدين وتنفيذهم للعقد بعد إبرامه، وهذه البيانات من أهم المصادر التي يعتمدها القاضي في تفسيره للعقد، بيد ان عمل الخبير لايعد تفسيرا للعقد. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الخبرة الجزء الثاني، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، صـ219).
ويسهم تفسير العقد في تحديد التزامات المتعاقدين محل الخلاف، لان التفسير يرفع الغموض واللبس عن العقد ويحدد مضمون بنود العقد في ضوء القواعد الأصولية واللغوية والضوابط القضائية لعملية تفسير العقد، وذلك حتى يتأتى للمتعاقدين تنفيذه حفظاً لمبدأ استقرار المعاملات الذي يعتبر ركيزة أساسية لتحقيق التقدم والازدهار في المعاملات المدنية والتجارية.
الوجه الخامس: انواع تفسير العقد:
ينقسم تفسير العقد إلى ثلاثة أنواع: تفسير تشريعي يصدر من المشرع في صياغته للنصوص القانونية، مثل إحالته إلى العرف أو الاتفاق، وهناك تفسير إرادي للعقد مثل قيام المتعاقدين بإبرام اتفاقات تفسيرية قبل إبرامهم العقد أو لاحقة للعقد، تهدف إلى منع أي نزاع قد يثار بشأن دلالة بعض الألفاظ في العقد، وهذا النوع من التفسير غالباً ما نجده في العقود الدولية، أما النوع الثالث: فهو التفسير القضائي للعقد وهو التفسير الذي يقم به القاضي اثناء نظره للنزاع بشان العقد المبرم فيما بين المتعاقدين المتنازعين عندما يطرح النزاع عليه من طرف المتعاقدين حيث يقوم القاضي بعملية البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين، ومحل هذا التعليق هو تفسير القاضي للعقد بإعتباره ذلك من إختصاص القاضي حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
الوجه السادس: لايجوز للقاضي العدول في تفسيره للعقد عن العبارة الواضحة في العقد:
وفي هذا الشان نصت المادة (212) من القانون المدني اليمني على أنه: (يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما توجبه الأمانة والثقة بين المتعاقدين إذا كان في العقد إجمال، ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد صريحاً فيه فحسب بل يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للشرع والعرف والعدالة بحسب طبيعة الإلتزام، وإذا كانت عبارات العقد واضحة فلا يجوز العدول عنها عن طريق تفسيرها بحجة التعرف على إرادة المتعاقدين).
ومحل الشاهد في هذا النص هو الفقرة الاخيرة من النص التي ورد فيها: (وإذا كانت عبارات العقد واضحة فلا يجوز العدول عنها عن طريق تفسيرها بحجة التعرف على إرادة المتعاقدين).
ويعرف النص الواضح بأنه: “النص الذي تكفي قراءة واحدة له لإظهار معناه، والغموض قد يتحقق إذا كانت عبارة النص أو أحد ألفاظه تحتمل أكثر من معنى واحد، بأن يكون له معنيان لغويان، أو معنى لغوي ومعنى آخر اصطلاحي، ومن أمثلة ذلك أن لفظ الاجير يرادف من الناحية اللغوية لفظ المستاجر، إلا أنه من الناحية الاصطلاحية يقصد به: كل شخص يعمل لدى صاحب العمل ويكون تحت إدارته مقابل أجر يدفع للعامل.
ويعرف النص الواضح الدلالة بانه: “النص الذي يدل بنفس صيغته على المراد منه من غير توقف على أمر خارج عن صيغته، إذ أن النص الواضح الدلالة يدل على معنى معين محدد لا سبيل أن يفهم منه معنى غيره، وبالتالي لا يمكن تفسيره لأنه نص صريح وقطعي الدلالة.
فالمقصود بوضوح العبارة في العقد هو التطابق الكلي بين التعبير عن الإرادة الظاهرة الإرادة الباطنة، عن طريق تلك العبارات التي تكشف بجلاء عن الإرادة الحقيقية للطرفين المتعاقدين، فلا يكفي أن تكون العبارات واضحة في ذاتها، طالما أنها عاجزة عن الكشف عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين، ويحدث هذا عندما يستخدم المتعاقدان ألفاظا واضحة، ولكنها تكشف في ظاهرها عن إرادة مغايرة للإرادة الخفية الحقيقية، فالمعنى الظاهر الذي توحي به العبارات ليس هو مقصود المتعاقدين، إذ يقصدان أمراً ولكنهما يعبران عنه بألفاظ لا تستقيم مع إبراز هذا الأمر وتكشف عن ذلك ظروف الواقع وملابساته، أما إذا كانت عبارة العقد تحتمل أكثر من معنى واحد، فإننا في هذه الحالة لا نكون أما عبارة واضحة وإنما أمام عبارة غامضة.
الوجه السابع: عدم جواز تفسير العبارات الواضحة في العقد وفقا للنص القانوني:
سبق ان عرضنا بعض المادة (212) من القانون المدني اليمني التي نصت على انه: (وإذا كانت عبارات العقد واضحة فلا يجوز العدول عنها عن طريق تفسيرها بحجة التعرف على إرادة المتعاقدين)، ويماثل هذا النص الفصل 461 من القانون المغربي الذي نص على أنه “إذا كانت ألفاظ العقد صريحة امتنع البحث عن قصد صاحبها”، كذلك يطابق هذا النص نص المادة 150 من القانون المدني المصري، والمادة 151 من القانون المدني السوري، والمادة 152 من القانون المدني اللبناني، والفقرة الأولى من المادة 111 من القانون المدني الجزائري.
وهذه النصوص تدل على أنه لا يجوز للقاضي أن ينحرف عن المعنى الظاهر للعبارة الواردة في العقد بحجة تفسيره، وأنه يجب عليه أن يأخذ عبارات المتعاقدين الواضحة كما هي، فلا يجوز له أن يفسرها، وهذا ما أكدته أحكام القضاء.
الوجه الثامن: موقف الفقه القانوني من تفسير العبارات الواضحة في العقد:
اختلف الفقه القانوني بشان قصد المقنن بالعبارة الواضحة في النص القانوني السابق بعدم جواز تفسير العبارة الواضحة، إذا اختلف الفقه بشان هذه المسالة على قولين:
القول الأول: يذهب الى ان قصد المقنن في النصوص القانونية السابق ذكرها هو عدم جواز تفسير العبارة الواضحة في العقد:
فهذا القول يعتنق نظرية الإرادة الظاهرة أي أنه يجب على القاضي تطبيق النص القانوني الذي يمنعه من تفسير الارادة الظاهرة في عبارات العقد، لان النص القانوني السابق قد صرح بأنه لا يجوز إطلاقاً البحث وتفسير العبارات الواضحة في العقد ما لم يكتنفها غموض أو إبهام.
وقد اخذ الفقه الألماني بهذا القول، وفي رأيهم أن العبارات ما هي إلا وسيلة يستعملها الأطراف للتعبير عن إرادتهم الباطنة، ولهذا فإن العبارات تعبر بوضوح عن الإرادة الباطنة، ولذلك يجب أن نعتد في التفسير بالإرادة الظاهرة وإن أية محاولة لتفسير العبارة الواضحة تعد خرقاً من القاضي لإرادة الطرفين، وتبعا لذلك تعد خرقا للقانون.
ويرى أنصار هذا القول أنه لا يجوز للقاضي البحث عن الإرادة الباطنة عندما لا يوجد غموض في عبارات العقد وألفاظه، وأنه لا مجال للتفسير في هذه الحالة، فالقاعدة أن اللفظ الظاهر يعبر بصدق عن إرادة المتعا قدين.
ويعتبر أصحاب هذا القول وعلى رأسهم الفقيه “بول” أن أية محاولة لتفسير للعبارة الواضحة إنما يعد تحريفاً وتشويهاً لها.
ويرى الفقيه “كاريه” أنه إذا كان الشرط أو البند أو العبارة الواردة في العقد واضحة ومحددة، فيجب التمسك بمعناها الواضح، دون إعطائه معنى مغايرا، إذ أن ذلك يتفق والنية الحقيقية للطرفين المتعاقدين.
وقد استدل أصحاب القول بعدم جواز تفسير العبارات الواضحة استدلوا بادلة عدة منها:
1- في تفسير العبارات الواضحة مخالفة لنص المادة 1134 من القانون المدني الفرنسي، والتي يقابلها نص المادة (٢١٢) مدني يمني والفصل 461 من ق. ل. ع المغربي، فهذه النصوص تصرح بأن للعقد قوة ملزمة بإعتباره شريعة للمتعاقدين، ومن ثم يجب على القاضي احترام العبارات الواضحة الواردة في العقد وعدم الخروج عنها بحجة تفسيرها.
إن تفسير عبارات العقد الواضحة، يعني اللجوء إلى عناصر خارجية للعقد مثل القرائن والبينة لإثبات النية المغايرة للعبارات المكتوبة الواضحة، وهذا يخالف القاعدة التي تتعلق بحظر إثبات ما يخالف أو يجاوز الثابت بالكتابة إلا بالكتابة، فتفسير العبارات الواضحة يخالف القواعد العامة للإثبات والتي يجب مراعاتها عند تفسير العقد.
2- السماح للقاضي بتفسير العبارات الواضحة في العقد يؤدي الى تحكم القاضي، إذا ما ذهب إلى معنى مغاير للعبارات الواضحة في العقد وليس لديه أساس يستند إليه لاستخلاص الإرادة الحقيقية إلا الحدس والتخمين، إذ أن القاضي يطلق لخياله العنان في تقصي الإرادة الباطنة التي قد تكون مخالفة للإرادة الظاهرة التي كشفت عنها الألفاظ الواضحة، فالقاضي بذلك يعيد بناء العقد على هواه. (ضوابط تفسير العقود بين النص القانوني والإجتهاد القضائي، د. عبد المهيمن حمزة، جامعة طنجة المغرب، فضاء المعرفية القانونية ' ص١٢).
القول الثاني: وقد ذهب الى جواز تفسير العبارة الواضحة في العقد:
واصحاب هذا القول يعتنقون نظرية الإرادة الباطنة للمتعاقدين، واصحاب هذا القول هم أغلبية الفقه، ويرون أن القانون عندما نص على عدم جواز تفسير العبارة الواضحة في العقد إنما قصده من ذلك وضوح الإرادة لا اللفظ، وإنه ليس المقصود بوضوح عبارة العقد وضوح كل جملة أو تعبير على حده، بل وضوح دلالة العقد بصورة عامة، ذلك أن وضوح العبارة غير وضوح الإرادة، فقد تكون العبارة في ذاتها واضحة ولكنها تدل على أن المتعاقد أساء استعمال التعبير فقصد معنى وعبر عنه بلفظ لا يستقيم له المعنى.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: “بيد أنه لا يكفي أن تكون عبارة العقد واضحة في ذاتها حتى تكون في غير حاجة إلى تفسير، وإنما يجب أن تكون فوق ذلك واضحة بالنسبة إلى دلالتها على ما اتجهت إليه إرادة المتعاقدين المشتركة، إذ قد تكون العبارة واضحة في ذاتها ولكن يعتريها الغموض بالنسبة إلى حقيقة مدلولها.
ويرى أصحاب هذا القول أن السيادة للإرادة الحقيقية للطرفين على التعبير المادي عنها، ومن أجل هذا فمتى كانت عبارات العقد واضحة الدلالة في الكشف عن إرادة الطرفين الحقيقية فعندئذ يستخلص القاضي إرادة الطرفين من المعنى الظاهر لعبارة العقد، أما إذا جاءت هذه العبارة الواضحة في ظاهرها ولكنها متعارضة في الواقع مع الإرادة الحقيقية للمتعاقدين، فإن هذا الوضوح لا يمنع التفسير بل يتعين البحث عن الإرادة الحقيقية لأن وضوح الألفاظ لا يعني وضوح الإرادة. (نظرية العقد”، د. عالفتاح عبد الباقي: “، الطبعة 1981، ص: 305(
وقد استدل أصحاب هذا القول بالادلة الاتية:
1- تعذر وجود معيار للتفرقة بين الشرط الغامض والشرط الواضح، فمن الناحية العملية لايمكن أن تكون هناك شروط واضحة، واذا كانت كذلك فانها تكون متعارضة داخل العقد ذاته.
2- مبدأ “المعنى الواضح يشوبه الكثير من الغموض، فما يراه البعض واضحاً لا يراه الآخرون كذلك”.
3- إن المادة التي وضعت أساس نظام التفسير وبالنظرة الفاحصة لهذه المادة أي المادة 1134 من القانون المدني الفرنسي والتي يقابلها نص المادة (٢١٢) مدني يمني ويقابلها أيضا نص الفصل 461 من ق. ل. ع المغربي، نجد أنها تقرر بشكل ضمني وجوب البحث عن النية المشتركة للطرفين دون التوقف عند المعنى الحرفي للألفاظ، وهذا ما يستشف من خلال تعبيرها بـ “…. امتنع البحث عن قصد صاحبها”، إذ المقصود وضوح معنى العبارة وليس وضوح لفظها، فهي تطلب مراعاة الإرادة الحقيقية أفضل من التوقف عند الإرادة الظاهرة، فالألفاظ لا يمكن أن تشكل عائقاً أمام استخلاص الإرادة الحقيقية، متى كانت الألفاظ لا تكشف عنها بذاتها.
إن الألفاظ الغامضة تحتاج بالطبع إلى تفسير، وإلا فما الذي يزيل الغموض؟ ولكن الذي يحتاج فعلاً للنص عليه لمنع اللبس هو حالة النص الواضح المتعارض مع الإرادة الحقيقية الواضحة، وبذلك فإن الاعتقاد السائد لدى الرأي أن هذه هي الحالة التي أراد المقنن التعرض إليها بتغليب الإرادة على التعبير عند التعارض بينهما.
يمكن استخلاص هذا التوجه حسب بعض الفقه في إطار التشريع المغربي من نص الفقرة الأولى من الفصل 462 التي جاء فيها: “يكون التأويل في الحالات التالية: 1) إذا كانت الألفاظ المستعملة لا يتأتى التوفيق بينها وبين الغرض الواضح عند تحرير العقد…”، وهذا ما أكد عليه القضاء حيث جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالرباط “عند تفسير العقد يجب على القضاة البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين بدل الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ.
الوجه التاسع: موقف القضاء من تفسير العبارات الواضحة في العقد:
عملا بنص المادة (٢١٢) مدني يمني، فإنه إذا كانت عبارات العقد واضحة امتنع البحث عن قصد صاحبها، وبالتالي يمتنع على قاضي الموضوع الالتفات عنها للبحث عن معنى آخر.
وبعبارة أخرى، إذا كانت إرادة المتعاقدين واضحة من خلال التعبير الذي اختاراه مظهراً لإرادتهما، فلا يجوز للقاضي أن يعدل عن هذه الإرادة الواضحة إلى إرادة غيرها يفترض أنها الإرادة الحقيقية للمتعاقدين.
وعليه، فالعقد الواضح لا يفسر بل ينفذ، كما ذهب إلى ذلك معظم الفقه وسار عليه القضاء الفرنسي منذ زمن ليس بالقريب.
بمعنى أن القاضي يفقد سلطته بشكل شبه مطلق في التفسير، إذا كانت عبارات العقد واضحة، هذا ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية، حينما كانت تعتبر التفسير في هذه الحالة تحريفاً للعقد، ([22]) وتؤسس ذلك على المادة 1134 من القانون المدني الفرنسي- المقابلة للمادة (٢١٢)مدني يمني والمقابلة للفصل 230 من ق. ل. ع المغربي لفرض رقابتها على قضاة الموضوع.
وهو نفس التصور الذي سار عليه المجلس الأعلى في المغرب، ونستشف ذلك من خلال العديد من القرارات الصادرة عنه، وفي مقدمتها القرار الصادر بتاريخ 13 فبراير 1962 حيث جاء فيه: (إن مهمة قضاة الموضوع هي تطبيق اتفاقات الأطراف، وهم لا يملكون حق تحريف البنود الواضحة والدقيقة، وذلك تحت ستار التفسير).
ومن ذلك أيضاً، القرار الصادر عن المجلس الأعلى بالمغرب بتاريخ 13 فبراير 1962، والذي جاء فيه: (… قضاة الموضوع مكلفون بتطبيق الاتفاقات المبرمة وليس من الجائز لهم تغييرها متى كانت شروطها واضحة وبينة…).
وجاء في قرار آخر للمجلس الأعلى في المغرب: (تحريف المحكمة للاتفاق الصادر من الطرفين عما تعاقدا عليه موجب لنقض حكمها).
وعموماً يمكن القول إن العقد الواضح لا يفسر بل ينفذ، وفي حالة التعسف في تفسيره فإن ذلك يرتب رقابة عليه من طرف المجلس الأعلى، نظراً لمخالفة القواعد التفسيرية المنصوص عليها قانوناً.
فقاضي الموضوع عند الاستعانة بهذه القواعد القانونية إنما يخضع لرقابة مطلقة للمجلس الأعلى، لذلك فأن المخالفة لهذه القواعد القانونية أو تجاهل لها أثناء القيام بمهمة التفسير إنما يعد مخالفاً للقانون بذلك فإن المجلس الأعلى يفرض رقابته، إذ يجب عليه نقض حكمه لمجاوزته القاعدة القانونية. (ضوابط تفسير العقود بين النص القانوني والإجتهاد القضائي، د. عبد المهيمن حمزة، جامعة طنجة المغرب، فضاء المعرفية القانونية ' ص١٢).
الوجه العاشر: التفسير في حالة غموض عبارات العقد:
نصت المادة (212) من القانون المدني اليمني على أنه: (يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما توجبه الأمانة والثقة بين المتعاقدين إذا كان في العقد إجمال، ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد صريحاً فيه فحسب بل يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للشرع والعرف والعدالة بحسب طبيعة الإلتزام، وإذا كانت عبارات العقد واضحة فلا يجوز العدول عنها عن طريق تفسيرها بحجة التعرف على إرادة المتعاقدين)، في نصت الفقرة الأخيرة من الفصل 462 من ق. ل. ع المغربي على: ” وعندما يكون للتأويل موجب يلزم البحث عن قصد المتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، وعند تركيب الجمل”.
يتبين من خلال هذا أنه إذا كانت عبارة العقد مجملة أو غير واضحة او يكتنفها الغموض، فإنها تصبح بحاجة إلى تفسير القضاء، الذي يجب عليه أن يبحث عن النية المشتركة للطرفين، فالقاضي في حالة ما إذا ثبت لديه غموض في العقد وجب عليه تفسير العبارة الغامضة من خلال استخراج الإرادة المشتركة للمتعاقدين. (الوسيط في شرح القانون المدني المصري”، الجزء الأول: نظرية الالتزام، الدكتور العلامة عبد الرازق السنهوري: الطبعة الثانية، 1963، ص: 602).
الوجه الحادي عشر: صورغموض عبارات العقد:
ليس هناك معيار فاصل لتمييز العبارة الواضحة عن العبارة الغامضة، سيما أن القانون لم يعرف العبارة الواضحة ولا العبارة الغامضة، وإنما تولى الفقه والقضاء الاشارة الى اكثر الصور التي تؤدي إلى غموض عبارات العقد، فأكثرالصور التي تؤدي الى غموض عبارات العقد هي: الإبهام، التناقض، النقص، والخطأ، وسوف نشير إلى هذه الصور كما ياتي:
الصورة الأولى: العبارة المبهمة في العقد:
وهي العبارة التي لا يتفق المتعاقدون بشأن معناها أو هي العبارة الغامضة التي لا تفيد شيئا، أو التي لايتم التعرف على القصد منها، وتؤدي إلى تعذر أو صعوبة الوصول إلى المعنى المراد منها.
فالعبارة المبهمة لا يتعرف المطالع لها على أي معنى يستقيم مع العقد، وقد تعرض المشرع المغربي لهذه الحالة من خلال الفقرتين الثانية والثالثة من الفصل 462 من ق. ل. ع، حيث جاء فيه: “يكون التأويل في الحالات التالية:
2- إذا كانت الألفاظ المستعملة لا يتأتى التوفيق بينها وبين الغرض الواضح الذي قصده المتعاقدون عند تحرير العقد.
3- إذا كان الغموض ناشئا من مقارنة بنود العقد المختلفة، بحيث تثير المقارنة الشك حول تلك البنود”.
اما القانون المدني اليمني فلم يرد فيه نص مماثل للنص المغربي.
الصورة الثانية: تناقض عبارات العقد:
يكون التناقض إذا تعارضت العبارات في البند أو الشرط الواحد من شروط العقد، فهذا التعارض يحتم على القاضي البحث عن المعنى الذي انصرفت إليه إرادة المتعاقدين، وقد تكون للعبارة أو اللفظ معاني عدة لكنها متناقضة وهذا ما يطلق عليه عند الأصوليين باللفظ “المشترك”، كأن يكون اللفظ مشتركا بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي، ففي هذه الحالة يجب حمل العبارة أو اللفظ على المعنى الشرعي وليس اللغوي، أما إذا كان اللفظ مشتركا بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه.
وقد تصدى المشرع المغربي لبعض حالات التعارض حيث نص في الفصل 471 ق. ل. ع على “إذا كتب المبلغ أو المقدار بالحروف وبالأرقام وجب عند الاختلاف الاعتداد بالمبلغ المكتوب بالحروف ما لم يثبت بوضوح الجانب الذي اعتراه الغلط”
وجاء في الفصل 472 من ق. ل. ع المغربي “إذا كتب المبلغ أو المقدار بالحروف عدة مرات، وجب الاعتداد عند الاختلاف بالمبلغ أو المقدار الأقل ما لم يثبت بوضوح الجانب الذي اعتراه الغلط”
الصورة الثالثة: النقص في بعض التفاصيل المهمة في العقد:
وهو إغفال المتعاقدين بعض التفاصيل المهمة التي لولاها لما استقام المعنى والحكم، كما يراد به احتواء العقد على ثغرات أو فراغات غير مملوءة، فيبحث القاضي أو المفسر على المعنى فلا يجدها.
وعليه فالتفسير يلعب دورا هاما في تكملة العقد الناقص، إلا أن القاضي لا يستطيع أن يقوم بتكملة العقد إلا في حالة عدم تنظيم إرادة المتعاقدين لمسألة من المسائل، ففي هذه الحالة يرجع إلى القواعد التكميلية بالترتيب حيث يلجأ إلى القانون ثم العرف ثم قواعد العدالة.
الصورة الرابعة: الخطأ في صياغة بعض بنود العقد أو عباراته:
تكون العبارات ظاهريا واضحة لا غموض فيها، ولكن تؤدي في مجموعها إلى معنى غير معقول، فيعتبر ذلك النص معيبا لأنه ينطوي على خطأ، ذلك أن المعنى ينبغى أن يكون واقعيا ومقبولا ومن النظام القانوني وليس معنى خياليا.
وقد تحاط عبارة العقد بالغموض، إذا أشتمل العقد على حالة معينة أو ورد بشأنها حكم معين، بحيث يثار التساؤل عن اقتصار حكم العقد على هذه الحالة، أو اتساعه في حالات أخرى لم يصرح بها، ومن ناحية أخرى قد يأتي الغموض نتيجة احتمال عبارة النص لعدة معان. (ضوابط تفسير العقود بين النص القانوني والإجتهاد القضائي، د. عبد المهيمن حمزة، جامعة طنجة المغرب، فضاء المعرفية القانونية ' ص١٦).
الوجه الثاني عشر: ضوابط تفسير العبارات الغامضة في العقد:
هناك ضوابط مستمدة من داخل العقد، كما أن هناك ضوابط مستمدة من خارج العقد، ويتعين على القاضي عند تفسيره لعبارات العقد الغامضة أن يستعين أولا بالمعنى المستمد من عباراته أي الاعتماد على عناصر التفسير الواردة في العقد، لأن الاعتماد على عناصر خارجية عن العقد قد يؤدي إلى مفهوم متعارض مع المعنى الذي تدل عليه العبارة ويعتبر ذلك مخالفا للدليل المكتوب، فالقاعدة تقضي بعدم جواز إثبات ما يخالف أو ما يجاوز الكتابة إلا بالكتابة، وبذلك على القاضي أن يلتزم بأولوية الرجوع إلى العناصر الداخلية للعقد عند تفسيره، وفي حالة قصور العناصر الداخلية يلجأ إلى عوامل خارجية مرتبطة بالعقد للوصول إلى النية المشتركة للمتعاقدين.
وبيان ضوابط تفسير العقد الداخلية والخارجية كما ياتي: .
أولا: ضوابط تفسير العقد المستمدة من داخل العقد ذاته:
نقصد بضوابط التفسير المستمدة من داخل العقد، تلك الضوابط التي تستهدف الوقوف على النية المشتركة للمتعاقدين من خلال عبارات العقد ذاته، ومنها ما يكون خارج عبارات العقد كطبيعة التعامل بين اطراف العقد، وروح العقد والغرض من العقد، وقاعدة إعمال الكلام خير من إهماله، وبيان ذلك كما ياتي:
1- طبيعة التعامل: بين اطراف العقد:
يقصد بطبيعة التعامل بين اطراف العقد “الطبيعة القانونية لنوع العقد الذي قصد المتعاقدان إبرامه أو بمعنى أخر التنظيم القانوني للموضوع الذي عالجه المتعاقدان في العقد بينهما.
فإذا اتفق المتعاقدان على نقل حق الانتفاع والاستغلال من عين ما دون نقل الملكية ومقابل ثمن معين، فإنهما يكونان قد نظما مادة عقد الإيجار، وقد ارتضيا التنظيم القانوني الذي وضعه المشرع لهذا العقد، ويعني ذلك تفسير عبارات العقد بما تقتضيه أحكام عقد الإيجار وطبيعته، فقد نصت المادة (205) مدني يمني على انه: (إذا استعمل المتعاقدان الفاظاً خاصة بعقد لإبرام عقد آخر تواف يمني رت أركانه وشروط صحته فالعبرة بما قصدا إليه كقصد الإيجار بلفظ البيع)
ويتحدد في ضوء ذلك المعنى الخاص بالعبارات الواردة في العقد بناء على طبيعة العقد الذي قصده اطراف العقد، فلكل عقد أحكام معينة تتوافق مع طبيعته، فإتفاق المتعاقدين على نوع العقد يفيد رضاهما على الأحكام المتناسبة معه، ويترتب على ذلك ضرورة تفسير عبارة العقد بناء على طبيعة نوع العقد المختار، واستبعاد المعنى الذي يتنافر مع هذه الطبيعة المتفق عليها.
وفي حالة خلو العقد من تنظيم مسألة ما يرجع إلى طبيعة العقد أو موضوعه، فمثلا إذا لم يتفق الطرفان على تحديد الثمن في عقد البيع رجعنا إلى قواعد عقد البيع وما هو معروف من طبيعة العقد في هذا المجال واستكمال العقد.
ويمتد الأمر كذلك إلى الحالة التي تحمل فيها عبارة العقد أكثر من معنى، فإن القاضي يختار من بين هذه المعاني المعنى الذي يكون أكثر اتفاقا مع طبيعة العقد وطبيعة التعامل، فقد ورد في المادة (٢١٢) مدني مانصه: (ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد صريحاً فيه فحسب بل يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للشرع والعرف والعدالة بحسب طبيعة الإلتزام)، وجاء في الفصل 466 من ق. ل. ع المغربي “يلزم فهم الألفاظ المستعملة حسب معناها الحقيقي ومدلولها المعتاد في مكان إبرام العقد، إلا إذا ثبت أنه قصد استعمالها في معنى خاص، وإذا كان للفظ معنى اصطلاحي، افترض أنه استعمل فيه”، وفي هذا المعنى قضي المجلس الأعلى في المغرب بنقض حكم محكمة الموضوع عندما اعتبرت هذه الأخيرة، أن مصطلح “الحبس” الوارد في العقد يفيد التفويت فقط، مع أن لهذه العبارة معنى اصطلاحيا معروفا، وأنه يتعين أخذها بالمعنى الاصطلاحي المعروف.
2- الاستهداء عند تفسير العقد بروح العقد والغرض منه:
فالعقد في الحقيقة ما هو إلا وسيلة يريد الطرفان من خلالها تحقيق غرض اقتصادي معين، ومن ثم يمكن للقاضي الاستعانة بهذا الغرض في تحديد المعنى الغامض لبعض الشروط، ويمكن للقاضي أن يستند إلى روح العقد والغرض منه إذا وجدت عبارات يمكن تأويلها إلى أكثر من معنى.
فاطراف العقد يهدفوا من شروط وعباراته المقررة عليها في العقد بهدفوا إلى تحقيق مصلحة معينة، وهي الغرض المقصود من التعاقد، ويعتبر غرض المتعاقدين من العقد جزءا لا يتجزأ من النية المشتركة، ذلك أن هذه النية تنصب في الحقيقة على الغرض الذي يسعى المتعاقدان إلى تحقيقه من إبرام العقد.
وتبعا لذلك فإن الغاية من التفسير هي الوصول إلى النية المشتركة للمتعاقدين، من خلال الكشف عن الإرادة الحقيقية لأطراف العقد والاعتداد بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني. (مصادر الحق في الفقه الإسلامي”، الجزء الرابع، العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، القاهرة 1960، ص: 102).
3- قاعدة إعمال الكلام خير من إهماله:
هذه القاعدة الأصولية مستمدة من الفقه الإسلامي حيث يقال: “إعمال الكلام أولى من إهماله، لكن إذا تعذر إعمال الكلام يهمل”. ويعني أنه إذا احتملت العبارة في العقد أكثر من معنى فإنه يتعين أن نحملها على المعنى الذي ينتج أثرا قانونيا ونجردها من المعنى الذي ينفي عنها كل أثر أو الذي يرتب أثرا يخالف النظام العام.
فعندما يكون للعبارة في العقد أكثر من مفهوم، يكون على القاضي أن يعمل على ترك المعنى الذي اذا تم الأخذ به أصبحت العبارة من الشروط الزائدة التي لا مبرر من وجودها، ولهذا يتعين فهم الشرط في المعنى الذي يجعل له مفهوما محددا.
وقد وردت هذه القاعدة المادة (٨) من القانون المدني التي نصت على ان (يجب إعمال الكلام في مقاصده، كما وردت هذه القاعدة فيما يخص التفسير وذلك في المادة 158 من القانون المدني العراقي، والمادة 216 من القانون المدني الأردني، وقد ضرب مثلا لهذه القاعدة الفقه: كمن يوصي لأولاد فلان، وليس لهذا إلا أولاد أولاده فيحمل المعنى عليهم صونا للفظ.
ثاانيا: ضوابط تفسير عبارات العقد المستمدة من خارج العقد:
يتعين على القاضي عند تفسيره لعبارات العقد الغامضة أن يستعين أولا بالمعنى المستمد من عبارات العقد ذاته، لأن الاعتماد على عناصر خارجية عن العقد قد يؤدي إلى مفهوم متعارض مع المعنى الذي تدل عليه العبارة ويعتبر بذلك مخالفا للدليل المكتوب.
فالقاعدة تقضي بعدم جواز إثبات ما يخالف أو ما يجاوز الكتابة إلا بالكتابة، ولذلك ينبغي على القاضي أن يلتزم بأولوية الرجوع إلى العناصر الداخلية للعقد عند تفسيره، وفي حالة قصور العناصر الداخلية يلجأ إلى عوامل خارجية مرتبطة بالعقد للوصول إلى النية المشتركة للمتعاقدين.
والضوابط الخارجية لتفسير عبارات العقد متعددة منها ما نص عليها في القانون، كما هو الأمر بالنسبة للعرف الجاري في المعاملات الذي ورد في المادة (٢١٢) مدني يمني التي نصت على انه: (ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد صريحاً فيه فحسب بل يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للشرع والعرف والعدالة بحسب طبيعة الإلتزام وبحسب ماورد في قواعد أخرى جاء بها الفقه منها ظروف المتعاقدين المحيطة بالعقد وكذلك طريقة تنفيذ العقد قد تهدي إلى معرفة قصد المتعاقدين، وبيان هذه الضوابط الخارجية كما ياتي:
1- العرف الجاري في المعاملات:
إن العرف هو سنة مستقرة قد اعتاد الناس على العمل بها حتى تولد لديهم شعور بإلزاميتها، وهي مرجع القاضي لتفسير الغامض في العقد، فيأخذ بالمعنى الذي استقر عليه العرف إذا لم يجد ذلك المعنى في احكام الشرع أو نصوص القانون سيما أن هناك مسائل يجري فيها العرف مجرى القانون كالمعاملات التجارية والبحرية، وفي هذه المسائل يرجع القاضي إلى العرف لتفسير نية المتعاقدين.
فنص المادة (٢١٢) مدني يمني جاء صريحا فيما يتعلق بتفسير الاجمال اوالغموض عن طريق العرف، حيث أعطى النص السابق القاضي سلطة التفسير وفقا لما يقتضيه العرف الجاري العمل به في المسألة التي ثار الخلاف بشان تفسيرها، فيشترط لإعمال العرف أن يكون هناك إبهام في العقد، كما يشترط لإسناد العرف إلى التفسير أن يكون المتعاقدان على علم بهذا العرف ويكونا قد ارتضياه في التعاقد، وإلا لصرحا في العقد باستبعاده ومخالفته.
كما على القاضي عند استناده للعرف أن يحرص على أن لا يكون متعارضا مع نصوص التشريع الإلزامية، حيث يقضي الفصل 475 من ق. ل. ع ب “لا يسوغ للعرف والعادة أن يخالفا القانون إن كان صريحا”. ويراعي كذلك القاعدة التي تقول “الخاص يقيد العام”، حيث أن العرف المحلي أو الخاص يقيد العرف العام.
وإذا خالف العرف قاعدة قانونية غير إلزامية بمعنى مكملة وليست آمرة فإن يظل صحيحا ويمكن الاعتماد عليه في التفسير.
وهناك أنواع للعرف هي: العرف المكاني والعرف الخاص بطرفي العقد.
العرف المكاني: بمعنى أن يكون العرف معمولا به في المكان الذي أبرم فيه العقد أو المكان الذي ينفذ فيه العقد.
العرف الخاص بطرفي العقد: فيمكن تفسير العبارة الغامضة للعقد بناء الأعراف التجارية أو عادات المتعاقدين المستمدة من عقودهما السابقة
2- ظروف المتعاقدين المحيطة بالعقد:
للقاضي الحق في الخروج عن حدود العقد بحثا في الظروف المحيطة بالعقد التي قد تساعده للوصول إلى تفسير العقد، مثل الظروف التي أحاطت تكوين العقد مثلا مرحلة التفاوض التي تسبق العقد والتي قد تساعد في تفسير إرادة المتعاقدين، وكذلك حالة المتعاقدين الشخصية وقت إبرام العقد، وننظر إلى هذه الظروف من عدة نواحي:
من حيث الصفة: فالمتعاقد المثقف يختلف عن الأمي إذ لكل منهما مفهوم يختلف عن الأخر لما يستعمله من عبارات، مما يفسر تمييز المشرع بين الأمي والمثقف ببعض المقتضيات القانونية، كما أن المتعاقد المستهلك يختلف في وضعيته عن المتعاقد المهني في عقود الاستهلاك مما جعل المشرع يتدخل باستمرار لتقوية المركز التعاقدي للمستهلك في مواجهة المهني.
من حيث المهنة: فالممتهن لتجارة معينة يختلف عن المبتدئ وكذلك يختلف عن الشخص العادي فيما إذا تعلق الأمر بإبرام عقد متعلق بهذه المهنة.
من حيث العلاقة الشخصية: على القاضي مراعاة فيما إذا كان العقد بين طرفين تربطهما علاقة القرابة أو الزوجية، فالعلاقة بين الأصول والفروع تختلف عن العلاقة بين أشخاص لا تربطهم أية صلة، حيث يكون الطرفان في هذه الحالة الأخيرة أكثر عناية وحذرا في الصياغة عند إبرامهم العقد، كما أن التعاقد لأول مرة بين طرفين يتطلب عناية مقارنة أمام تكرار نفس الطرفين لنفس النوع من المعاملات حيث لا يكترثان بالصياغة اعتمادا على الثقة المكتسبة بينهما.
إضاقة إلى كل هذه الجوانب، فإن القاضي يستطيع تفسير العقد بناء على ظروف موضوعية، وقد تتمثل هذه الظروف الموضوعية في محررات ومراسلات قد تبادلها المتعاقدان قبل التعاقد، أو عقود سابقة قد أبرمها الطرفان يمكن أن يستند من خلالها على ما قصده المتعاقدان في العقد المراد تفسيره، أو قد تكون الظروف الموضوعية عبارة عن مجرد وقائع مادية، كالأوضاع الاقتصادية السائدة التي من شأنها أن تلقي الضوء على الإرادة الحقيقية بشأن شروط العقد محل النزاع (“نظرية العقد في القوانين العربية”، د. عبد المنعم فرج الصدة: دار النهضة العربية، طبعة 1974، بند 85، ص: 66).
وانطلاقا من هذه الضوابط، فإن تفسير العقد يصل بالقاضي إلى أحد أمرين:
الأمر الأول: تفسير العقد واستخلاص ما قصدته الإرادة المشتركة على شكل يقيني قاطع يطمئن هو إليه، ولا صعوبة في هذه الحالة، حيث يحمل القاضي المعنى الذي استخلصه من عبارة العقد سواء كان من شأنه نفع الدائن أو نفع المدين.
الأمر الثاني: أن تفسير القاضي للعقد لا يؤدي إلى الكشف عن الإرادة الحقيقية المشتركة لأطراف العقد، فيثور شك في عبارة مدلول العقد، ولا يستطيع القاضي أن يهدر العقد بمجرد أن شكا قد ثار في تحديد معناه، بل لابد له أن يعمل العقد وأن يفسر الشك لمصلحة أحد الطرفين، هنا يجب إعمال تفسير الشك لصالح المدين حسبما ورد في المادة (213) مدني يمني التي نصت على أنه: (إذا حصل شك في عبارات العقد يفسر الشك في مصلحة المدين لأنه الطرف الملتزم، إلا في عقود الإذعان وهي التي وضع شروطها القوي على الضعيف فلا يجوز أن يكون التفسير فيها ضاراً بمصلحة الطرف المذعن الضعيف)، إلا أن هذه القاعدة احتياطية تتطلب توافر عدة شروط منها وجود مبرر للتفسير، واستنفاذ وسائل التفسير ثم ثبوت الشك في الوصول إلى النية المشتركة، وأخيرا حسن نية المدين.
أما الأساس القانوني لهذه القاعدة، وهو أن الأصل براءة الذمة والاستثناء أن يكون ملزما لذلك يفترض أن المدين التزم إلى أضيق مدى تحمله عبارة العقد المراد تفسيرها.
وإذا أرد الدائن الأخذ بالمدى الواسع وجب عليه الإثبات، لكن يستثنى من هذه القاعدة عقود الإذعان حيث يفسر فيها الشك لمصلحة الطرف المذعن أيا كان دائنا أو مدينا، وذلك لأن الطرف الذاعن هو من انفرد بتحرير العقد، ولانتفاء الإرادة المشتركة لمصلحة الذاعن.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن القانون المغربي أقر قاعدة أخرى في إطار التفسير لكنها جاءت لصالح الدائن، ذلك في الفصل 467 جاء فيه: “التنازل عن الحق يجب أن يكون له مفهوم ضيق”، حيث حظر التوسع في تفسير التنازل عن الحق.
وفي جميع الحالات ينبغي على القاضي أن يراعي مبدأ حسن نية الأطراف عند تفسيره للعقد نظرا لارتباط تفسير العقد بتنفيذه حيث نصت على ذلك المادة (٢١٢) مدني يمني على أن تنفيذ العقد يجب أن يتم بحسن النية، ويعرف حسن النية على أنه “موقف نفسي للشخص القانوني ولكن يتم الكشف والتعبير عنها من خلال مؤشرات وعلاقات خارجية يمكن تقديرها ووزنها وفقا لمعايير قانونية موضوعية حسب سلوك الرجل المعتاد
الوجه الثالث عشر: موقف القضاء من تفسير عبارات العقد الغامضة:
على العكس من حالة وضوح عبارات العقد يتمتع القاضي بدور إيجابي حينما تكون شروط العقد غامضة، باعتبار أن هذه الحالة هي التي تشكل الإطار الذي لا تبخل نظرية سلطان الإرادة عن الترخيص فيها للقاضي بالاضطلاع بدوره الأكثر إيجابية في مجال التفسير.
ويخضع تفسير العقد الغامض للسلطة المطلقة لقضاة الموضوع، ولا رقابة لمحكمة النقض على ذلك على اعتبار أن المسألة تتعلق بالواقع الذي يكون من اختصاص قاضي الموضوع بحيث يبحث في عالم النية والضمير، وهو السبب الذي يحول دون بسط محكمة النقض لرقابتها، أو على حد تعبير الأستاذ الكشبور “إن التفسير في هذه الحالة – حالة غموض العقد – يقتضي تقصي النية الحقيقية أو المفترضة للأطراف والوقوف على ظروف التعاقد وظروف التعامل وما تقضي به قواعد حسن النية وعادات التجار فيما بينهم، وقد يستدعي الأمر الاستعانة بإجراءات التحقيق كالمعاينة والخبرة، فالمسألة إذن مسألة واقع، لأن قاضي الموضوع يبحث في عالم النية والضمير ليقتنع في النهاية بأن إرادة الأطراف قد اتجهت إلى تحقيق غرض معين.
وفي هذا السياق جاء في قرار المجلس الأعلى في المغرب بتاريخ 20 أبريل 1961″ يتعرض للنقض الحكم الصادر عن قضاة الاستئناف، الذين لم يكن بوسعهم أن يرتبوا أي مفعول على الاتفاق المبرم بين الخصوم.
وفي قرار آخر للمجلس الأعلى في المغرب صادر بتاريخ 07 أبريل 1964، اعتبر فيه أن الشروط الغامضة أو المعارضة لاتفاقات الأطراف، لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى.
لكن هذا لا يعني أن قاضي الموضوع لا يخضع نهائيا لرقابة المجلس الأعلى في حالة العقد الغامض، بل توجد هناك حالات يعتبر عدم امتثال قاضي الموضوع لها خرقا للقانون، وتحريفا للعقد، ومنها تجريد العقد من كل أثر قانوني، وفي ذلك ذهب المجلس الأعلى في المغرب في قرار له بتاريخ 1 دجنبر 1982 “أن الشك الذي ينتج عن مقاربة شروط العقد، لا يجرد هذا الأخير من أي أثر، فمن الأولى تنفيذ العقد على تجريده من كل أثر عند تفسيره، وتنفيذ العقد يفرض تفسيره من طرف المحكمة، التي تكون ملزمة بالبحث عن إرادة الأطراف دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ ولا عند تركيب الجمل، وعليه يخالف القانون ويتعرض للنقض الحكم الذي يجرد العقد من كل أثر، في حين كان من الممكن موافقة الشروط فيما بينها عبر التفسير.
ومن الاستثناءات التي يخضع فيها القاضي لرقابة المحكمة العليا عند تفسيره للعقد الغامض العبارة، حالة تفسير الشك بشكل مخالف للمادة ٢١٣ مدني يمني، التي تلزم تفسيره لصالح المدين أو المذعن. (ضوابط تفسير العقود بين النص القانوني والإجتهاد القضائي، د. عبد المهيمن حمزة، جامعة طنجة المغرب، فضاء المعرفية القانونية ' صـ٢٠)، الله أعلم.