حكم تجزئة الشهادة
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
الشهادة قد تكون على وقائع عدة، وقد تكون الشهادة على واقعة معينة، فإذا كانت الشهادة على وقائع عدة ، فإن إستشهاد الخصم بشهادة الشاهد على واقعة معينة وعدم قبول شهادته على الوقائع الأخرى جائز، أما إذا استدل الخصم ببعض الشهادة على واقعة معينة ورفض بقية الشهادة على الواقعة ذاتها فإن ذلك لا يكون مقبولا ، لان ذلك تجزئة للشهادة ً، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 15/1/2011م في الطعن رقم (41969)، فقد ورد ضمن الحكم المشار إليه: (فإذا كان الطاعن قد تمسك بقول هذا الشاهد فلا يحق له أن يقوم بتجزئة شهادته ، وهي في الأصل لا تقبل التجزئة حيث اثبت الشاهد الجهد المبذول من الطاعن والمطعون ضده معاً)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم ، حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: دلالة رفض الخصم لشهادة الشاهد او جرحه لها:
يفهم من إعتراض الخصم او جرحه للشاهد أو شهادته يفهم من ذلك أن الشاهد من وجهة نظر الخصم غير مؤهل لأداء الشهادة كأن يكون بين الشاهد والخصم عداوة أو أن بين الشاهد وبين الخصم الآخر قرابة أو صداقه، أو أن الشاهد غير أمين في شهادته أو أنه لا يضبط الشهادة أو أن الشاهد لم يشاهد الواقعة المطلوب الإستشهاد به عليها أو أن الشهادة غير صحيحة.
وفي كل هذه الفرضيات فإن الخصم حينما يرفض شهادة الشاهد او يجرحها فان الخصم في هذه الحالة يشكك في صحة شهادة الشاهد كلها سواءً كانت له أو عليه.
الوجه الثاني: وقت إعتراض الخصم على شهادة الشاهد:
إذا كان لإعتراض الخصم على شهادة الشاهد وجه شرعي وقانوني، فأنه يلزم على الخصم أن يبدي إعتراضه على الشهادة قبل أن يدلي الشاهد بشهادته ،وقبل أن يعلم الخصم مضمون شهادة الشاهد، حتى يثبت الخصم أن الغرض من الإعتراض منع الشاهد غير المؤهل شرعاً وقانوناً من الإدلاء بشهادة مشكوك في صحتها.
بيد انه يحق للخصم بعد سماعه للشهادة أي بعد إدلاء الشاهد بشهادته يحق للخصم أن يجرح في الشاهد والشهادة كلها من بعد الادلاء بالشهادة الى قبل النطق بالحكم وفقا للمادة(٥٤) إثبات ، وعند الجرح في الشاهد والشهادة فلامجال ايضا لتجزئة الجرح في الشاهد او شهادته حتى تقبل بعض شهادته ويرفض بعضها الاخر. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الشهادة، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، صـ48).
الوجه الثالث: وقت جرح الشاهد والشهادة وتأثيره على الشهادة بعد الإدلاء بها:
أجاز الشرع والقانون للخصم الجرح في الشاهد وشهادته بعد ادائها عن طريق طلب من الخصم في هذا الشان ، وينبغي على الخصم الجارح ان يبين عدم توفر الشروط الشرعية والقانونية في الشاهد والشهادة مع بيان أدلة الجرح، لأن الخصم الجارح في الشاهد مدعي بذلك فيلزمه إثبات دعواه، فإذا ثبت جرح الشاهد أو الشهادة فإن الشهادة كلها تكون باطلة، فلا تقبل تجزئتها.
الوجه الرابع: الشهادة على وقائع عدة وجواز تجزئة الشهادة في هذه الحالة:
قد لا يعترض الخصم على الشاهد بداية، كما قد لا يجرح الخصم في الشاهد أو في شهادته بعد الإدلاء بها، فإذا كانت هذه الشهادة على وقائع عدة فأنه يحق للخصم أن يجزئها أي أن يقبل بالشهادة على بعض الوقائع أو على واقعة معينة ويرفض الشهادة ذاتها على الوقائع الأخرى، شريطة أن يكون سبب رفض الخصم أو عدم قبوله للشهادة على الوقائع الأخرى لا يرجع إلى الجرح في شخص الشاهد وإنما يتعلق بعدم قبول الخصم للشهادة ذاتها فقط.
ومن أمثلة ذلك في الفقه الإسلامي أن يشهد الشاهد في شهادته الواحدة بان المدعي اقرض المدعى عليه وأن المدعى عليه قد قام لاحقاً بسداد الدين، فيتمسك الخصم المدعي بشهادة الشاهد على واقعة الإقراض ويرفض شهادة الشاهد على السداد،لان الاقراض واقعة مستقلة عن واقعة سداد القرض ، أو أن يشهد الشاهد على أن المدعى عليه قد اركب المدعي على دابته وقام المدعى عليه بعد ذلك بدفعه من ظهر الدابة فكسر رباعيته، فيقبل المدعى عليه الشهادة على واقعة الإركاب على الدابة ويرفض واقعة قيامه بدفع المدعي من على ظهر الدابة، فواقعة الإركاب مستقلة عن واقعة الدفع.
الوجه الخامس: الشهادة على واقعة واحدة قابلة للتجزئة:
هناك بعض الوقائع قابلة للتجزئة ، فقد تكون الواقعة الواحدة قابلة للتجزئة مثل واقعة العراك بين الأشخاص التي تتم في وقت واحد ،فتترتب عليها عدة إصابات أو يدعي الجاني أن بعض الإصابات التي لحقت بالمجني عليه لم تكن من فعل الجاني.
وهذه المسألة من المسائل الخلافية في الفقه الإسلامي، إذ يذهب فريق من الفقهاء على ان هذه الواقعة لا تقبل التجزئة، لأن القاعدة في جرائم الإعتداء على الأشخاص أن الإصابات التي لحقت بالمجني عليه أثناء الإعتداء هي من فعل الجاني وأن الإصابات التي لحقت بالجاني من فعل المجني عليه، وهناك فريق آخر في الفقه الإسلامي يذهب إلى أن الواقعة الواحدة تتجزأ مثل هذه الواقعة والوقائع المشابهة، لأن القاعدة المشار إليها لا يتم اللجوء إليها إلا إذا انعدمت الأدلة ، أما إذا توفرت أدلة على خلاف ذلك فأنه يتم العمل بها، وهذا هو القول المختار.
الوجه السادس: عدم تجزئة الشهادة في الواقعة الواحدة غير المجزئة:
قضى الحكم محل تعليقنا بأنه لا يجوز للخصم تجزئة الشهادة الواحدة على الواقعة الواحدة ، فيأخذ الخصم ببعض الشهادة ويرفض بعضها الآخر، لأن ذلك موقف متناقض من الخصم، فلا يجوز له تجزئة الشهادة في هذه الحالة، فقد كان له الخيار أن يعترض على الشهادة بدايةً أو يجرح الشهادة أو الشاهد بعد الإدلاء بالشهادة، أما أن يقوم الخصم بتجزئة الشهادة على الواقعة الواحدة فلا يجوز ذلك ، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الشهادة، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، صـ48)، والله أعلم.