بيع العينة في القانون اليمني
بيع العينة أو بيع النموذج هو: عقد بيع يتم عن طريق تمكين البائع المشتري من رؤية نموذج أو عينة من البضاعة التي يطلب المشتري شراؤها، وعلى اساس مشاهدة المشتري لتلك العينة يتم بيع المشتري البضاعة على اساس ان البضاعة كلها مماثلة للعينة التي شاهدها المشتري أي أن تكون البضاعة كلها مماثلة للعينة التي شاهدها المشتري، وهذا البيع جائز عند جمهور الفقهاء ، وقد اخذ به القانون المدني اليمني، كما أن عقد بيع العينة عقد لازم في الشريعة والقانون لا خيار فيه إلا إذا لم تكن البضاعة مماثلة للعينة التي شاهدها المشتري ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 18-1-2011م في الطعن رقم (43339)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (ولما كان البين من الحكم المطعون فيه أنه أسس قضاءه بإلغاء الحكم الابتدائي على ان وقائع العمل الإجرائي امام محكمة أول درجة مشوبة بعيب للخطأ في فهم وقائع النزاع ، حيث أتجه إلى تطبيق نصوص قانونية خاصة ببيع خيار (خيار الرؤية)، ومن ذلك تعيين الخبير لمعاينة البضاعة وكأن العلاقة هي علاقة بيع خيار (خيار الرؤية)، في حين أن الثابت من وقائع النزاع أن علاقة البيع هي بيع بالعينة، ويؤكد صحة ذلك إفادة المستأنف الطاعن حالياً أن العينة من نفس البضاعة الموجودة في الحوش، وخلص الحكم الاستئنافي المطعون فيه إلى أن النصوص التي تحكم العلاقة بين الطرفين المادتين (476 و 481) مدني الخاصة ببيع العينة، وانتهى الحكم الاستئنافي إلى إبطال الحكم الابتدائي، لذلك فإن ما جاء في حيثيات الحكم الاستئنافي من تأصيل وتأسيس لقضائه يتفق مع صحيح القانون)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: بيع العينة أو النموذج في القانون المدني اليمني:
قضى الحكم محل تعليقنا بأن المحكمة الابتدائية قد أخطأت في تكييف نوع البيع الذي تم فيما بين الطاعن والمطعون ضده، في حين أن التكييف الصحيح لذلك العقد هو أنه عقد بيع بالعينة أو بالنموذج الذي تنظمه المادتان (476 و 481) مدني، وقد نصت المادة (486) مدنى على أنه: (إذا كان البيع بالعينة وجب أن يكون المبيع مطابقاً لها، وإذا تلفت العين في يد أحد العاقدين كانت البينة على من تلفت العينة بيده)، أما المادة (481) فقد نظمت الخيار المقرر للمشتري إذا وجد ان البضاعة غير مماثلة للعينة التي شاهدها عند الشراء ، فقد نصت هذه المادة على أنه: (إذا كان المبيع بالعينة (الأنموذج) فيكفي رؤية (الأنموذج) فإذا ثبت أن المبيع دون العينة (الأنموذج) يكون المشتري بالخيار بين قبول البيع بالثمن المبين في العقد أو رده أو فسخ البيع).
وقد اخذ القانون اليمني بيع العينة من فقه الشريعة الاسلامية، بيد أن القانون لم يتعرض لغالبية احكام بيع الأنموذج أو العينة مما يستدعي الإشارة فيما سياتي إلى بعض احكام بيع العينة في الفقه الاسلامي باعتباره مصدر القانون المدني اليمني .
الوجه الثاني: تعريف بيع النموذج اوالعينة:
بيع العَيِّنَة معروفٌ عند الفقهاء قديماً باسم “بيع الأُنموذج”، وكلمة الأُنموذج أو النموذج معرَّبة، قال في القاموس المحيط: النموذج، بفتح النون: مثالُ الشيء، معرَّبٌ. والأُنموذج لحن، وقال شارحه: والأُنموذج بضم الهمزة لحنٌ، كذا قاله الصاغاني في التكملة، وتبعه المصنف ، والواقع ان القول أن الأُنموذج لحن غير صحيح، فما زال الفقهاء قديماً وحديثاً يستعملون هذا اللفظ من غير نكيرٍ، حتى إن الزمخشري -وهو من أئمة اللغة- سمَّى كتابه في النحو الأنموذج، وكذلك الحسن بن رشيق القيرواني-وهو إمام المغرب في اللغة سمَّى به كتابه في صناعة الأدب الأنموذج.
وبيع النموذج هو أن يُقدم البائع عَيِّنَةً للمشتري ويكون البيع للبضاعة كلها بحسب هذه العينة أي أن تكون البضاعة المبيعة كلها مماثلة للعينة التي راها المشتري، كأن يُري البائعُ المشتريَ عَيِّنَةً من القمح، ويتمُّ العقدُ على شراء الكمية على أساس انها مثل تلك العَيِّنَة، ومثل أن يُريه عَيِّنَةً من علب العلاج ، فيقول أبيعك مثل هذه العَيِّنَة كل علبة بسبعين ريالا، أو يريه قلما، فيقول له أبيعك مئة قلم مثله بكذا وكذا.
الوجه الثالث: رؤية المبيع الحاضر والغائب في الفقه الإسلامي:
إذا كان المبيع موجودا وقت البيع فانه يجب ان يكون المبيع معلوما للمشتري علما نافيا للجهالة ،فلا بد في عقد البيع من معرفة المشتري للمبيع ومشاهدة البضاعة كلها، لان المبيع يجب ان يكون معلوماً علما نافيا للجهالة من حيث الجنس والنوع والمقدار، فالجنس كالقمح مثلاً، والنوع كأن يكون من إنتاج بلدٍ معروف كإستراليا، والمقدارُ بالكيل أو الوزن أو نحوهما (الموسوعة الفقهية الكويتية9/16)، فإذا كان المبيع حاضراً يُكتفى بالإشارة إليه، كأن يقول البائع للمشتري بعتك هذا الخروف بخمسين ألف ريالا ٍ، ومن المقرر أن الإشارة إلى المبيع هي أقوى طرق التعريف والتعيين للمبيع، ولذلك إذا كان المبيع في حضرة المتعاقدين (مجلس العقد) وتمَّ تعيينُهُ بالإشارة بحيث عرفه المشتري ورآه، فإن البيع لازم (الموسوعة الفقهية الكويتية9/22).
أما إذا كان المبيع غائباً، فإن قدَّم البائعُ عَيِّنَةً منه كعلبة العلاج أو قارورة العطر ، فرؤية العَيِّنَة كرؤية جميع المبيع. وإن كان المبيع مما لا يُعرف بالعَيِّنَة، كالغنم لاختلاف أفرادها، فلا بد من وصفه وصفاً نافياً للجهالة وقاطعاً للمنازعة. قال عبد الله بن محمود الموصلي الحنفي: ولا بد من معرفة المبيع معرفةً نافيةً للجهالة (الاختيار2/177).
الوجه الرابع: حكم بيع النموذج أو العَيِّنَة:
بيع النموذج أو العَيِّنَة جائزٌ عند جمهور الفقهاء، فقد ذهب الحنفية وبعض الزيدية والمالكية ووجه عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد، رجحها المرادوي في الإنصاف، ورجحها السعدي ، وعددٌ آخر من العلماء المعاصرين، منهم، د. محمد عقلة، د. النشمي، د. وهبة الزحيلي، وآخرون. قال الزيلعي الحنفي: (وكفت رؤيةُ وجه الصُّبْرَةِ- الصُّبْرَةُ ما جُمع من الطعام بلا كيلٍ ولا وزنٍ بعضه فوق- والدابة وكفلها وظاهر الثوب مطوياً وداخل الدار)، لأن رؤية ما يُستدل به على المقصود يكفي، لتعسر رؤية الجميع، ورؤية هذه المواضع من هذه الأشياء يقع بها العلم بالمقصود، فلا معنى لاشتراط رؤية غيرها، ولو دخل في المبيع أشياء، فإن كان لا تتفاوت آحاده كالمكيل والموزون، وعلامته أن يعرض بالنموذج يُكتفى برؤية بعضه، لجريان العادة بالاكتفاء بالبعض في الجنس الواحد، ولوقوع العلم به بالباقي (تبيين الحقائق4/26)وقال الدسوقي المالكي: وجاز البيع برؤية بعض المثلي، أي بسبب رؤية بعض المثلي، سواء كان البيع بتاً أو على الخيار، ولو جزافاً لما مرَّ أن رؤية البعض كافية فيه (حاشية الدسوقي11/47)، وقال الخطيب الشربيني الشافعي: ومثل أنموذج المتماثل، أي المتساوي الاجزاء كالحبوب، فإن رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع، فلا بدَّ من إدخاله في المبيع (مغني المحتاج6/299) ، وقال المرداوي الحنبلي مرجحاً القول بجواز بيع النموذج: ولا يصح بيع الأنموذج بأن يريه صاعاً ويبيعه الصُّبْرَةَ على أنها من جنسه على الصحيح من المذهب، وقدَّمه في الفروع وغيره. وقيل ضبط الأنموذج كذكر الصفات، نقل جعفر فيمن يفتح جراباً ويقول الباقي بصفته إذا جاء على صفته ليس له ردُّه. قلت: وهو الصواب (الإنصاف7/276) وقال العلامة السعدي: وهذا يدل على قوة القول بصحة بيع الأنموذج؛ لعدم الفرق بينه وبين رؤية ظاهر الصُّبْرَةِ المتساوية الأجزاء ونحوها، يحقق هذا أنه يجب تطبيق جميع المفردات والتفاصيل على أصل الشرط وهو العلم، فمتى حصل العلم به بأي طريقٍ جاز، ومتى انتفى العلمُ لم يجز (الفتاوى السعدية7/198) ، وقال د. محمد عقلة من المعاصرين: [جمهور فقهاء المسلمين يرون صحة بيع الأنموذج، وجواز الاكتفاء برؤية بعض المبيع ما دام يدل بصورة كافية على بقيته، وأن أدلة القائلين بمنعه لا ينتهض بها حجة على ما قالوا، فالأولى المصير إلى مذهب الجمهور ، ومما يدل على جواز بيع النموذج أو العَيِّنَة، أن رؤية بعض المبيع تكفي إن دلت على الباقي فيما لا يختلف أجزاؤه اختلافاً بيِّناً، لذلك شرط القائلون بجوازه أن يكون في المثليات التي لا تتفاوت أفرادُها، قال د. محمد عقلة: جميع من أجازوا بيع الأنموذج من الفقهاء متفقون على اشتراط أن يكون المعقود عليه من المثليات التي لا تتفاوت آحادها، ويبطلونه في غير المثلي كالعددي المتفاوت ، فمن اشترى سلة طماطم أو كيس قمحٍ فلا يُشترط أن يرى كل حبةٍ، وقد جرى عرف الناس بذلك، فلا يرون كل أجزاء أو أفراد ما يشترونه، لأن اشتراط ذلك يوقع في الحرج، والحرج مرفوعٌ في شريعتنا.
الوجه الخامس: موقف القوانين المدنية العربية ببيع العينة أو بيع النموذج:
اخذت كثير من القوانين العربية ببيع العَيِّنَةِ أو النموذج، كاليمن وفلسطين والأردن وغيرها، فقد نصت المادة (486) مدنى يمني على أنه: (إذا كان البيع بالعينة وجب أن يكون المبيع مطابقاً لها، وإذا تلفت العين في يد أحد العاقدين كانت البينة على من تلفت العينة بيده)، فقد اشارت هذه المادة الى وجوب ان تكون البضاعة المبيعة مطابقة للعينة التي تم البيع بموجبها ،كما بينت المادة السابقة الطرف الذي يكون القول قوله عند تلف البضاعة المبيعة على أساس العينة .
أما المادة (481) من القانون المدني اليمني فقد نصت على أنه: (إذا كان المبيع بالعينة (الأنموذج) فيكفي رؤية (الأنموذج) فإذا ثبت أن المبيع دون العينة (الأنموذج) يكون المشتري بالخيار بين قبول البيع بالثمن المبين في العقد أو رده أو فسخ البيع)، فقد صرحت هذه المادة بان عقد بيع العينة عقد لازم في القانون لاخيار فيه إلا إذا لم تكن البضاعة مماثلة للعينة التي شاهدها المشتري .
وورد في مجلة الأحكام العدلية العثمانية في المادة (324): [الأشياء التي تباع على مقتضى أنموذجها، تكفي رؤية الأنموذج منها فقط]. و قال شارح المجلة: [كالمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة، والثياب التي تكون نسيجَ مكانٍ واحدٍ، فرؤية الأنموذج منه أو بعضه تكفي لسقوط خيار الرؤية، لأن المقصود معرفة صفة المبيع، فبرؤية الأنموذج يحصل ذلك. وقد جرى العرف بذلك. . . فعلى هذا إذا اشترى شخصٌ شيئاً من ذلك بعد رؤية أنموذجه، فليس-له-خيار رؤيةٍ عند رؤيةِ الباقي، ما لم يكن الباقي أدنى من الأنموذج أو من البعض الذي رُئي، فيكون مخيراً بخيار العيب ، فرؤية نماذج الثياب التي اعتاد التجارُ بيعها بعرض هذه النماذج التي تبين طول الثوب وعرضه وشكله، مسقطةٌ لخيار الرؤية، لأن المتعارف بين التجار بيعُ هذه الثياب بعرض نماذجها. وكذلك إذا اشترى شخصٌ مثلياً من جنسٍ واحدٍ كالمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة سواء أكانت في إناءٍ واحدٍ أم أوانٍ مختلفةٍ، فرؤية بعضه قبل الشراء تجزئ عن رؤية باقيه على القول الأصح ، لأن تعريف الباقي فيما إذا كان الكل في وعاءٍ واحدٍ باعتبار المماثلة، لا باعتبار اتحاد الوعاء ، فإذا اشترى شخصٌ شيئاً من ذلك بعد رؤية نموذجه والرضا به، فلا يكون مخيراً عند رؤية الباقي إلا إذا ظهر أن المال الذي لم يره قبلاً دون ما رأى نموذجه ،أما إذا كانت المثلياتُ مختلفةَ الجنس، فلا تكفي رؤيةُ جنسٍ منها لإسقاط خيار الرؤية في الأجناس الأخرى، ويكون للمشتري خيارُ الرؤية فيما رآه وما لم يره (درر الحكام2/164-165).
وورد في القانون المدني الأردني: [المادة 468/1 اذا كان البيع بالنموذج تكفي فيه رؤيته ووجب أن يكون المبيع مطابقاً له] .
الوجه السادس: خيار المشتري في بيع العينة او الأنموذج:
لا يثبت هذا الخيار الا اذا لم تكن البضاعة مطابقة أو مماثلة للعين أو النموذج الذي شاهده المشتري عند الشراء ، وفي هذا الشان نصت المادة (481) من القانون المدني اليمني على أنه: (إذا كان المبيع بالعينة (الأنموذج) فيكفي رؤية (الأنموذج) فإذا ثبت أن المبيع دون العينة (الأنموذج) يكون المشتري بالخيار بين قبول البيع بالثمن المبين في العقد أو رده أو فسخ البيع).
فيترتب على القول بجواز بيع العَيِّنَة أو النموذج ثبوتُ الخيار للمشتري بعد الرؤية، فإذا لم يكن المبيع مطابقاً للنموذج، فيثبت الخيارُ للمشتري، كذلك نصت المادة(325)من مجلة الأحكام العدلية العثمانية على انه: (ما بيع على مقتضى الأنموذج، إذا ظهر دون الأنموذج يكون المشتري مخيَّراً، إن شاء قبله، وان شاء ردَّه) ، وقال شارح هذه المجلة: (مثلاً الحنطة والسمن والزيت وما صنع على نسقٍ واحدٍ من الكرباس والجوخ وأشباهها، إذا رأى المشتري أنموذجها ثم اشتراها على مقتضاه، فظهرت أدنى من الأنموذج، يخير المشتري حينئذ إذا ظهر المبيع أدون من الأنموذج أو من بعض المبيع الذي رآه المشتري، فالمشتري يكون مخيَّراً بخيار العيب فيما رآه نموذجاً، وفيما لم يره، وله قبول المبيع بجميع الثمن المسمَّى أو ردَّه وفسخ البيع) ، (درر الحكام2/166).
وقال د. محمد عقلة: (مذهب الحنفية أكثر المذاهب تفصيلاً في أحكام هذا البيع، سيما ما يترتب عليه من ثبوت الخيار للمشتري عند رؤية سائر المبيع، فلا يكون مطابقاً للأنموذج، وما يترتب على هذا الخيار من ردِّ المبيع كله أو إمساكه كله، والتعرض لحالة اختلاف المشتري والبائع في المطابقة بين العَيِّنَة وسائر المبيع. وهذه النقاط جميعاً لم يتعرض لها سائر الفقهاء كليةً، أو بإيجاز لا يبلغ حدَّ التوضيح والتفصيل الذي يظهر في فقه الحنفية)، علما بان فقهاء الزيدية قد تناولوا أيضا بيع الأنموذج وتوسعوا في ذلك ومنهم أخذ القانون اليمني بيع العينة أو الأنموذج . (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة ٢٠٢١م، ص٢٠١)، والله اعلم.