الجهة المختصة بإصدار التقارير الطبية

من الإشكاليات العملية عدم وجود هيئة رسمية عدلية مختصة بالطب الشرعي تتولى تحديد ضوابط وقواعد مهنة الطب الشرعي وأصولها وتحدد مكونات التقرير الطبي واجراءات الفحص الطبي وكيفية وشروط الطبيب الشرعي والتخصصات الفرعية داخل التخصص العام الشرعي، والاهم من هذا وذاك عدم وجود قانون للطب الشرعي ينظم هذه المسائل - مع ان هناك دول ناشئة قد اصدرت قوانين تنظم هذه المسائل بما يكفل نزاهة وكفاءة هذا العمل المهم، اما عندنا في اليمن فالتقارير الطبية المطلوبة من القضاء تصدر بطريقة عشوائية ومن جهات عدة لا يجمعها جامع كما ان هذه التقارير تتفاوت تفاوتا كبيرا بحسب الجهات التي تصدرها وذلك مؤثر في قناعة القضاء بها، وفي ظل غياب هيئة الطب الشرعي أو العدلي في اليمن وغياب القانون الناظم كذلك يتصدى القضاء لوضع بعض القواعد والارشادات لتنظيم التقارير الطبية وترشيدها وضبطها، ومن الاحكام التي تناولت هذا الموضوع الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 16-5-2011م في الطعن الجزائي رقم (٤٤٦٨١) لسنة ١٤٣٢هـ وتتلخص وقائع الحكم ان احد المهتمين بجريمة القتل العمد طلب محاميه بإحالته الى احد الاطباء الذي رد على خطاب التكليف بانه غير متخصص في مجال الامراض العقلية ثم تمت احالته الى مستشفى اصلي متخصص بالأمراض العقلية ثم تمت احالته الى المصحة النفسية ثم قامت النيابة العامة بإحالته الى المصحة النفسية والعقلية الموجودة في السجن المركزي التي اصدرت التقرير الذي توصل الى المتهم بالقتل العمد سليم من الناحية العقلية والنفسية وهذا التقرير هو الذي اعتمده الحكم المطعون فيه امام المحكمة العليا الذي رفض هذا التقرير وعدم اعتماده لأنه صادر من جهة مجهولة اضافة الى عدم وضوح التوقيعات عليه وغير ذلك حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا وخلاصة اسباب محل تعليقنا فالثابت من خلال مطالعة الحكم الاستئنافي المطعون فيه عدم تمسك الشعبة بقرارها المتكرر بعرض المتهم على لجنة طبية مختصة بمستشفى الثورة العام وبدلا من ذلك فقد اخذت الشعبة بقرار طبي صادر من لجنة طبية غير مختصة وفقا لما قرره عضو النيابة الذي لم يأخذ بقرار المحكمة بالإحالة الى مستشفى الثورة الحكومي ولم تشر الشعبة الى أي سبب موجب لعدولها عن قرارها المشار اليه - وما يعيب القرار الطبي الذي اخذت به الشعبة هو انه تم التوقيع عليه من ثلاثة اعضاء دون ان تذكر اسماؤهم وذلك يجعله صادرا من لجنة مجهولة لعدم بيان الاسماء، وكان الأولى بالشعبة ان تقوم بتنفيذ قرارها الذي اكدت عليه وهو احالة المتهم الى مستشفى الثورة العام وتصدر حكمها في ضوء ذلك وهي على ثقة، وهذا العيب يستوجب نقض الحكم واعادة الأوراق الى محكمة الاستئناف لنظر القضية مجددا بتشكيل جديد مع عرض المتهم على لجنة طبية مختصة لتقرير حالته العقلية وقت ارتكاب الجريمة ثم الحكم طبقا للشرع والقانون)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الاوجه الاتية:

الوجه الأول: شروط التقرير الطبي

اشار الحكم محل تعليقنا الى بعض هذه الشروط ويمكن تلخيصها على النحو الآتي:

ان يكون التقرير صادرا من لجنة (قمسيون) وليس طبيب فرد - وهذا هو المنصوص عليه في قوانين الدول الأخرى لان التقارير الطبية وان كانت تقارير فنية دقيقة الى حد ما الا ان نتائجها لا تخلو من الاجتهاد والهوى مهما بلغت دقتها، كما ان نتائج التقرير الصادر عن لجنة اكثر دقة وسلامة من غيره حيث ناتج عن دراسة وبحث ونقاش عدد من المختصين مما يوفر الثقة والاطمئنان الى سلامة النتائج الواردة في تقريرهم كما ان اللجنة الطبية المكونة من عدد لا يقل عن ثلاثة يحول دون تواطؤ هؤلاء الاعضاء جميعا وتدليسهم أو حجبهم للمعلومات المطلوبة لان الجماعة يؤمن تواطؤها بخلاف الفرد لا سيما في اليمن حيث يتعرض الخبراء للتهديد والاغراء والافساد خاصة الاحياء الشرعيين اضافة الى ان التقرير الصادر عن جماعة تتم مراجعته وتصويب من اكثر من شخص مما يجعله سليما في نتائج فضلا عن ان الطب الشرعي يتضمن تخصصات عدة ينبغي اشراك اكثر من تخصص في دراسة الحالة المطلوب فحصها مثل الحالة العقلية للشخص حيث ينبغي ان يشترك في فحصها طبيب نفسي وطبيب اعصاب وطبيب مخ - وكذا فالعدد في اللجنة الطبية يوفر الرقابة المصاحبة للعمل حتى يكون مسلما وموثوقا به اضافة الى ان التقرير الصادر عن الطبيب الفرد يكون بمثابة شهادة الواحد ولذلك تكون حجيته ادنى من حجية التقرير الصادر عن اللجنة.

ان يتضمن التقرير اسماء وصفات واختصاص والدرجة والمرتبة العلمية لأعضاء اللجنة - لان التقرير الطبي تقرير فني اختصاصي صادر من ذوي الخبرة والاختصاص فالواجب ان يتضمن التقرير الطبي اسماء اعضاء اللجنة ووظائفهم ودرجاتهم ومؤهلاتهم العلمية وسنوات خبراتهم على غرار ما يرد في تقارير المجلس الاعلى للتخصصات الطبية - فهذا الشرط لازم حتى يكون التقرير الطبي من تقارير الخبرة وفقا للقانون، وقد اشار الحكم محل تعليقنا الى انه اذا جاء التقرير خاليا من هذه البيانات فانه يكون مجهولاً.

يشترط ان يكون ثلاثة من اعضاء اللجنة من اهل الخبرة المختصين فمثلا يكون احدهم الطبيب المختص والثاني كبير الاطباء في القسم الطبي والثالث رئيس القسم الطبي الامراض النفسية والعقلية) لان التقارير الطبية في اليمن في الغالب يتم التوقيع عليها من مدير المستشفى وطبيب مختص وفي افضل الاحوال من الطبيب المختص ورئيس القسم الطبي ومدير المستشفى.

يجب ان يكون التقرير الطبي رسميا ولا يكون كذلك الا اذا صدر من الجهة الرسمية المخولة قانونا وهي المستشفى الرئيسي في البلدة وقد اشار الحكم محل تعليقنا الى ذلك حينما اصر على ان يكون التقرير المعتمد الصادر من هيئة مستشفى الثورة العام لان المستشفيات الحكومية الكبرى يؤمن تواطؤها او تلاعبها في التقارير الطبية - هذا في الوقت الراهن اما الحل السليم فهو انشاء هيئة للطب الشرعي ويكون التقرير الطبي رسميا اذا تم التوقيع علية من قبل الممثل القانوني للشخص الاعتباري الحكومي وختمه بختم الشخص الاعتباري ويتم طباعته على الأوراق الرسمية للشخص الاعتباري.

يجب ان يتضمن التقرير مضمون التكليف القضائي الذي تم اعداد التقرير بموجبه كما ينبغي يتم الخطوات والاجراءات التي قامت بها اللجنة الطبية بالإضافة الى النتائج على ان تتم صياغة النتائج بلغة واضحة يفهمها القاضي وليست المصطلحات الطبية المعروفة بين الاطباء فالجنون طبقا للقانون عذر مخفف للمسئولية الا ان بعض الاطباء يستعملون مصطلحات طبية لا تفيد الجنون مثل مسميات الامراض العصبية والنفسية.

الوجه الثاني: التوصية الى الجهات المعنية بإنشاء هيئة للطب الشرعي وقانون للطب الشرعي

المعالجات والاقتراحات لإشكاليات التقارير الطبية المطلوبة من القضاء ستظل مجرد ترقيعات او معالجات وقتية لا تغني عن انشاء هيئة للطب الشرعي أو الطب العدلي تابعة لوزارة العدل لان عندئذ ستكون مستقلة ومعاونة للقضاء لان الحكم محل تعليقنا لم يعتمد على التقرير المقدم من النيابة العامة ادارة الطب الشرعي أو قسم الصحة النفسية والعقلية لان النيابة في مرحلة المحاكمة تكون خصما، ولذلك يجب انشاء هيئة للطب الشرعي في اليمن تتولى الاشراف عليه وتنظيمه ومراقبته ووضع المعايير والادلة المناسبة لحسن سير العمل في هذا المجال كما اننا نوصي بضرورة اصدار قانون للطب الشرعي يحدد الشروط والاختصاصات والصلاحيات والطعون في هذه التقارير وحجيتها والمخالفات والجزاءات وغير ذلك، والله اعلم.