سبق لنا التعليق على حكم بعنوان (لا يسلط القاضي على قضائه) ، وتعنى تلك القاعدة أنه لا يجوز للقاضي نفسه أن يعاود نظر القضية بعد أن فصل فيها بحكم منهي للخصومة واستنفد ولايته في نظرها، وذكرنا في ذلك التعليق تطبيقات هذه القاعدة والإستثناءات التي ترد عليها.
أما هذا التعليق فأنه يختلف عن ذلك التعليق، فمعنى (لا يسلط قضاء على قضاء) أنه لا يجوز للقاضي أن يفتح نزاعاً سبق حسمه بحكم صدر من غيره، ولايجوز لاية محكمة ان تعيد نظر قضية سبق الفصل فيها بحكم منهي للنزاع إلا في الاحوال التي يقرها القانون كطلب التماس إعادة النظر في الحكم أو التظلم منه أو الاعتراض عليه أو الطعن في الحكم أمام محكمة اعلى ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 19-10-2009م في الطعن رقم (34977)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (وقد حظرت المادة (12) مرافعات على القاضي أن يفتح نزاعاً تم حسمه بحكمٍ قائم صدر من ذي ولاية قضائية...إلخ، فبعد إبرام الصلح بين الطاعن وخصمه وحكم محكمة الإستئناف برفض الإستئناف السابق تقديمه من الطاعن وسبق رفض هذه الدائرة لطعنه بالنقض السابق، لذلك فإن مصلحته في رفع الدعوى ذاتها مرة أخرى تكون منعدمة لإنتفاء مشروعيتها، وقد كان الأولى على محكمتي الموضوع الحكم بعدم قبول تلك الدعوى التي صدر فيها حكم قائم طالما أنها هي الدعوى ذاتها التي سبق الحكم فيها ، وطالما اتحد الخصوم بصفاتهم القانونية واتحد الموضوع وهو الحق المطالب به واتحد السبب القانوني وهو العمل القانوني الذي تستند إليه المطالبة بالحق ذاته وفقاً للمادة (77) مرافعات، ومن المبادئ المقررة في فقه المرافعات أن لا يسلط قضاء على قضاء ، ولا يجوز إشغال المحاكم في خصومات كيدية انتهت بصلح رضى به الطاعن في حينه واستوفى اليمين من خصمه وذيل وثيقة الصلح بتوقيعه وبصمته ولم ينكر ذلك ، وقد تم ذلك بحضور جمهرة من الشهود، ولذلك فإن الظاهر أن الطاعن قد أظهر اللدد في الخصومة، وقد تنبه قانون المرافعات إلى هذه المسألة فأجاز في المادة (170) مرافعات للمحكمة أن تحكم بغرامة للخصم أن طلبها عن كل دعوى أو دفاع يقصد به الكيد ، كما يجوز للمحكمة من دون طلب أن تحكم على الخصم اللدد بغرامة مناسبة للخزينة العامة ، وأن تبين ذلك في أسباب حكمها، وفي هذه القضية لا وجه للحكم للمطعون ضده بغرامة لعدم رده على هذا الطعن ، فضلاً عن أنه لم يطلب ذلك)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: معنى قاعدة (لا يسلط قضاء على قضاء)
معنى ذلك أنه لا يجوز للقاضي أن يقبل دعوى سبق الفصل فيها بحكم سابق صادر من غيره سواءً أكان حكم قضاء أو حكم تحكيم، فلا يجوز للقاضي الإبتدائي أن ينصب نفسه لإصدار احكام في قضايا سبق الفصل فيها بأحكام سابقة صدرت من غيره ، فلايجوز للقاضي أن يجعل من نفسه محكمة طعن يعاد طرح النزاع أمامه فيفصل فيه بقضاء جديد، فلا يجوز أن يسلط قضاء على قضاء.
كذلك لايجوز للمحكمة التي سبق لها أن فصلت في القضية بحكم فاصل منهي للنزاع لايجوز أن تعاود نظرها من جديد. (قواعد الدفع بسبق الفصل في الدعوى وآثاره، د. عبد الحي الصاوي، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدمنهور 2019م، صـ63).
الوجه الثاني: نطاق قاعدة: لا يسلط قضاء على قضاء
نطاق هذه القاعدة بصفة اصلية هو المحكمة الابتدائية التي لا يجوز لها أن تسلط قضاءها على قضاء مماثل لها في الدرجة، أما محكمة الطعن كمحكمة الاستئناف أو المحكمة العليا ، فلا تسري هذه القاعدة عليهما إلا اذا كان قد سبق لهما الحكم في القضية ذاتها بحكم حاسم فاصل منهي للنزاع، أما إذا لم سبق لهما الحكم في القضية فان عملهما وفقا للقانون من قبيل تسليط قضاء على قضاء ، لأن قانون السلطة القضائية وقانون المرافعات قد جعل قضاءهما مسلطاً على قضاء المحاكم الأدنى منهما.
إذ تقوم محكمة الاستئناف بالقضاء في الحكم الابتدائي الذي تم الطعن فيه بالاستئناف امامها ، حيث يطرح الاستئناف القضية من جديد أمام محكمة الاستئناف التي تتولى إعادة الفصل في موضوع القضية في حدود ما ورد في عريضة الاستئناف وفي حدود ما قضى به الحكم الابتدائي ، فقضاء محكمة الإستئناف في هذه الحالة مسلط على قضاء المحكمة الإبتدائية المطعون فيه بالاستئناف.
وكذلك الحال بالنسبة للمحكمة العليا التي يحق لها أن تنقض الحكم الإستئنافي المطعون فيه أمامها ، وبموجب ذلك يحق لها إقرار الحكم المطعون فيه أو نقضه أو تعديله ، ومع أن المحكمة العليا محكمة قانون إلا أنها مسلطة على أحكام محاكم الموضوع المطعون فيها أمام المحكمة العليا، فقضاء النقض في هذه الأحوال مسلط على قضاء الأحكام المطعون فيها بالنقض.
وتطبيقا لهذه القاعدة لا يجوز لاية محكمة ان تعيد نظر قضية سبق الفصل فيها بحكم منهي للنزاع إلا في الاحوال التي يقرها القانون كطلب التماس إعادة النظر في الحكم أو التظلم منه أو الاعتراض عليه أو الطعن في الحكم أمام محكمة اعلى. (التعليق على احكام المحكمة العليا في مسائل الدفوع، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، صـ141)، والله اعلم.