معنى المثبت مقدم على النافي

معنى المثبت مقدم على النافي

من ضمن الادوات التي يستعملها القاضي عند تعارض الادلة قاعدة المثبت مقدم على النافي ، فهذه القاعدة لايتم إعمالها إلا عند تعارض الادلة ، بيد ان قانون الإثبات اليمني لم يحسم أمره بشأن قاعدة المثبت مقدم على النافي ، في حين أن اجتهادات القضاء اليمني لم تستقر بعد بشأن هذه القاعدة، ومرجع ذلك خلاف الفقه الإسلامي بشأن تطبيقات هذه القاعدة ونطاقها في الفقه الاسلامي، فضلاً عن معارضة بعض القواعد لهذه القاعدة كقاعدة الاصل الإباحة وقاعدة الأصل البراءة وقاعدة الاصل العدم ، ولذلك فان قاعدة المثبت مقدم النافي غير مضطردة ، فضلاً عن صعوبة تطبيق هذه القاعدة مع شيوع بعض المفاهيم القانونية المعاصرة كحق الدفاع، وقد اشار الى هذه القاعدة الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 22-2-2011م في الطعن رقم (43371)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (اما ما جاء في شهادة الشاهدين المحضرين من المطعون ضدهم امام الشعبة بجلسة..... التي يحتج بها المذكور على نفي شراكة الطاعن له بالمعدات، فلا عبرة بشهادة الشاهدين المذكورين كون المثبت مقدماً على النافي كما هو معلوم ،فمن يعلم حجة على من لا يعلم)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: الترجيح بين أدلة الإثبات وقاعدة المثبت مقدم على النافي:

قاعدة المثبت مقدم على النافي لايتم إعمالها إلا عند تعارض الادلة ، ومن المعلوم أن الترجيح بين أدلة الإثبات لا يكون إلا عند التعارض بين الأدلة، ولذلك يلزم تعريف التعارض بين أدلة الإثبات وأدلة النفي.

 ولم يتعرض شراح القانون إلى تعريف هذا التعارض بين الأدلة، أما الفقه الإسلامي فقد عرَّف هذا التعارض بأنه: تقابل دليلان يقتضي أحدهما ثبوت أمر والآخر إنتفاء ذلك الأمر في محل واحد وزمان واحد بشرط تساوي الدليلين المتعارضين في القوة أو زيادة أحدهما على الآخر بوصف هو تابع.

 كما يمكن تعريف هذا التعارض بأنه: تقديم المدعي دليلاً يؤيد دعواه ومقابل ذلك يقوم خصمه بتقديم دليل ينفي دليل المدعي، بحيث لو انفرد أحد الدليلين في الوجود لحكم القاضي لمقدمه بالحق الذي يدعيه، ويشترط في التعارض بين أدلة الإثبات في القضاء أن يكون كلا الدليلين له حجة يصح التمسك بها ويستساغ عقلاً الأخذ به، كما يشترط أن تكون الأدلة المتعارضة في قوة واحدة. (شرح قانون الإثبات، د. عصمت عبدالمجيد بكر، المكتبة القانونية بغداد 2007م، صـ101).

الوجه الثاني: ماهية الترجيح بين أدلة الإثبات:

عرَّف شراح قانون الإثبات الترجيح بين أدلة الإثبات وأدلة النفي بتعريفات عدة؛ منها أنه: إظهار قوة أحد الأدلة المتعارضة والتي لو انفرد لكان حجة، وهناك من يعرفه بأنه تقوية أحد الدليلين كي يتم العمل به، وهناك من يذهب إلى تعريفه بأنه: تقديم القاضي لدليل من أدلة الإثبات على دليل آخر يتعارض معه اما لإقتران الدليل المقدم بما يقويه أو لوجود قرينة توجب الإعتراف بالقوة له وتفضيله على ما سواه من الأدلة والحكم بمقتضى الدليل الذي يرجحه القاضي.

الوجه الثالث: السلطة التقديرية للقاضي في تقدير الأدلة وترجيحها وطرق الترجيح بين أدلة الإثبات والنفي:

استقر الفقه والقضاء على ان عملية الترجيح بين الادلة سواء اكانت في الإثبات أو النفي تخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع الذي بوسعه أن يجري التحقيق الموضوعي في الأدلة المقدمة ، ويتوصل من خلال ذلك التحقيق الى مرجحات الدليل على غيره من الادلة.

ومن المفهوم أن هناك عدة طرق يستعملها القاضي للترجيح بين الادلة منها ماياتي:

الطريقة الأولى: العمل بكلى الدليلين عندما يكون ذلك ممكناً.

الطريقة الثانية: العمل بالدليل الراجح عندما يتعذر العمل بالدليلين.

الطريقة الثالثة: ترجيح بينة الخارج على بينة الداخل، والمقصود بالداخل هو صاحب اليد الحائز.

الطريقة الرابعة: الترجيح بكثرة عدد الأدلة أو الشهود أو كثرة الإشتهار بالعدالة.

الطريقة الخامسة: تهاتر الأدلة إذا تعارضت الأدلة وتعذر الجمع بينها أو ترجيح أحدها على الأخر، والتهاتر يعني سقوط الأدلة المتهاترة، والرجوع الى الأصل وهو الإباحة أو العدم أو البراءة.

الطريقة السادسة: الترجيح بقوة الدليل، فالشهادة أقوى من القرينة، والإقرار أقوى من الشهادة.

الطريقة السابعة: الترجيح بزيادة العدالة، مثل تعارض شهادة شاهد عدل تم تعديله مع شهادة شاهد مجهول الحال لم تتم تزكيته أو تعديله.

الطريقة الثامنة: الترجيح باليد، فالحيازة الصحيحة دليل على الملك. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الإثبات الجزء الثالث، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين ، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة ٢٠٢٥م ، ص٤٢١).

الوجه الرابع: تناقض الشهادات يسقطها وفقا لقانون الإثبات اليمني:

ألمحت المادة (49) اثبات إلى أن تناقض الشهادات يبطلها ، لأن هذه المادة حددت حالات إختلاف الشهادات التي لاتبطل فيها الشهادة ، ومفهوم ذلك أن تناقض الشهادات يبطلها، فقد نصت هذه المادة على أنه: (لا تقبل الشهادة في الأحوال وبالشروط الآتية: -1- إختلاف الشاهدين في الألفاظ إذا اتفقا في المعنى -2- إختلاف الشاهدين في زمان ومكان الإقرار والإنشاء إذا أحتمل التعدد -3- إختلاف الشاهدين في مقدار المشهود به ويصح منه ما اتفقا عليه معنى، ويستثنى من ذلك مقدار عوض العقد إذا كان العقد مجحودا فيبطل الشهادة إختلاف الشاهدين فيه -4- إختلاف الشاهدين في صفة المشهود به وتكمل شهادة من طابقت شهادته الدعوى بشاهد آخر أو يمين المدعي).

الوجه الخامس: قاعدة المثبت مقدم على النافي في الفقه الإسلامي:

 اختلف الفقهاء في العمل بهذه القاعدة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يقدم المثبت على النّافي عند التّعارض، لأن المثبت يشتمل على زيادة علم قد قصّر عنها النّافي، وهو قول جمهور العلماء، قال الزيلعي: الأكثرون على تقديم الإثبات، وقالوا: لأن المثبت معه زيادة علم، وأيضا فالنفي يفيد التأكيد لدليل الأصل، والإثبات يفيد التأسيس، والتأسيس أولى.

 واعتبر الزركشي أن الصحيح في هذه المسألة: تقديم المثبت على النافي. ونقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء؛ لأن معه زيادة علم، وقال ابن حجر: المثبت مقدم على النافي، وهو وفاق من أهل العلم إلا من شذ ، كما رجح ابن عبد البر المثبت على النافي عند التعارض فقال: والواجب أن تؤخذ شهادة من أثبت علما دون من نفاه... وقال: لأن من نفى شيئا وأثبته غيره لم يعدّ شاهدا، وإنما الشاهد المثبت لا النّافي. وهذا أصل من أصول الفقه في الشّهادات إذا تعارضت، وأضاف: وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم.

 القول الثاني: رجّح النّافي على المثبت عند التعارض، لأن المثبت وإن كان مترجَّحا على النافي لاشتماله على زيادة علم، غير أن النافي لو قدّرنا تقدّمه على المثبت كانت فائدته التّأكيد، ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التّأسيس، وفائدة التّأسيس أولى لما سبق تقريره، فكان القضاء بتأخيره أولى.

  القول الثالث: ذهب جماعة من الأصوليين إلى اعتبار المثبت والنافي سواء؛ لاحتمال وقوعهما في حالين. وقالوا بالتوقف عن ترجيح أحدهما على الآخر ويطلب الترجيح بمرجح آخر، ولأن المثبت معتضد بزيادة العلم، والنافي معتضد بموافقة الأصل ، ومن جهة أخرى؛ فالمثبت فائدته التأسيس لحكم زائد، والنافي فائدته التأسيس لحكم العدم... فلما تساويا في المرجحات تعارضا، وطلب الترجيح من دليل آخر. وهذا ما اختاره الغزالي في المستصفى معظم انه قول جماعة من الشافعية،واستثنى بعض أصحاب هذا القول حالات يمنع فيها ترجيح المثبت على النافي، منها: أن يصحب نفي النافي تفصيلا يكون دليلا على أن المثبت ليس معه زيادة علم، أو أن النافي هو الذي معه زيادة علم. قال ابن حجر: إن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه؛ فيقدم.

وقال إلكيا وابن عبد ا من الشافعية ما حاصله: إن كان النافي قد استند إلى العلم؛ فهو مقدم على المثبت. وقال النووي: النفي المحصور والإثبات سيان.

 وقال ابن الملقن: إن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد ولم تكن محصورة، أما ما أحاط به علمه وكان محصورا؛ فيقبل بالاتفاق، وقال الزركشي: لما كان النافي ما يتعلق به في أمر يقرب من المحصور بمقتضى الغالب، اقتضى أن يرجح النافي، واعتبر الشنقيطي أن: الظاهر أن المثبت والنافي إذا كانت رواية كل منهما في شيء معين في وقت معين واحد أنهما يتعارضان... فيطلب الترجيح من جهة أخرى، وهذا أصوب من قول من قدم المثبت مطلقا، ومن قدم النافي مطلقا، ووجه تقديم رواية المثبت أن معه زيادة علم خفيت على صاحبه، وقد عرفت أن ذلك لا يلزم في جميع الصور، ومن تلك الحالات أيضا: أن يكون النافي أعلم من المثبت؛ كأن يكون أعلم منه في المسألة المختلف فيها خاصة أو في الباب الذي تندرج تحته هذه المسألة أو في العلم الذي تنتمي له هذه المسألة. قال الزركشي: أن يكون راوي النفي له عناية به؛ فيقدم على الإثبات.

اما في باب الحدود الشرعية، فإن الذي عليه أكثر الفقهاء أن الخبر النافي الحد مقدم على الموجب له؛ لما في الخبر النافي للحد من اليسر ورفع الحرج، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وتعارض الأدلّة في وجوبه وسقوطه شبهة يدرأ بها الحد، ولأن الحد ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل، والنافي له على وفق الأصل، فيكون النافي له راجحا. والتعزير كالحد،.

ومن خلال عرض اقوال الفقهاء على النحو السابق بيانه ، فان الرأي الراجح عند المتقدمين هو القول: أنّ المثبت مقدّم على النّافي، لأنّ المثبت لما ادعى أمرا وأثبته، فإن ذلك دليل على تحققه، وإن النافي لما قصر عنه ونفاه، فإن ذلك دليل على خفائه عنه وعدم اطلاعه عليه، لأنّ السهو والغفلة لا يسلم منهما إنسان، اما في العصر الحاضر فان قوانين الإثبات تاخذ بالقول الثالث لأنه يناسب اجراءات ومبادئ التقاضي في الوقت ولان براغي القواعد الفقهية الاخرى كقاعدة الاصل الإباحة وقاعدة الأصل البراءة وقاعدة الاصل العدم .

 وقد نص فقهاء المالكية على تقديم الجمع على الترجيح صراحة، بحيث لا يصار إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع بينها، فالجمع عندهم أحسن من الترجيح،لأن الترجيح إلغاء كلام صاحب الشرع، ولا سبيل إلى تركه مع إمكان استعماله، فقد قال الشيخ خليل: وإن أمكن جمع بين البينتين جمع؛ وإلا رجح، كما قدم الحنابلة الجمع على الترجيح، ففي المدخل: والصواب تقديم الجمع على الترجيح ما أمكن؛ إلا أن يفضي الجمع إلى تكلف يغلب على الظن براءة الشرع منه ويبعد أنه قصده؛ فيتعين الترجيح ابتداء ، ولأن البينات حجج الشرع في الإثبات، فيجب العمل بها بحسب الإمكان، ولا يجوز إهدارها ولا تهاترها،

  وذهب جمهور الأحناف إلى تقديم الترجيح على الجمع عند تعارض البينتين، فقد قال الكاساني: الأصل أن البينتين إذا تعارضتا من حيث الظاهر، فإن أمكن ترجيح إحداهما على الأخرى يعمل بالراجح؛ لأن البينة حجة من حجج الشرع، والراجح ملحق بالمتيقن في أحكام الشرع. وإن تعذر الترجيح، فإن أمكن العمل بكل واحدة منهما من كل وجهه وجب العمل به، وإن تعذر العمل بهما من كل وجه وأمكن العمل بهما من وجه وجب العمل بهما؛ لأن العمل بالدليلين واجب بقدر الإمكان، وإن تعذر العمل بهما أصلا سقط اعتبارهما والتحقا بالعدم، إذ لا حجة مع المعارضة، كما لا حجة مع المناقضة.

 وأصح الآراء في المذهب الشافعي تقديم التهاترعلى الجمع لا الترجيح، بحيث إذا تعارضت البينتان، ولم يمكن العمل بهما معا، وتعذَّر ترجيح إحداهما؛ فإنهما تتهاتران وتسقطان ولا ينتظم استعمالهما، ولم تقم بينة على وفق مراد مقيمها وعاد الأمر إلى الخصومة من غير بينة.

 والترجيح بين الحجج لا يكون إلا في الحجج المتساوية في القوة الثبوتية. أما إذا كانت إحدى هذه الحجج ناقصة عن درجة الاعتبار فلا يلجأ إلى الترجيح.

 ومن مشهورات مسائل هذه القاعدة في التراث الفقهي: مسألة إثبات الحوز ونفيه في التبرعات، ففي نوازل ابن سهل: أفتى أبو مروان بن مالك في هبة اختلف الشهود فيها، فبعضهم شهد بحوزها، وبعضهم شهد بأنها لم تحز بأن الشهادة بصحة الحوز أعمل؛ لأن الشهادة بالحوز أثبتت الهبة بصحتها، فكانت أولى من التي شهدت ببطلانها، كما أورد الونشريسي فتوى مفادها أن: من أثبت شيئا أولى ممن نفاه، هذا الذي تقرر في مذهب مالك وأصحابه، وبه قال حذاقهم. قاعدة الاثبات مقدم على النفي، د. عبد الله البدري، مجلة الباحث المغرب الرباط ، العدد (٤٥) سنة٢٠٢٢م، ص٧٣)، والله أعلم.