رقابة المحكمة العليا على إستخلاص الوقائع والأدلة

يذهب الفقه الحديث إلى أن كثيرًا من مسائل الواقع تتداخل بمسائل القانون ، فالتحقق من سلامة تطبيق القانون على الوقائع والأدلة يستدعي دراسة وفحص الوقائع والأدلة للتحقق من سلامة تطبيق نصوص القانون عليها.

ولاريب أن لمحكمة الموضوع السلطة التقديرية في إستخلاص الوقائع والأدلة المقدمة من الخصوم اثناء سير إجراءات المحاكمة، وكذا الموازنة والترجيح بين الادلة، لأن هذه العملية مسالة موضوعية تحتاج إلى بحث وتحقيق موضوعي تختص به محكمة الموضوع ، بيد أنه من الواجب أن تكون هذه الوقائع والأدلة مثارة من قبل الخصوم اثناء سير إجراءات المحاكمة ، فتكون هذه الوقائع وتلك الادلة ضمن أوراق القضية، أي أن يكون لها أصل في أوراق القضية، وهذا هو المقصود بالإستخلاص السائغ للوقائع والادلة ً.

 ولاشك ان الإستخلاص السائغ للأدلة مسألة قانونية تخضع لرقابة المحكمة العليا بإعتبارها محكمة قانون، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 10-1-2010م في الطعن رقم (36303)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (والدائرة: تجد أن نعي الطاعن في محله ، ذلك أن الحكم الابتدائي الذي ايده الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد وقعا في خطأ إستخلاص الدليل الذي يشترط القانون أن يكون سائغاً، فالمعروف أن لمحكمة الموضوع السلطة الكاملة في تقدير الدليل ، إلا أن القانون يشترط أن يكون إستخلاصها سائغاً، لأن الأمر حينئذٍ يتعلق بالقانون لتعلقه بالدليل وتخضع محكمة الموضوع في ذلك لرقابة المحكمة العليا)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: الملخص والاستخلاص في بداية اسباب الحكم

تتضمن غالبية احكام القضاء في اليمن في بداية اسبابها ملخصا موجزا عن وقائع النزاع والادلة المقدمة من الخصوم اثناء سير إجراءات المحاكمة ،للتدليل على إحاطة القاضي الإحاطة الكافية بوقائع النزاع وادلة الخصوم ، وهذا الملخص يختلف عن محصل الشجار الذي يشتمل على جميع ماجرى في اجراءات المحاكمة.

اما إستخلاص الوقائع والأدلة فهو عبارة عن عرض الوقائع والأدلة المقدمة من الخصوم في اسباب الحكم ومناقشتها والموازنة والترجيح بينها.

الوجه الثاني: الأدلة والوقائع ومكانتهما ضمن أسباب الحكم

 تتكون اسباب الحكم من الأسباب الواقعية والاسباب القانونية التي استند إليهما منطوق الحكم، وأسباب الحكم الواقعية هي الوقائع وادلة إثباتها او نفيها المطروحة من الخصوم اثناء سير إجراءات المحاكمة بهدف الحصول على حكم يحسم النزاع الناشب بينهم أو إيراد الوقائع المادية التي تحتاج إلى التدليل على وجودها أو صحتها.

 أما الأسباب القانونية فهي النصوص القانونية التي يتم تطبيقها على الأدلة والوقائع المثارة من الخصوم، فتسبيب الحكم عبارة عن عرض ومناقشة للوقائع والأدلة المقدمة من الخصوم.

وعلى هذا الأساس فإن وقائع النزاع وأدلته المثارة من الخصوم أثناء المحاكمة هما عماد أسباب الحكم ومادته العلمية، ولذلك فإن الإستخلاص للوقائع والأدلة يظهر مدى إحاطة القاضي بالقضية ، ومن خلال الرقابة على الإستخلاص تظهر صحة الحكم أو عواره ، ولذلك فإن رقابة المحكمة العليا على الإستخلاص للأدلة والوقائع يكون عن طريق الدراسة الفاحصة لأسباب الحكم ومقارنتها بالوقائع والأدلة المثارة من الخصوم أثناء سير إجراءات المحاكمة والمبثوثة في ثنايا أوراق القضية المطعون فيها بالنقض، (تسبيب الأحكام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية، د. عزمي عبدالفتاح، دار الفكر العربي القاهرة 1983م، صـ115).

الوجه الثالث: الدور الاستثنائي للمحكمة العليا في الرقابة على إستخلاص الحكم للوقائع والادلة وحدود هذه الرقابة

تتكون كل دعوى من شق قانوني(النصوص القانونية ) وشق واقعي (الوقائع) فالدعوى في الأصل تقوم على الوقائع التي يقدمها الخصوم للمحكمة، وفي ضوء الوقائع والأدلة المثارة من الخصوم والنصوص القانونية ذات الصلة بالوقائع والادلة يقوم القاضي بتكييف الوقائع وتطبيق القانون عليها بعد المطابقة بين الواقعة وبين النص القانوني.

 وتنطلق رقابة المحكمة العليا على الواقائع بإعتبار الواقعة مسألة قانونية من حيث تقدير القاضي للواقع وفهمه لها وإنزاله للنص القانوني عليها ، فينبغي أن لا تكون الواقعة عديمة الوجود أو متناقضة لم تثبت في الحكم أو تم تحصيلها من غير طريق الخصوم أنفسهم أو مخالفة لما هو ثابت في اوراق القضية،، فيجب على قاضي الموضوع بيان الواقعة وبيان مصدر إستخلاصه لها حكمه منها من مصادرها في اوراق القضية. فلا توجد لدى القانون أو الفقه قاعدة معينة تحدد ما يمكن إعتباره من مسائل الواقع وما يمكن إعتباره من مسائل القانون.

وبالنسبة للدليل فأنه من المبادئ القانونية التي اتفق عليها الفقه والقضاء أن قاضي الموضوع له السلطة التقديرية في تقدير الدليل المقدم من الخصم ، فله ان يأخذ به إذا اقتنع به أو أن يطرحه إذا تسرب إليه الشك ، فمن المقرر أنه ليس للمحكمة العليا أن تستأنف النظر في الموازنة والترجيح والتعليل فيما يقدمه الخصوم لمحكمة الموضوع من الأدلة على وقائع الدعوى أو نفيها إلا أنه من المتفق عليه أيضاً أنه تستثنى من هذا المبدأ صورة واحدة هي أن تثبت محكمة الموضوع مصدراً للواقعة التي استخلصتها فلا يكون هذا المصدر وهمياً لا وجود له أو أن يكون موجوداً ولكنه مناقض لما اثبته الحكم أو غير مناقض ولكنه مستحيل عقلاً إستخلاص الواقعة منه. (رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع، د. محمد رعدون، المكتبة القانونية دمشق ٢٠٠٣م ، ص70).

الوجه الرابع: التداخل بين مسائل الواقع ومسائل القانون

في الغالب يحدث التداخل بين الوقائع والقانون، فيكون من المتعذر أحياناً نظر أحد الشقين دون التدخل في الآخر، بل أن بعض الفقه يجزم بعدم وجود تفرقة بين الواقع والقانون ويرى عدم إمكانية الفصل بينهما، فالاصل انه لا توجد في القانون أو الفقه قاعدة معينة تحدد ما يمكن إعتباره من مسائل الواقع وما يمكن إعتباره من مسائل القانون.

ولا يجوز لمحكمة النقض نظر المسائل المختلطة الا إذا سبق للطاعن إثارتها لدى محكمة الموضوع سواءً قدمها الطاعن على شكل طلب أو دفع، (أصول المحاكمات المدنية والتجارية، د. أحمد الهندي، الدار الجامعية بيروت 1989م، ص283).

الوجه الخامس: حالات الطعن بالنقض وعلاقتها بأدلة ووقائع القضية ورقابة المحكمة العليا

نصت المادة (292) من قانون المرافعات اليمني على أنه (يجـوز للخصوم أن يطعنوا أمام المحكمة العليا في الأحكــام الصـادرة من محاكم الإستئناف ومن المحاكم الابتدائية التي لا تقبل الطعن بالاستئناف في الأحوال الآتية: -1- إذا كان الحكم المطعون فيه مبنياً على مخالفة الشرع والقانون أو خطأ في تطبيق أيٍ منهما أو تأويله أو لم يبين الأساس الذي بُنيَ عليه. -2- إذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثَّر في الحكم أو كان منطوق الحكم مناقضاً بعضه لبعض. -3- إذا حُكم بشيء لم يطلبه الخصوم أو بأكثر مما طلبوه. -4- إذا تعارض حكمان نهائيان في دعويين اتحد فيهما الخصوم والموضوع والسبب).

ومن خلال إستقراء النص القانوني السابق يظهر أن الثلاث الحالات الأولى من حالات الطعن بالنقض المذكورة في النص القانوني السابق يظهر انها تستدعي من المحكمة العليا دراسة أسباب الطعن والتأكد من إنطباق حالات الطعن فيها، ولا يتسنى ذلك للمحكمة العليا إلا إذا قامت بدراسة أوراق القضية جميعها والتأكد من أن الحكم المطعون فيه لم يخالف الشرع أو القانون عند الحكم على وقائع النزاع وأدلة إثباتها أو نفيها أو أن الحكم لم يخطأ في تطبيق القانون عليها أو لم يحدث في الحكم بطلان في إجراءات المحاكمة اثر في الحكم، مما يعني أن المحكمة العليا تتحقق من إجراءات الحكم ، وان هذه الاجراءات لم تكن مخالفة للقانون أو لم يحدث خطأ في تطبيق القانون عليها.

وصفوة القول: أن الحكم في القضية المطعون فيه: هو عبارة عن حكم على وقائع النزاع والأدلة، فمن الصعب الفصل بين الواقع والقانون في هذا الشأن.

ولذلك فأن محكمة النقض تراقب الوقائع والأدلة للتحقق من عدم مخالفة الحكم للقانون عند تطبيقه للقانون على تلك الوقائع والأدلة، أو إذا كان الحكم قد اخطأ في تطبيق القانون على تلك الوقائع والأدلة ، (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الطعون الجزء الثالث، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة ٢٠٢٥، س ٣٩٨) ، والله اعلم.

رقابة المحكمة العليا على إستخلاص الوقائع والأدلة
في القضاء والقانون اليمني