يصرح قانون المرافعات اليمني في المادة (274) بعدم جواز الطعن في الأحكام غير المنهية للخصومة إلا بعد صدور الحكم المنهي لها كلها بإستثناء الأحكام بوقف الخصومة أو بعدم الإختصاص أو بالإحالة على محكمة أخرى والأحكام المستعجلة القابلة للتنفيذ الجبري.
غير أن الحكم الذي تصدره المحكمة بقبول الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها يعد حكماً منهياً للخصومة يجوز الطعن فيه، إذ أن قبول هذا الدفع يمنع المحكمة من نظر الدعوى التي رفعها المدعي كما أنه يمنع المدعي من إعادة رفعها، ولذلك فأن الحكم بقبول هذا الدفع ينهي النزاع، وبناءً على ذلك يجوز الطعن فيه حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 4-2-2006م في الطعن رقم (25099)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (فالقرار الصادر من محكمة أول درجة بقبول الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً من الجائز الطعن فيه، فهو قرار منه للخصومة أمام محكمة أول درجة، ولذلك فان ما صدر من الشعبة التجارية من حكم بإعتبار ذلك القرار غير منه للخصومة يعتبر خطأ في تطبيق القانون مما يتعين معه قبول الطعن بالنقض)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: الحكم بقبول الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً ينهي الخصومة
الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً يقوم على أساس أنه قد سبق صدور قرار قول أو فعل أو تصرف من المدعي يدل صراحةً على كذب أو عدم صحة دعواه أو الحق الذي يدعي به أي عدم صحة موضوع الدعوى، مثل أن يدعي المدعي بدين ويطلب من المدعى عليه سداد هذا الدين ، فيدفع المدعى عليه دعوى المدعي بأنه قد سبق للمدعي أن أقر كتابة أو شفاهة بأن المدعى عليه قد دفع الدين أو أن المبلغ كان هبة من المدعي للمدعى عليه...إلخ.
فالدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً دفع موضوعي ، لأنه يتناول الحق المدعى به وإن كان هذا الدفع يتعلق بعدم سماع الدعوى، وعلى هذا الأساس فإن قرار المحكمة بقبول الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم مايكذبها محضا يعني إنهاء موضوع الدعوى أو الخصومة أو الحق المدعى به ، فلا يستطيع المدعي بعد صدور هذا القرار أن يرفع الدعوى مرة أخرى لسبق الفصل فيها بحكمٍ منهي لموضوع النزاع.
فالدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً دفع موضوعي يتناول موضوع الدعوى المدفوعة ، ولذلك فان الحكم بقبول هذا الدفع يكون بمثابة فصل في موضوع الدعوى وعدم احقية المدعي في الحق الذي ادعى به في دعواه المدفوعة.
الوجه الثاني: الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً في قانون المرافعات اليمني
أشار قانون المرافعات إلى هذا الدفع في المادة (186)، واورده ضمن الدفوع المتعلقة بالنظام العام التي يجوز اثارتها في أية مرحلة من مراحل التقاضي ولو أمام المحكمة العليا، واوجب القانون على محكمة الموضوع ان تفصل في هذا الدفع بحكم مستقل قبل الفصل في الدعوى الموضوعية، وفي هذا الشأن نصت المادة (186) مرافعات على أنه: ((تعتبر من النظام العام الدفوع التالية: -4- الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً).
الوجه الثالث: الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً في قانون الإثبات اليمني
لان غالبية نصوص قانون الإثبات اليمني مصدرها الفقه الإسلامي، فقد ورد ضمن الفصل الثاني من هذا القانون وضمن حالات عدم سماع الدعوى نصت المادة (14) على أنه: (لا تسمع الدعوى في الأحوال الأتية: -1- إذا تقدم ما يكذبها محضاً).
الوجه الرابع: الفقه الاسلامي المصدر التاريخي للدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً
من المتفق عليه ان الفقه الإسلامي هو المصدر التاريخي للنصين الواردين في قانوني المرافعات والاثبات السابق ذكرهما، إذ انه بالرجوع إلى كتب الفقه الإسلامي نجد أنها قد بينت المقصود بالكذب المتقدم على الدعوى الذي يكون سببا لدفعها بدفع (عدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً).
فالمقصود بالتكذيب المسبق للدعوى هو صدور قول أو فعل من المدعى في وقت سابق على رفع دعواه يدل صراحة على كذب دعوى المدعي -أي أن القول أو الفعل السابق صدوره من المدعي يكون مناقضا لموضوع الدعوى الذي ترفع بعده ، حيث اعتبر الفقه الإسلامي أي قول أو فعل سابق صادر من المدعي قبل رفع دعواه يناقض دعواه بمثابة تكذيب للدعوى التي ترفع بعد هذا القول اوالفعل السابق صدوره من المدعي، وعلى هذا الأساس فإن القول أو الفعل السابق صدوره من المدعى المناقض لدعواه اللاحقة يكون مانعا لسماع دعوى المدعي ، ومؤدى ذلك ان للمدعى عليه دفع تلك الدعوى التي دل فعل أو قول المدعي السابق على كذبها، وللتدليل على ان كتب الفقه الإسلامي هي المصدر التاريخي للدفع بتقدم مايكذب الدعوى محضاً.
فقد ورد في كتاب التاج المذهب للقاضي العنسي 4/12( فصل – في بيان الدعاوى التي لا تسمع من مدعيها أي لا تقبل وهي (أربع) الأولى لا تسمع دعوى في الوديعة وكل عين غير مضمنة كالعارية المستأجرة غير المضمنة – إذا تقدم من المدعي ما يكذبها محضا، مثال ذلك: ان يدعي رجل وديعة له أو نحوها، فيقول الوديع ما أودعني شيئا فيقيم المدعي البينة على انه أودعه فيدعي في مجلس الإنكار أو بعده بتاريخ متقدم انه قد ردها).
ومن خلال المقارنة ، كما ورد في كتاب درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية 4/176 بعنوان الدعوى المادة (1615) (التناقض هو سبق كلام من المدعي مناقض لدعواه أي سبق كلام منه موجب لبطلان دعواه، فالتناقض : هو سبق كلام من المدعي مناقض لما ورد في دعواه، لانه يشترط في صحة الدعوى عدم وقوع التناقض فيها، فلذلك لا تسمع الدعوى التي يقع تناقض فيها، لأن كذب المدعي يظهر في الدعوى التي يقع فيها التناقض، فمثلا إذا ادعى المدعى قائلا: إن هذا المال ملكي وأثبت المدعى عليه بأن المدعى قد طلبه شراء ذلك المال منه يظهر كذب المدعى في دعواه).
وفي هذا السياق يذهب الفقه المعاصر حيث ذكرالدكتور شعبان الكومي في كتابه( الدعوى بالمجهول صـــ83 ) انه( يشترط في صيغة الدعوى عدة شروط منها:عدم التناقض بين الدعوى وبين أمر سبق صدوره من المدعي ، فالمقصود بالتناقض بين الدعوى وبين ماسبق صدوره من المدعي :إن يسبق من المدعى كلام مناف للكلام الذي يقوله في دعواه، كان يقر أمام القاضي بعين في يده لغيره فيأمر القاضي بتسليمها لمن اقر له بها، وبعد ذلك يدعي المقر انه اشترى هذه العين من المقر له بتاريخ سابق على وقت الإقرار، فبذلك يكون المدعي متناقضا، إذ بإقراره الأول يكون معترفاً بملكية غيره في تاريخ إقراره وبدعواه الثانية يكون مدعياً انه هو المالك في ذلك التاريخ، فإذا وجد مثل هذا التناقض فانه يمنع من قبول الدعوى لأنه يعد دليلاً على كذب المدعى في دعواه، إذ انه يستحيل الجمع في الصدق بين الشيء ونقيضه)، ومن خلال استقراء ماتقدم يظهر ان التناقض الموجب للدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً لايظهر الا من جهة المدعي، وان هذا الدفع هو وسيلة المدعى عليه للحيلولة دون سماع الدعوى الكاذبة للمدعي ، (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الدفوع ، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين- مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة صنعاء ٢٠٢٥م، ص١١٧)، والله اعلم.
![]() |
في القانون اليمني |