إختيار الخصوم لشخص للقيام بإجراءات من غير حكم

من مزايا التحكيم التي تميزه عن القضاء أنه يحق للخصوم المحتكمين الإتفاق على تحديد الإجراءات التي يجب على المحكم إتباعها عند نظره وفصله في الخلاف القائم بين الخصوم، وعندئذٍ يجب على المحكم التقيد الصارم بالإجراءات المحددة في إتفاق التحكيم وإلا كان حكمه باطلاً لمخالفة حكم التحكيم في هذه الحالة لإتفاق التحكيم.

بيد أنه في بعض الحالات قد يتفق الخصوم في إتفاق التحكيم على إختيار خبير أو شخص للقيام ببعض الاجراءات محل الخلاف بين الخصوم إجراءات معينة دون أن يقوم هذا الشخص بإصدار حكم فاصل في النزاع، فعندئذٍ لا يجوزلهذا الشخص المختار من الخصوم أن يتجاوز الإجراءات التي اتفق بشانها الخصوم ، فلايحق لهذا الشخص ان يقوم بالحكم في النزاع بحكم ينهي النزاع القائم، لأن إتفاق التحكيم قد اقتصر على تخويل الشخص المختار على القيام بالإجراءات المحددة في إتفاق التحكيم دون أن يصل إلى الحكم في النزاع، فإتفاق الخصوم في هذه الحالة عبارة عن خارطة طريق، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 14-12-2009م في الطعن رقم (37651)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (والمستغرب أن تعطي الشعبة لإتفاق الخصوم بتاريخ... حجية تفوق حجية الحكم القضائي رغم أن ذلك عبارة عن خارطة طريق للنظر في النزاع بين الطرفين بواسطة محاسب قانوني وفقاً لما يقدم كل طرف ، على أن يعمل المحاسب تحت إشراف المحكمة ورقابتها)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: إنعقاد إتفاق التحكيم في القانون اليمني

نصت المادة (4) من قانون التحكيم على أن (ينعقد التحكيم بأي لفظ يدل عليه وقبول من المحكم ، ولا يجوز إثبات التحكيم إلا كتابة)، فإتفاق التحكيم في القانون عبارة عن عقد يتم بإيجاب صادر من الخصوم إلى المحكم الذي يقبل ذلك، بيد أن هناك طبيعة خاصة لإتفاق التحكيم تميزه عن غيره من الإتفاقات والعقود وهو أنه يجوز أن يصدر الإيجاب من الخصوم في أوقات متفرقة فلا يلزم أن يكون في وقت واحد أو مجلس واحد ولا يلزم أن يكون إتفاق التحكيم في وثيقة واحدة ، فيجوز أن يصدر إتفاق التحكيم من الخصوم برسائل أو مذكرات فردية صادرة منهم حسبما هو مقرر في المادة (15) تحكيم التي نصت على أنه (لا يجوز الإتفاق على التحكيم إلا بالكتابة سواءً قبل الخلاف أو النزاع أو بعد ذلك وحتى لو كان طرفا النزاع قد اقاما الدعوى امام المحكمة، ويكون الإتفاق باطلاً إذا لم يكن مكتوباً ومحدداً به موضوع التحكيم، ويكون الإتفاق مكتوباً إذا تضمنته وثيقة التحكيم أو برقيات أو خطابات أو غيرها من وسائل الإتصال الحديثة ذات الطابع التوثيقي)، واشترطت المادة (17) تحكيم أن يتم تعيين المحكم في إتفاق التحكيم.

وإن كان من اللازم تعيين المحكم في إتفاق التحكيم حسبما هو مقرر في المادة (17) تحكيم، بيد أنه لا يلزم أن يعبر المحكم عن قبوله بالتحكيم في إتفاق التحكيم بل أنه لا يلزم أن يكون قبول المحكم للتحكيم ثابتاً كتابة بل لا يلزم أيضاً أن يعبر المحكم عن قبوله بالتحكيم صراحةً أو كتابة، فيكفي للتدليل على قبول المحكم بالتحكيم أن يباشر المحكم إجراءات التحكيم ، فذلك قبول منه بالتحكيم. (إتفاق التحكيم، د. أحمد إبراهيم عبدالتواب، دار النهضة العربية القاهرة 2013م، ص109).

الوجه الثاني: جواز إتفاق الخصوم المحتكمين على تحديد إجراءات التحكيم التي يجب على المحكم العمل بموجبها

ولاية المحكم في نظر الخصومة التحكيمية هي ولاية إستثنائية ، لأن الولاية الأصلية منعقدة للقضاء المختص بموجب الدستور والقانون، فالقضاء هو الذي بنظر مختلف النزاعات والخلافات.

والتحكيم ولاية إستثنائية قوامها الرضاء والإختيار من الخصوم للمحتكمين، وبناءً على ذلك فأنه يحق للخصوم أن يحددوا في إتفاق التحكيم الإجراءات التي يجب على المحكم الإلتزام بها والعمل بموجبها عند قيامه بنظر الخصومة التحكيمية، وفي هذا المعنى نصت المادة (27) تحكيم على أن (تختص لجنة التحكيم بالفصل في المنازعات التي تحال إليها وفقاً لهذا القانون أو وفقاً لشروط إتفاق التحكيم ذاته)، وكذا نصت المادة (29) تحكيم على أنه (على لجنة التحكيم الإلتزام بإتفاق التحكيم ولا يجوز لها أن تحكم بما لم يشمله الإتفاق أو بما لم يطلبه طرفا التحكيم).

وبحسب ما ورد في النصين السابقين فأنه يجب على المحكم أو هيئة التحكيم العمل بموجب الإجراءات التي حددها الخصوم في إتفاق التحكيم بإعتبارها من الشروط التي اشترطها الخصوم في إتفاق التحكيم الذي يعد صك ولاية المحكم.

الوجه الثالث: إتفاق الخصوم على التحكيم وإختلافهم في تحديد إجراءات التحكيم

في الغالب يتفق الخصوم على تحكيم شخصان اشخاص في إتفاق التحكيم وتحديد موضوع النزاع غير أنهم يختلفوا في تحديد إجراءات التحكيم التي ينبغي على المحكم أو هيئة التحكيم مراعاتها عند نظر الخصومة التحكيمية.

 فمن خلال المطالعة المستمرة والكثيرة للأحكام نلاحظ انه في الغالب أن الخصوم يتفقوا على تسمية المحكم وتحديد موضوع الخلاف الذي يتولى المحكم الفصل فيه، غير ان الخصوم يختلفوا بشان الاجراءات التي يجب على المحكم إتباعها، فبعض الخصوم يشترط تعيين خبراء عدول والآخر يشترط المعاينة والثالث يشترط إجراء الحساب والخامس يشترط تطبيق البصائر والسادس يشترط غرامة المحق على المبطل وهكذا، سيما أن إتفاق التحكيم حسبما سبق بيانه لا يشترط أن يكون في وثيقة واحدة وإنما يصدر من الخصوم على هيئة رسائل ومذكرات وخطابات في أوقات مختلفة.

وعند إتفاق الخصوم في إتفاق التحكيم على تسمية المحكم وتحديد موضوع النزاع في وثيقة مكتوبة ففي هذه الحالة ينعقد إتفاق التحكيم صحيحا، لأن الشروط التي قررها القانون قد تحققت، أما الإجراءات التي يتبعها المحكم عند نظره في الخصومة التحكيمية فلم يشترطها القانون إلا إذا اتفق عليها الخصوم جميعاً، وبحسب هذا المفهوم فإن المحكم لا يلزم بالإجراءات التي حددها بعض الخصوم ولم يتم الإتفاق عليها الخصوم جميعا ، فالعمل بتلك الإجراءات يخضع للسلطة التقديرية للمحكم بحسب ما تقتضيه إجراءات نظر الخصومة التحكيمية. (التعليق على احكام المحكمة العليا في مسائل التحكيم الجزء الثالث، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، ص321).

الوجه الرابع: مدى لزوم إتفاق الخصوم على قيام الشخص المختار منهم بإجراءات معينة لا تصل إلى إصدار حكم في الخصومة

أشار الحكم محل تعليقنا إلى أن الخصوم كانوا قد اتفقوا في وثيقة مكتوبة على خارطة طريق لتسوية النزاع فيما بينهم بنظر المحاسب القانوني على أن يكون ذلك بإشراف المحكمة المختصة التي تقوم بإصدار الحكم في ضوء نتائج الإجراءات التي قام بها المحاسب القانوني المختار من الخصوم.

وهذا الإتفاق ملزم لأطراف الخصومة التحكيمية، لأن ذلك الإتفاق عقد على مسائل مشروعة ،فينبغي على أطرافه الإلتزام به وتنفيذه بحسن النية، ويحق لأيٍ من أطراف التحكيم أن يطلب من المحكمة المختصة الفصل في الخصومة بحسب الإجراءات التي تم الإتفاق عليها.

الوجه الخامس: طبيعة إتفاق الخصوم على قيام الشخص المختار بإجراءات معينة لا تصل إلى إصدار حكم في الخصومة

هذا الإتفاق كما ذكرنا إتفاق جائز لا يخالف الشريعة والقانون، فهذا الإتفاق ملزم لأطرافه يجب عليهم الوفاء به والإلتزام به عملاً بقاعدة: العقد شريعة المتعاقدين.

ويحق لأي من الخصوم ان يطلب من المحكمة المختصة الفصل في الخلاف بحسب الإجراءات المحددة في ذلك الإتفاق.

الوجه السادس: طبيعة نتيجة عمل الخبير أو الشخص المختار من الخصوم للقيام بالإجراءات التي اتفق عليها الخصوم

إذا قام الخبير أو الشخص المختار من قبل الخصوم بتنفيذ الإجراءات التي اتفق عليها الخصوم فأنه يقوم بإعداد تقرير يتضمن الأعمال أو الإجراءات التي قام بها تنفيذاً للإتفاق الذي تم بين الخصوم ، والنتائج التي توصل إليها من خلال ذلك.

 فما يعده الشخص المختار هو مجرد تقرير وليس حكم تحكيم، لأن إرادة الخصوم قد قصرت مهمة الشخص المختار على القيام بالإجراءات المتفق عليها دون أن يصدر هذا الشخص حكماً بذلك، وإنما يترك ذلك للمحكمة المختصة أو محكم آخر إذا وقع الخلاف بين الخصوم بشأن النتيجة التي يتوصل إليها الخبير أو الشخص المختار من قبل الخصوم. (التعليق على احكام المحكمة العليا في مسائل التحكيم الجزء الثالث، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، ص٣٢٤) ، والله اعلم.

إختيار الخصوم لشخص للقيام بإجراءات من غير حكم
القيام بإجراءات من غير حكم في القانون اليمني