يستمد المحكم ولايته في نظر الخصومة التحكيمية من إتفاق التحكيم الذي يحدد موضوع النزاع بين الخصوم في الخصومة التحكيمية، وعلى هذا الأساس فأنه لا يجوز للمحكم أن يلغي عقد الصلح السابق بين الخصوم إذا لم يكن موضوع التحكيم هو الموضوع ذاته الذي سبق ان حسمه عقد الصلح، اما إذا كان موضوع التحكيم هو الموضوع ذاته الذي سبق ان حسمه عقد الصلح فان ذلك يدل على ان الخصوم قد تراجعوا عما سبق ان تصالحوا عليه، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 16-1-2010م في الطعن رقم (35642)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (والدائرة: تجد أن هذا النعي غير سديد ، إذ أن البين من الحكم الاستئنافي الذي ابطل حكم التحكيم أنه قد استند إلى أن المحكمين قد تعرضوا إلى إلغاء وثيقة صلح سابقة حاسمة للنزاع بين الأطراف، حيث لم يطلب الأطراف ذلك، ولذلك فإن المحكمين قد تجاوزوا إختصاصهم، والإتفاق المقصود في الحكم الاستئنافي هو المحرر المؤرخ.... ، وهو عبارة عن إتفاق تقسيم لأموال الشراكة بين الشركاء الثلاثة، وهو إتفاق اصبح لا حجية له لحصول الإنصراف عنه بمجرد إتفاق الشركاء الثلاثة على التحكيم بشأن الخلاف بينهم، ومن ثم فإن ما ذهب إليه الحكم الاستئنافي في هذا السبب غير صحيح، وعلى ذي المصلحة والصفة اللجوء إلى القضاء للمطالبة بما يدعيه من حقوق تجاه بقية الشركاء)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: لزوم عقد الصلح
عقد الصلح مثل غيره من العقود عماده التراضي بين أطرافه، فإذا تحققت أركان عقد الصلح وتوفرت شروطه فأنه يكون ملزماً لأطرافه، ويجب عليهم تنفيذه بحُسن نية، ولا يحق لأي طرف من أطراف عقد الصلح أن يتحلل من العقد أو يمتنع عن تنفيذ ما ورد فيه، كما لا يحق لأي طرف الإنفراد في فسخ عقد الصلح، ويصير عقد الصلح سنداً تنفيذياً إذا تمت المصادقة عليه أمام المحكمة وفقاً لقانون المرافعات.
وحسبما هو مقرر في القانون المدني اليمني فإن عقد الصلح ملزم لطرفيه وهو عقد يحسم النزاع القائم بين الخصوم، ويهدف إلى حسم النزاعات القائمة وتوقي النزاعات المستقبلية.
الوجه الثاني: الخلاف بين الخصوم بشأن تنفيذ عقد الصلح
إذا تجدد الخلاف الذي سبق أن حسمه الصلح فأنه ينبغي الرجوع إلى بنود عقد الصلح والعمل بموجبها، فإذا أمتنع طرف عن ذلك فيحق للطرف الآخر أن يتقدم إلى المحكمة لتنفيذ عقد الصلح إذا كان قد صار سنداً تنفيذياً بالمصادقة عليه من المحكمة، وإن لم يكن قد صار سنداً تنفيذياً فإنه يحق المطالبة بإلزام الطرف الآخر بالعمل بموجب ما ورد في عقد الصلح ،لأن عقد الصلح ملزم لأطرافه حسبما سبق بيانه، هذا كله إذا أمتنع أحد أطراف الصلح عن العمل بمقتضى بنود عقد الصلح الصريحة الواضحة.
أما إذا حدث النزاع بين طرفي عقد الصلح بشأن تفسير بند من بنود عقد الصلح ولم يتفق أطراف العقد على تفسير معين لبنود الصلح الغامضة أو المجملة فأنه يحق لأي منهما اللجوء إلى القضاء للفصل في تفسير بنود عقد الصلح محل الخلاف.
الوجه الثالث: تجدد الخلاف الذي سبق أن حسمه الصلح وتراجع أطراف الصلح عن الإلتزام به أو فسخ الصلح
في بعض الحالات يتجدد النزاع بين أطراف عقد الصلح ويعلن جميع أطراف عقد الصلح تراجعهم عن عقد الصلح أو ما ورد فيه، فيرجع الخلاف بينهم إلى سيرته الأولى قبل إبرام عقد الصلح، وعندئذٍ يكون هذا التراجع من قبل الخصوم بمثابة فسخ لعقد الصلح ، وفي هذه الحالة يتم حسم هذا النزاع إما عن طريق صلح جديد أو عن طريق المحكمة المختصة أو عن طريق التحكيم. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الصلح، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، صـ135).
الوجه الرابع: إتفاق الخصوم على التحكيم لحسم النزاع الذي سبق أن حسمه عقد الصلح
كان النقاش القانوني الذي أشار إليه الحكم محل تعليقنا كان بشأن وضعية إتفاق التحكيم عندما يسبقه عقد صلح حاسم للنزاع ، وقد خلص الحكم محل تعليقنا إلى أن إتفاق التحكيم إذا كان قد تناول الخلاف ذاته الذي سبق حسمه بالصلح فإن إتفاق التحكيم في هذه الحالة إيذان بتراجع الخصوم عن الصلح وفسخه طالما أن جميع أطراف عقد الصلح قد قبلوا التحكيم في الموضوع ذاته الذي سبق أن حسمه عقد الصلح.
الوجه الخامس: إتفاق التحكيم على بعض المسائل التي حسمها عقد الصلح
سبق القول أن إتفاق التحكيم إذا كان موضوع التحكيم المذكور في إتفاق التحكيم قد اشتمل على كل جوانب ومسائل وتفاصيل الخلاف الذي حسمه عقد الصلح فإن إتفاق التحكيم في هذه الحالة يكون بمثابة إعلان فسخ عقد الصلح، اما إذا كان الإتفاق قد اقتصر على بعض المسائل التي حسمها الصلح فإن المحكم يقتصر على الفصل في المسألة محل الخلاف ، لإن ولاية المحكم مقتصرة على هذه الجزئية أو المسألة، وفي منطوق الحكم يذكر المحكم حكمه وجزمه في تلك الجزئية وينص أيضاً على وجوب العمل ببقية بنود عقد الصلح التي لم يشملها التحكيم وحكم التحكيم.
الوجه السادس: التراضي في عقد الصلح والتراضي في التحكيم
الرضاء يختلف فيما بين الصلح والتحكيم، فرضاء الخصوم في التحكيم قاصر على إتفاق التحكيم، فلا يمتد هذا التراضي إلى حكم التحكيم الذي لايشترط فيه رضاء الخصوم، بخلاف الصلح الذي ينبغي أن يعتمد على تراضي المتصالحين في كل مراحله حتى توقيع المتصالحين على عقد الصلح، بيد أن الرضاء اللاحق على إبرام عقد الصلح يلغي الرضاء السابق ، فيحق لجميع الخصوم المتصالحين أن يتراجعوا جميعاً عما سبق لهم أن تصالحوا عليه، فيكون تراجعهم فسخاً لعقد الصلح، فتعود الخصومة بينهم إلى سابق عهدها، وعندئذٍ يحق لهم الإتفاق والتراضي على التحكيم لحسم هذا النزاع عن طريق التحكيم حسبما قضى الحكم محل تعليقنا. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الصلح، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة 2025م، صـ139)، والله اعلم.
![]() |
التحكيم الذي يلغي الصلح في القانون اليمني |