يكتسب الحكم الجزائي حجيته القطعية عندما يكون نهائياً أو يستنفد طرق الطعن فيه، فتكون له حجيته أمام المحكمة المدنية التي تنظر الدعوى المدنية شريطة أن يكون الحكم الجزائي فاصلاً في موضوع الدعوى ونهائياً أو باتاً لا يمكن الطعن فيه وأن لا يكون قد تم الفصل في الدعوى المدنية بحكمٍ بات، فإذا تحققت هذه الشروط فإن الحكم الجزائي تكون له حجيته أمام المحكمة المدنية التي لازالت تنظر الدعوى المدنية، ومعنى حجية الحكم الجزائي في هذا الشان أنه يجب على المحكمة المدنية أن لا تخالف في قضائها ما قضى به الحكم الجزائي، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 10-8-2015م في الطعن رقم (56898)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (فقد وجدت الدائرة أن الطاعن قد نعى على الحكم المطعون فيه انه قد انطوى على حيثيات وأسباب باطلة بطلاناً متعلقاً بالنظام العام ، نظراً للإرتباط والتلازم الذي لا يقبل التجزئة فيما بين القضيتين المدنية في هذه القضية والجزائية المتعلقة بالخدش والتزوير بظاهر بصيرة الشراء ، وان محكمة الاستئناف قد تعمدت الجزم بالقول بأن الأحكام الجزائية المشار إليها لا تعتبر ذات حجية في النزاع المدني ، كونها لم تفصل في الجانب المدني ولم تتطرق لموضوع الدعوى المدنية، والدائرة تجد: ان الشعبة الاستئنافية بما ذكرته في أسباب حكمها تكون قد تعدت على الحجية القانونية القطعية التي تتمتع بها الأحكام الجزائية الباتة في جزمها الصريح المقر من المحكمة العليا، فالخدش في البصيرة المبرزة في القضية المدنية قد حسمته الأحكام الجزائية في دعوى التزوير)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: معنى حجية الحكم الجزائي في الدعوى المدنية
تكون للحكم الجزائي القطعي قوة الشيء المحكوم به أمام المحكمة المدنية ، وذلك بالنسبة للدعوى المدنية التي لاتزال منظورة أمام القضاء المدني والتي لم يصدر فيها بعد حكم نهائي، وحجية الحكم الجزائي تتعلق بوقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها، فإذا اصدرت المحكمة الجزائية حكماً بإدانة المتهم وكانت الدعاوى المدنية الناشئة عن الدعوى الجزائية أو المترتبة عنها منظورة أمام المحكمة المدنية فيجب على القضاء المدني الحكم بالتعويض نتيجة لصدور حكم جزائي قضى بإدانة المتهم عن الجريمة التي قام المضرور بالجريمة برفع دعوى مدنية مطالباً بتعويضه عن الضرر الذي لحق المدعي بسبب وقوع هذه الجريمة.
فيكون للحكم الجزائي في موضوع الدعوى الجزائية بالبراءة أو عدم المسئولية أو بالإسقاط أو بالإدانة قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية في الدعاوى التي لم تفصل فيها المحكمة المدنية، وذلك فيما يتعلق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها إلى فاعلها ، ويكون للحكم بالبراءة هذه القوة سواءً بني الحكم على إنتفاء التهمة أو على عدم كفاية الأدلة، ولا تكون للحكم هذه القوة إذا كان مبنياً على أن الفعل لا يعاقب عليه القانون، وفي هذا الشأن نصت المادة (392) من قانون الإجراءات الجزائية اليمني على أنه: (لا يكون للحكم الجزائي البات الصادر في المواد الجزائية في موضوع الدعوى بالبراءة أو الادانة قوة الشئ المحكوم به في المواد المدنية بالدعاوى التي لم يكن قد فصل فيها نهائياً إلا في الوقائع التي فصل فيها ذلك الحكم وكان فصله فيها ضرورياً، ولا يكون لذلك الحكم الصادر فيها بالبراءة هذه القوة إذا كان مبنياً على أن الفعل لا يعاقب عليه القانون). (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الطعون الجزء الثالث، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين ، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة ٢٠٢٥م، ٣٦٩).
الوجه الثاني: نطاق حجية الحكم الجزائي عند نظر المحكمة المدنية للدعوى
لا تقتصر حجية الحكم الجزائي في هذا الشأن على الدعاوى المدنية بالمعنى الضيق أي دعاوى التعويض عن الضرر الناشئ عن الجريمة وإنما يشمل كذلك جميع الدعاوى المدنية المترتبة على الجريمة التي فصل فيها الحكم الجزائي كدعوى حرمان الوارث من الميراث لقتله مورثه، والإستدلال أمام المحكمة المدنية بمحرر سبق أن فصل فيه الحكم الجزائي مثلما حدث في القضية التي اشار إليها الحكم محل تعليقنا وغير ذلك من الدعاوى المدنية المترتبة أو المتصلة بالدعوى الجزائية التي فصل فيها الحكم الجزائي.
بيد انه لاتكون للحكم الجزائي حجية امام المحكمة المدنية إلا اذا كان نهائياً أو قد استنفد طرق الطعن فيه، فتكون له حجيته أمام المحكمة المدنية التي تنظر الدعوى المدنية شريطة أن يكون الحكم الجزائي فاصلاً في موضوع الدعوى ونهائياً أو باتاً لا يمكن الطعن فيه وأن لا يكون قد تم الفصل في الدعوى المدنية.
الوجه الثالث: عدم حجية الحكم المدني أمام القضاء الجزائي فيما يتعلق بالدعوى الجزائية
في هذا الشأن نصت المادة (393) إجراءات على أنه: (لا يكون للحكم الصادر في المواد المدنية قوة الشيء المحكوم به في المواد الجزائية فيما يتعلق بوقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها).
فالنيابة العامة هي المختصة بإجراء التحقيق والتصرف فيه وإصدار قرار إحالة المتهم إلى المحكمة بعد تحققها من وقوع التهمة ونسبتها إلى المتهم المحال إلى المحكمة التي تتولى إجراء التحقيق النهائي في الدعوى الجزائية والتحقق من وقوع الجريمة ونسبتها إلى المتهم، ولذلك فالنيابة العامة والقاضي الجزائي هما المختصان وفقاً لقانون الإجراءات فيما يتعلق بالإجراءات السابقة واللاحقة لتحريك الدعوى الجزائية والفصل فيها. (الحكم الجزائي أمام القضاء المدني، د. احمد يوسف الزواهرة ، دار الثقافة والنشر عمان ٢٠١٢م ص٢١١).
الوجه الرابع: حجية الحكم الشخصي في الدعوى الجزائية المرفوعة أمام القضاء الجزائي
نصت المادة (394) إجراءات على أنه: (يكون للحكم الصادر في مواد الاحوال الشخصية من المحكمة في حدود إختصاصها قوة الشيء المحكوم به في المواد الجزائية في المسائل التي يتوقف عليها الفصل في الدعوى الجزائية) .
فالقضاء الشخصي هو المختص بالفصل في مسائل الزواج والطلاق والفسوخ والنفقات وغيرها من مسائل الأحوال الشخصية متى ماتعلقت بها دعاوى جزائية ، ولذلك يكون للحكم الشخصي حجة على الدعاوى الجزائية المتعلقة بالمسائل الشخصية، فمثلاً إذا تلقت النيابة العامة شكوى أو بلاغ بشأن زواج إمرأة برجل اخر قبل انقضاء عدتها من زوجها السابق فإن الحكم الشخصي الصادر في مسالة العدة يكون حجة في الدعوى الجزائية المرفوعة بشأن الزواج قبل إنقضاء العدة. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الحكم ، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين ، مكتبة الصادق جولة جامعة صنعاء الجديدة ٢٠٢٥م، ص١٦٥)، والله أعلم.