الخلط في الذمة المالية بين الوالد وأولاده

الذمة المالية للإنسان: هي مجموعة الحقوق والإلتزامات المالية التي تتعلق بالشخص وتجعله أهلاً لإكتساب الأموال وتحمل الإلتزامات المالية، ومن المؤكد ان للانسان شخصية مستقلة عن غيره، وله ايضا ذمة مستقلة عن غيره حسبما هو مقرر في الشريعة الإسلامية التي منحت حتى الجنين بعض الحقوق المالية قبل ولادته، وتبعا لذلك فأن الذمة المالية للولد مستقلة عن الذمة المالية لوالده منذ ولادة الولد، فمنذ ولادة الولد تكون له ذمة مالية مستقلة عن والده، مع أن الولد قبل بلوغه يكون تحت ولاية والده، وقد أخذ القانون المدني اليمني بمنهج الشريعة الاسلامية فيما يتعلق بمبدأ إستقلال الذمة المالية للإنسان منذ ولادته، وبناء على ذلك فأن اموال الولد تكون مستقلة عن أموال والده.

ولقصور الوعي الشرعي والقانوني بهذه المسألة يقع الخلط بين املاك الوالد وولده فتحدث النزاعات، وتتعقد القضايا وتطول إجراءات التقاضي في هذه القضايا لعدم الإحاطة بإستقلال الذمة المالية للولد عن والده، ففي بعض الحالات يتم توجيه الدعاوى والطلبات بطريقة غير صحيحة فتتعقد القضايا، وقد أشار إلى هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20-6-2010م في الطعن رقم (39980)، فقد ورد ضمن أسباب هذا الحكم: (فالثابت من الأوراق أن الطاعن لم يتم تمثيله في حكم التحكيم، ومن ثم فإن القول بأن الأرض محل الدعوى قد دخلت في القسمة التي تمت بين أطراف التحكيم وإقحام الطاعن كطرف فيها إستناداً إلى إفادات من شهد من المحكمين وغيرهم مع إختلافهم حول ما إذا كانت البصيرتين المتعلقتين بالأرض محل النزاع قد تم إحضارهما أثناء القسمة من عدمه ، كما أن حضور الطاعن بعض جلسات التحكيم أو قيام الولد بتحرير المخالصة بين والده والمطعون ضده وآخرين ، وكذا حضور الولد الطاعن عند تحرير المحرر المؤرخ..... ، وعدم إعتراضه ، كل ذلك ليس مبرراً كافياً لمصادرة ذمته المالية المستقلة وخلطها بذمة والده المالية ، ومن ثم خلط ملكيته للأرض محل النزاع بأملاك والده)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الخلط في الذمة المالية بين الوالد وأولاده
الفرق بين الذمة المالية بين الوالد وأولاده

الوجه الأول: تعريف الذمة المالية للإنسان واهميتها

الذمة المالية مفهوم قانوني وليست شيئاً مادياً ملموساً، فالذمة المالية للإنسان: هي مجموعة الحقوق والإلتزامات المالية التي تتعلق بالشخص وتجعله أهلاً لإكتساب الأموال وتحمل الإلتزامات المالية، فالذمة المالية هي عبارة عن وعاء إفتراضي يضم جميع أموال الشخص وحقوقه وإلتزاماته المالية قبل الغير.

وتتكون الحقوق المالية التي تدخل في وعاء الذمة المالية من جميع الممتلكات والأموال التي يملكها الشخص مثل: العقارات والمنقولات والأموال النقدية والحقوق العينية مثل: حق الإنتفاع والحقوق الشخصية مثل: الديون المستحقة للشخص.

أما الإلتزامات المالية التي تدخل أيضاً ضمن وعاء الذمة المالية فتشمل جميع الديون والمبالغ المالية التي يجب على الشخص دفعها للآخرين مثل: الديون المستحقة على الشخص والإلتزامات التعاقدية والتعويضات.

وللذمة المالية للشخص أهمية بالغة، فهي تتعلق بأهلية الشخص في التعاملات والمعاملات المالية ، كما أنها تحدد نطاق المسئولية المالية للشخص ، وتعتبر الذمة المالية أساساً لتنفيذ الأحكام القضائية وأحكام التحكيم، إضافة إلى أن الذمة المالية تعد ضماناً لدائني الشخص. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل التنفيذ، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء 2025م، ص132).

الوجه الثاني: الذمة المالية للشخص في القانون اليمني

نصت المادة (37) من القانون المدني اليمني على أنه: (تبدأ شخصية الإنسان من وقت ولادته حياً وتنتهي بموته، ومع ذلك فإن للحمل المستكن حقوقا اعتبرها القانون) ، فهذا النص صريح في إستقلال شخصية الولد عن والده منذ ولادة الولد حتى موته ، فالنص يفيد ان للولد شخصية مستقلة عن والده منذ ولادة الولد، وتبعا لذلك فأن اموال الولد مستقلة عن أموال والده .

وفي السياق ذاته نصت المادة (49) من القانون المدني اليمني على أن: (الأهلية نوعان: -1- أهلية وجوب للحقوق الشرعية للشخص وعليه وتثبت له منذ ولادته. -2- أهلية أداء بمقتضاها يباشر الإنسان حقوقه المدنية وتكون له طبقاً للأحكام المتبعة في المواد التالية).

فهذا النص يصرح بأن للولد ذمة مالية مستقلة عن والده منذ ولادة الولد.

فالقانون المدني اليمني يصرح بوجود الذمة المالية لكل شخص منذ ولادته، ويحدد القانون نطاق الذمة المالية لكل شخص ويضع قواعد لتنظيم الحقوق والإلتزامات المالية، ويحدد الحالات التي يجوز فيها الحجر على أموال الشخص وكيفية تنفيذ الأحكام عليها، ومؤدى ذلك ذلك أن أموال الولد مستقلة عن أموال والده.

الوجه الثالث: أسباب الخلط في الذمة المالية بين الوالد وأولاده

الواقع أن الإختلاط لا يكون حقيقة في الذمة المالية ، لأن الذمة المالية لكل شخص توجد مستقلة منذ ولادته ، وإنما الخلط يقع فقط في الأموال التي تتكون منها الذمة المالية.

فيقع الخلط في الذمة المالية بين الوالد وأولاده أو بين اموالهما نتيجة قيام الولد بالعمل والكسب والكد تحت إشراف والده أو مع والده وقيام الوالد بشراء الأموال باسمه من العائدات المتحصلة من سعي أو عمل ولده أو العكس، أو الشراكة والخلطة بين الوالد واولاده . (الذمة المالية للزوجين في الفقر الاسلامي والقانون الوضعي، د. عمر صلاح العزاوي، منشورات الحلبي الحقوقية بيروت ٢٠١٠م، ص ١٤٧).

الوجه الرابع: كيفية الفصل بين الأموال التي تدخل في الذمة المالية للولد عن الأموال التي تدخل في الذمة المالية للوالد

ذكرنا فيما سبق أن الخلط حقيقة لا يقع في الذمة المالية للوالد والولد، وإنما يقع الخلط بين الأموال والحقوق والإلتزامات المكونة للذمة المالية لكلٍ منهما، ولذلك هناك ضوابط وإجراءات يتم إتباعها للفصل بين حقوق وإلتزامات كلٍ منهما، ويمكن تلخيص هذه الضوابط كما يأتي:

الضابط الأول: اسم المالك في وثيقة الملكية: فوثيقة الملكية هي الوثيقة التي اعدها القانون لإثبات الملكية سواءً أكانت الوثيقة عقد شراء أو فاتورة أو هبة أو وصية أو نذر...إلخ، فالعبرة باسم المالك المذكور في وثيقة الملكية، لأن الأصل في التصرفات والعقود والمعاملات الصحة، وعلى المدعي خلاف هذا الأصل أن يثبت أن التصرف يخفي حيلة أو أن الثمن لم يكن من مال المذكور في الوثيقة...الخ.

الضابط الثاني: حيازة المنقول سند الملكية: فالأموال المنقولة كالأجهزة والآلات والمعدات والأثاث والسيولة النقدية التي بحوزة كلٍ من الوالد والولد تكون ملكه، لأن الحيازة في المنقول سند الملكية، وعلى المدعي خلاف ذلك الاصل أن يقدم الأدلة التي تثبت خلاف ذلك.

الضابط الثالث: العقارات التي بحوزة كل طرف تكون قرينة على ملكيته لها إذا لم تكن هناك أدلة أقوى تدل على ملكية غير الحائز لها كوثائق الملكية ، علماً أن القرابة تمنع القريب من التمسك بالحيازة في مواجهة قريبه، كما أن الحيازة قد تكون مباشرة كالإنتفاع بالعقار أو حيازة العقار حيازة غير مباشرة عن طريق المستأجر أو الخادم أو العامل لدى الحائز الأصلي.

الضابط الرابع: العلاقة المالية بين الوالد وولده: ومعنى ذلك أن الوالد إذا كان هو المنفق والمعيل لولده الذي لا يعمل فإن غالبية الأموال المنقولة وكل الأموال العقارية التي تكون بحوزة الولد تكون ملكاً لأبيه حتى لو كانت مسجلة باسم الولد طالما انه ليس للولد مصدر للحصول على المال، وعلى الولد في هذه الحالة أن يثبت حصوله على الأموال التي بحوزته من غير مال والده.

أما إذا كان الولد يعمل لدى ابيه عملاً معتادا ويتقاضى من والد اجرا بصورة منتظمة فأ ن الولد في هذه الحالة يكون اجيرا أو عاملا لدى والده، وينظر إلى الأموال التي بحوزته بحسب الأجر الذي يتقاضاه من والده،

 وإذا كان الولد يدير أعمال والده وترتب على إدارته نماء مال والده فأن الولد يكون مضارباً في مال والده أو ساعياً يستحق الولد نظير ذلك على قدر النماء الذي تحقق من سعي الولد.

الوجه الخامس: دلالة كتابة الولد للتصرف الصادر من والده أو شهادته عليه

قضى الحكم محل تعليقنا بأن قيام الولد بكتابة المحرر المتضمن التصرف الصادر من والده أو شهادته عليه لا تعني موافقة الولد أو إجازته أو مصادقته على التصرف الصادر من والده بشان الارض المملوكة للولد.

لأن الغرض من كتابة المحرر كتابة وتدوين ما جرى من تصرف بين والده والغير، فقد قام الولد بكتابة المحرر لإثبات ما جرى بين والده والغير، فالتصرف المكتوب في المحرر لم يصدر من الولد وإنما من الوالد، فالولد الكاتب ليس طرفا في ذلك التصرف، والتصرف لايكون حجة إلا على اطرافه ، فلا تكون مجرد الكتابة حجة على الولد.

وكذا شهادة الولد على التصرف من الوالد لا تكون دليلاً على موافقة الولد ورضاه بالتصرف الذي شهد عليه، فدور الشهادة هو إثبات وقوع التصرف فيما بين المتصرف والمتصرف إليه ، فلا تكون الشهادة دليلا على موافقة الولد الشاهد على التصرف الذي شهد عليه الصادر من والده ، فالشاهد يشهد بوقوع التصرف، فالحجية قاصرة على اطراف التصرف ، في حين أن الولد الشاهد ليس طرفاً في التصرف. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل الشركات، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء ٢٠٢٥م ، ص١١٧) ، والله أعلم.