 |
العبرة باللفظ الصريح الوارد في المستند |
المحررات أو المستندات من أهم وسائل الإثبات في الوقت المعاصر، إذ كثر إستعمالها في إثبات العقود والتصرفات المختلفة، فقد صارت هي وسيلة الإثبات الغالبة في الوقت الحاضر ، وقد أصبغ عليها قانون الإثبات اليمني الحجية اللازمة بحسب الشروط المحددة في ذلك القانون.
ولاريب أن الرضاء والإرادة عماد العقود والتصرفات، لكن العبرة بالإرادة الظاهرة في المستند وليس بالإرادة الباطنة التي لا تظهر في المستند، فحكم القاضي أو المحكم يستند إلى ظاهر الدليل وليس الارادة الباطنة الخفية، أما حكم الله تبارك وتعالى فيشمل الظاهر والباطن، فالله و وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وعملاً بهذا المفهوم فإذا تم إبراز مستند أمام القاضي للإستدلال به فإن العبرة بمعاني ودلالة الألفاظ والعبارات والجمل الصريحة الواردة في المستند بحسب معانيها ودلالتها في اللغة التي تمت بها كتابة المحرر وبحسب الإستعمال المعروف لهذه الألفاظ والعبارات في الحرفة أو المنطقة التي تم فيها كتابة المستند، حسبما أشار الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 29-6-2010م في الطعن رقم (40370)، وقد ورد ضمن الحكم المشار إليه: (فإن نعي الطاعن مردود بأن محكمة الموضوع منحت الفرصة للطاعن لإحضار بينته بأن الإتفاق الموقع مع المطعون ضده هو إتفاق مخالف لما ورد في المستند، وان إتفاق الطرفين كان يرمي إلى غير ذلك...إلخ، فما جاء في محضر الإتفاق بين الطرفين يكفي لدحض نعي الطاعن)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
 |
العبارة الواردة في المستند |
الوجه الأول: المقصود بقاعدة: العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني:
نصت المادة (6) من القانون المدني اليمني على أن (الأمور بمقاصدها والعبرة في الكنايات بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني)، وأصل هذه القاعدة الجليلة هو الفقه الإسلامي.
فهذه القاعدة تشير الى أن عقود البيع والشراء وإن كانت تتم بالألفاظ والمباني فإن المعتبر به هو المقصد والنية للمتعاقدين فالعبرة بما أُضمر لا بما أُظهر.
فلا تترتَّب الأحكام في العقود على مجرَّد الألفاظ، وإنما تترتَّب على المقاصد والمعاني التي يقصدها المتعاقدان من الألفاظ المستعملة في صيغة العقد؛ لأنَّ القصد الحقيقي من الكلام هو المعنى، وإنما اعتُبِرَ اللفظ دالاًّ عليه، فإذا أظهر القصد، كان الاعتبار له، ويقيَّد اللفظُ به وترتَّب الحكمُ بناءً عليه ، فالهبةُ بشرطِ العوض بيعٌ، وإن كانتْ بغير لفظه .
واصل هذه القاعدة ما رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ). فالنيات معتبرة في العقود ،والمتكلم إذا لم يقصد بكلامه معانيه بل تكلم به غير قاصد لمعانيه أبطل الشرع عليه قصده.
لو قال شخص لآخر : وهبتك هذه السيارة على أن تعطيني سيارتك فإن هذا العقد يأخذ حكم البيع وإن كان بلفظ الهبة لأن هذا العقد وإن كان بلفظ الهبة إلا إن معناه البيع ،و لو قال شخصا لآخر وهبتك هذا الدار بمائة ألف ريالا فيكون هذا العقد عقد بيع لا عقد هبة وتجري فيه أحكام البيع ، ولو قال شخص لآخر بعتك هذا الدار أو هذه السيارة بلا ثمن فيكون هذا العقد هبة وتجري عليه أحكام الهبة ، ولو قال شخص لآخر أعرتك هذه السيارة لتركبها الى مكان ما، بمبلغ خمسة الاف فالعقد يكون عقد إيجار لا عقد إعارة رغم استعمال كلمة الإعارة في العقد ،لأن الإعارة هي تمليك منفعة بلا عوض وهنا يوجد عوض
ومن خلال ما تقدم يظهر أن مجال تطبيق هذه القاعدة هو عند إبرام العقود أو إنشاء التصرفات فعند صدور ألفاظ وعبارات الإيجاب والقبول أو التعبير عن الإرادة تكون العبرة بمقصود المتلفظ بالألفاظ والعبارات، فوقت تطبيق هذه القاعدة الجليلة هو وقت تعبير المتعاقد أو المتصرف عن إرادته، حيث يجب إستفصال المتعاقد أو المتصرف عن إراداته، حيث يجب إستفصال المتعاقد أو المتصرف وقت تلفظه عن مراده من الألفاظ التي تلفظ بها، أما إذا قام المتصرف أو المتعاقد بالتوقيع على المحرر أو المستند المتضمن ألفاظه الصريحة أو تعبيره الصريح عن إرادته فلا يتم البحث خارج المستند عن إرادة المتصرف أو المتعاقد وإلا فلن تكون هناك أية فائدة أو جدوى لإثبات العقود والتصرفات في المستندات، وتبعاً لذلك فلن يستقر أي تصرف ،فحاشا لله أن يكون مقصد الشريعة والقانون من هذه القاعدة فتح المجال لناكثي العقود والعهود للتحلل من إلتزاماتهم عن طريق التعسف في إستعمال هذه القاعدة، لأن ذلك يخالف قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
فمجال تطبيق هذه القاعدة عند تتضمن صيغة العقد كناية أو تورية او غموض أو إبهام مما يجعل اللفظ يحتمل أكثر من معنى، فلا مجال لتطبيق هذه القاعدة عندما تكون الجملة واضحة وصريحة. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل العقود، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء 2025م، ص102).
الوجه الثاني: الغرض من إثبات العقد أو التصرف كتابة في محرر أو مستند:
حفظاً للحقوق والمصالح فقد قررت الشريعة والقانون وسائل الإثبات كالشهادة والإقرار والإستجواب والمحررات والمعاينة والخبرة، بيد أن الكتابة أو المحررات قد صارت هي الوسيلة الغالبة للإثبات في الوقت المعاصر لسهولة الإثبات بها ولأنها أكثر ضبطاً وحفظاً للحقوق والمصالح ، ولذلك قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، ومن هذا المنطلق ينبغي النظر إلى الإثبات بالكتابة في الوقت المعاصر.
وتتم كتابة العقود والتصرفات في الوقت الحاضر عن طريق الموثقين والأمناء وتكون وثائق العقود والتصرفات محررات رسمية إذا تم توثيقها لدى أقلام التوثيق، وتكون العقود والتصرفات محررات عرفية إذا قام الأمين الشرعي بتحرير العقد أو التصرف ولم يتم توثيق المحرر ، وكذا إذا تم تحرير المحرر بخط وتوقيع المتصرف أو قام المتعاقد أو المتصرف بالتوقيع عليه أو تم الإشهاد عليه. (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د . عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء ٢٠٢١م ، ص٢٠٢).
الوجه الثالث: العبارات الصريحة في المستند لا تخضع لقاعدة: العبرة بالمقاصد والمعاني
العبارة الصريحة هي تعبير عن الإرادة أو المعنى بطريقة واضحة ومباشرة دون غموض أو إبهام أو تورية أو كناية، بمعنى آخر فان العبارة الصريحة هي التعبير عن الشيء بوضوح بحيث لا يدع مجالاً للتأويل أو سوء الفهم، وفي سياق العقود والتصرفات فإن معنى العبارة الصريحة أن المتعاقد أو المتصرف يعبر عن نيته وإرادته بوضوح.
فإذا وردت العبارات صريحة في المحرر أو المستند فلا مجال لتطبيق قاعدة: العبرة بالمقاصد والمعاني، وإنما تكون العبرة بالعبارة الصريحة الواردة في المستند، فإذا أدعى الخصم أنه كان يريد غير العبارة الصريحة الواردة في المستند فأنه يجب عليه أن يثبت ذلك بدليل أقوى أو مماثل للمستند حسبما ألمح الحكم محل تعليقنا. (مهارات الصياغة القانونية، ا.د . عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء ٢٠١٧م ، ص ٤٢)، والله أعلم.