من خلال المطالعة المستمرة لأحكام المحكمة العليا في اليمن نلاحظ ان المحكمة العليا عندما تنقض الحكم وتجد المحكمة العليا أن القضية غير صالحة للفصل فيها من قبل المحكمة العليا وتجد أن القضية قد ظلت منظورة أمام القضاء لمدة طويلة فإن المحكمة العليا تقرر إرجاع القضية الى محكمة الموضوع ، وتنص المحكمة العليا في حكمها بأنه يجب على محكمة الموضوع النظر في القضية المعادة من المحكمة العليا بجلسات متتالية أو متوالية، مثلما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 12-4-2010م في الطعن رقم (37407)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (وحيث أن القضية قد استمرت منظورة أمام محكمتي الموضوع مدة ثلاث عشرة سنة، فعلى الشعبة الفصل في الاستئناف بجلسات متوالية)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: معنى الجلسات المتوالية أو المتتالية:
المتوالية والمتتالية كلمتان عربيتان صحيحتان ، فكلاهما يدل على تسلسل الأشياء وتعاقبها من غير فاصل بينها، بيد أن كلمة متتالية تستخدم في الحالات التي يجب أن يكون فيها الترتيب والتسلسل بين الأشياء دقيقاً كالرياضيات ، ولكن كلمة (متوالية) أوسع إستعمالاً ، فهي تدل على تتابع الأشياء أي أن تكون الأشياء المقصود بالتوالي متتابعة أو متعاقبة من غير فاصل يفصل بينها ، وبحسب هذا المعنى فقد اشترط بعض الفقهاء الموالاة في الوضوء كسنة أي أن يكون ترتيب أعضاء الوضوء بحسب الترتيب المتوالي الوارد في قوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ...} أي أن يكون الوضوء بالترتيب من غير فاصل زمني بين عضو وعضو من أعضاء الوضوء.
وبحسب هذا المعنى فإن المقصود بجلسات المحاكمة المتوالية هي الجلسات المتتابعة التي تتم أثناء عمل المحكمة يومياً أي يومٍ بعد يوم عدا أيام الإجازات والعطل الرسمية والقضائية وكذا الايام التي يحدث فيها عذر أو ظرف يحول دون عقد الجلسة.
الوجه الثاني: الجلسات المتوالية في القانون اليمني:
بالنسبة للدعاوى الجزائية فقد صرح قانون الإجراءات الجزائية اليمني على أن تنظر الدعاوى الجزائية في جلسات متتابعة، فقد نصت المادة (268) على أن (يكون نظر الدعاوى الجزائية في جلسات متتابعة ومستمرة تمتد إلى أن يتم إنهاء المحاكمة مالم تقتض ظروف القضية الوقوف أو التأجيل المبرر أو للضرورة في الأحوال المنصوص عليها في القانون)، وقد ورد هذا النص بشان الدعاوى الجزائية كافة، وقد ورد في هذا النص مصطلح (متتابعة) وليس مصطلح (متوالية) وقد فيما فيما سبق ان التوالي يعني التتابع من غير فاصل الا لعذر.
وبالإضافة إلى النص القانوني السابق بيانه بشأن الدعاوى الجزائية كافة، فقد ورد ضمن إجراءات المحاكمة المستعجلة في قانون الاجراءات الجزائية ان تقوم المحكمة بالفصل في جلسات (متعاقبة) في الجرائم الإقتصادية كالرشوة والإختلاس وغيرهما والجرائم المتعلقة بالمواصلات والجرائم التي تقع بواسطة الصحف وبأية وسيلة من وسائل النشر والجرائم المشهودة إذا طلبت النيابة ذلك والجرائم التي يقدم المتهم فيها للمحاكمة محبوساً والجرائم التي تقع على أعضاء السلطة القضائية أو الموظفين العموميين أثناء قيامهم بأعمالهم وجرائم التلوث .
فقد نصت المادة (299) إجراءات على أن (تنظر الدعوى في جلسات منعقدة في ظرف أسبوع من يوم إحالتها على المحكمة المختصة ، وعلى هذه المحكمة أن تنظرها في جلسات متعاقبة ما امكن ذلك وتفصل فيها على وجه السرعة)، وقد وردت في هذا النص كلمة (متعاقبة) وليس( متوالية)، ومعنى متعاقبة أي جلسة عقب جلسة أي جلسة بعد جلسة.
ومن المعروف أن إجراءات المحاكمة المستعجلة بما فيها الجلسات المتعاقبة يكون تطبيقها في الجرائم الإقتصادية كالرشوة والإختلاس وغيرهما والجرائم المتعلقة بالمواصلات والجرائم التي تقع بواسطة الصحف وبأية وسيلة من وسائل النشر والجرائم المشهودة إذا طلبت النيابة ذلك والجرائم التي يقدم المتهم فيها للمحاكمة محبوساً والجرائم التي تقع على أعضاء السلطة القضائية أو الموظفين العموميين أثناء قيامهم بأعمالهم وجرائم التلوث، حسبما هو مقرر في المادة (296) إجراءات، وبموجب ذلك تقوم المحكمة بعقد جلسات متعاقبة للفصل في الجرائم المشار إليها.
أما في قانون المرافعات المدنية والتجارية اليمني فلم ترد فيه نصوص مماثلة لما ورد في قانون الإجراءات بشأن الجلسات المتوالية، بيد أنه في المقابل لم يرد في قانون المرافعات اليمني ما يمنع من عقد جلسات متوالية للقضايا التي تحتاج إلى ذلك مثل القضايا المتعثرة حسبما أشار الحكم محل تعليقنا.
ومن خلال مطالعتنا المستمرة لغالبية أحكام المحكمة العليا في اليمن نلاحظ أنها عندما تقرر نقض حكم في قضية متعثرة طالت إجراءات التقاضي فيها فإن المحكمة العليا ترشد دوماً محكمة الموضوع إلى النظر فيها بسرعة وبجلسات متوالية مثلما ورد في الحكم محل تعليقنا، دون ان تفرق المحكمة العليا في ذلك بين القضايا المدنية أو الجزائية ، وهو مسلك محمود للمحكمة العليا.
الوجه الثالث: شبهات بشأن الجلسات المتوالية:
يحاول بعض الباحثين الربط بين الجلسات المتوالية والمحاكمة المستعجلة وتعطيل حقوق الدفاع، فيذكر هولاء أن الجلسات المتوالية والمحاكمة المستعجلة لا تمكن الخصوم من تحضير أدلتهم وطلباتهم وأوجه دفاعهم التي يعجزوا عن توفيرها وتحضيرها في حالة إنعقاد الجلسات بصورة متوالية، بيد أنه إذا كان لهذا الأمر ما يبرره بالنسبة للدعاوى المرفوعة بداية، بيد أن هذا المبرر غير مقبول بالنسبة للقضايا القديمة أو المتعثرة أو القضايا الخطيرة التي تحتاج إلى حسم وفصل بصور عاجلة في جلسات متوالية سيما إذا توفرت الأدلة وأوجه دفاع الخصوم في هذه القضايا. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل إطالة إجراءات التقاضي، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء 2025م، ص470).
الوجه الرابع: الجلسات المتوالية وسيلة فاعلة في مواجهة تعثر القضايا:
القضايا المتعثرة هي تلك القضايا التي قد انقضت عليها مدة طويلة منذ رفعها ولا تنطبق عليها أحكام السقوط والشطب، وهذه القضايا لا تكون صالحة للحكم وإلا لكانت المحكمة قد حجزتها للحكم فيها من تلقاء نفسها، فالقضايا المتعثرة بحسب هذا المفهوم يناسبها عقد جلسات متوالية لإستكمال الإجراءات فيها.
الوجه الخامس: ليس هناك في قانون المرافعات ما يمنع من عقد جلسات متوالية في القضايا لسرعة الفصل فيها:
صحيح أنه لم يرد في قانون المرافعات نصوص مماثلة لما ورد في قانون الإجراءات الجزائية حسبما سبق بيانه، غير أنه في المقابل ليس هناك ما يمنع من نظر القضايا المدنية والتجارية والشخصية والإدارية في جلسات متتالية، بل أن المبادئ والإجراءات الواردة في قانون المرافعات قد استهدفت سرعة الفصل في القضايا لتمكين أصحاب الحقوق من حقوقهم بيسر وسهولة وسرعة ، علماً بأن هناك في المجال المدني والشخصي والتجاري والإداري دعاوى كثيرة تحتاج إلى نظرها في جلسات متوالية على غرار ما هو مقرر في قانون الإجراءات الجزائية،. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل إطالة إجراءات التقاضي، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء 2025م، ص47٣)، والله أعلم.