الوضعية القانونية للضمان الخاص بتنفيذ حكم التحكيم
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين – الأستاذ بكلية الشريعة والقانون، جامعة صنعاء
مقدمة
من الأعراف الشائعة في اليمن أن المحكم يطلب من الخصوم المحتكمين إحضار كل طرف من أطراف الخصومة التحكيمية إحضار كفيل عنه (ضمين) يكفل إلتزام الخصم المحتكم بالقرارات والاجراءات التي يتخذها المحكم أثناء سير إجراءات التحكيم ودفع التكاليف والمصاريف المستحقة عليه اثناء سير إجراءات التحكيم، وكذا يضمن الكفيل إلتزام الخصم بتنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره، وفي بعض الحالات قد تتم الاستعاضة عن الكفيل أو الضمين بإلزام الخصم المحتكم بوضع سيارة أو بنادق أو خنجر يماني ثمين (جنبية) كضمان إلتزام الخصم بإجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره ، وفي هذا الشأن نصت المادة (31) من قانون التحكيم اليمني على أنه : (يجوز للجنة التحكيم أن تطلب من طرفي التحكيم تقديم الضمانات اللازمة لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم عند صدوره)، وقد أشار إلى هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 3-2-2010م في الطعن رقم (38609)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (ومن جهة أخرى فقد تضمن حكم التحكيم أن المحكم ألزم الطرفين بإحضار ضمناء مُسلمين بما يتقرر لكل طرف على الآخر ، فأحضر كل منهم ضامناً، ولكن الشعبة لم تتأكد من هذا ، وهو ما يقتضي نقض الحكم)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: مفهوم ضمانات التحكيم الواردة في المادة (31) من قانون التحكيم اليمني
نصت المادة (31) من قانون التحكيم على أنه : (يجوز للجنة التحكيم أن تطلب من طرفي التحكيم تقديم الضمانات اللازمة لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم عند صدوره)،ومن خلال مطالعة النص القانوني السابق يظهر أنه قد استعمل مصطلح (الضمانات اللازمة) ولم يستعمل مصطلح (الكفالة أو الكفيل) ، ومصطلح (الضمانات) أوسع من مصطلح (الكفالة)، فمفهوم الكفالة هو ضم ذمة مالية إلى ذمة مالية أخرى - أي ضم الذمة المالية للخصم إلى ذمة كفيله، في حين أن مفهوم (الضمانات) الواردة في المادة (31) السابق ذكرها يشمل الكفالة ويشمل الأموال والأشياء التي يقدمها الخصم المحتكم كضمان لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم مثل: السيارات والبنادق والسلاح الأبيض (الجنابي) والنقود...إلخ، وعلى هذا المعنى فإن مفهوم (الضمانات) المشار إليها الواردة في النص السابق تشمل الكفالة أو ما يسمى الضمناء ،حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا ، بالإضافة إلى الاموال التي يقدمها الخصم المحتكم كضمان لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره. (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل التحكيم الجزء الثالث، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء 2025م، ص361).
الوجه الثاني: مفهوم الكفيل والكفالة لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم
الكفالة المدنية المقررة في القانون المدني والكفالة التجارية المقررة في القانون التجاري مفهومهما واحد وهو: ضم ذمة مالية إلى ذمة مالية أخرى أي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المفكول عليه ، ومفاد ذلك بالنسبة للتحكيم هو: ضم ذمة الخصم المحتكم إلى ذمة كفيله، وبموجب الكفالة يستطيع المكفول له (المحكم أو المحكمة) الرجوع مباشرة على الكفيل أو المكفول عليه للوفاء بالحق أو الإلتزام محل الكفالة. فالغرض من الكفالة في التحكيم هو إمكانية الرجوع إلى الكفيل إذا تخلف الخصم المحتكم عن تنفيذ الحكم أو حضور جلسات التحكيم ودفع أتعاب المحكمين وتقديم الأدلة أو المستندات التي يطلبها المحكم من الخصم أثناء اجراءات التحكيم، وبحسب هذا المفهوم فإن كفيل الخصم في التحكيم يكفل حضور الخصم إجراءات التحكيم وتقديم أدلته وكذا دفع اجور المحكمين وأية مبالغ أو أشياء قد يحكم بها المحكم على الخصم، وبحسب هذا المفهوم فأن كفالة كفيل المحتكم تشتمل على كفالة وجوه أو كفالة حضورية وكذا كفالة مالية يلتزم بموجبها الكفيل بدفع المبالغ التي قد يحكم بها على الخصم أو تتطلبها إجراءات التحكيم كأجور الخبراء العدول وأتعاب المحكمين.
الوجه الثالث: الغرض من إلزام الخصم المحتكم تقديم الكفيل أو الضمانات في التحكيم
نصت المادة (31) من قانون التحكيم على أنه : (يجوز للجنة التحكيم أن تطلب من طرفي التحكيم تقديم الضمانات اللازمة لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم عند صدوره)، ومن خلال مطالعة هذا النص يظهر أن الغرض من (الضمانات اللازمة) في التحكيم المذكورة في النص يتمثل في غرضين هما:
الغرض الأول: ضمان سير إجراءات التحكيم، ومعنى ذلك ضمان حضور الخصم المحتكم أو من يمثله جلسات التحكيم وإجراءاته وتنفيذ القرارات والإجراءات التمهيدية أو الأولية التي يتخذها المحكم أثناء سير إجراءات التحكيم، وتقديم الأدلة والمستندات التي تكلفه هيئة التحكيم بتقديمها، وكذا سداد المبالغ المستحقة عليه أثناء سير إجراءات التحكيم كأتعاب الخبراء والعدول ومصاريف الشهود والإنتقال والمعاينة وأتعاب المحكم أو المحكمين.
الغرض الثاني: ضمان تنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره، وذلك لحمل الخصم المحتكم على إحترام حكم التحكيم وتنفيذه بعد صدوره، فان يلتزم الخصم بذلك فيتم الرجوع على الكفيل أو التنفيذ على الأموال التي وضعها الخصم كضمان.
الوجه الرابع: دلالة إختيار كفيل أو تقديم ضمان لتنفيذ حكم التحكيم دلالته على تنازل الخصم عن حق الإدعاء ببطلان الحكم عند صدوره في المستقبل
يوحي قيام الخصم بإحضار كفيل أو تقديم ضمان لتنفيذ حكم التحكيم قبل صدوره يوحي ذلك بأن المحتكم قد قبل مقدما بحكم التحكيم قبل صدوره، وأن الخصم قد التزم بقبول الحكم وتنفيذه وعدم الإدعاء ببطلانه عند صدوره في المستقبل، لأن تقديم الخصم كفيل أو تقديمه ضمان لتنفيذ حكم المحكم عند صدوره في المستقبل تنازل من الخصم عن تقديم دعوى بطلان حكم التحكيم عند صدوره في المستقبل.
بيد أنه من المقرر في الشرع والقانون انه لايجوز للشخص أو الخصم أن يتنازل عن الحق قبل وجوده، لأن التنازل عن الحق قبل وجوده تصرف يشوبه الغرر الفاحش ، فالخصم لا يعلم علماً مسبقاً بما سيكون عليه حال الحكم الذي سيصدر في المستقبل وما إذا سيكون ذلك الحكم موافقاً للشرع والقانون وإتفاق التحكيم، وعلى هذا الأساس يحق للخصم الذي قدم كفيلاً أو ضماناً لتنفيذ الحكم عند صدوره يجوز له الإدعاء ببطلانه عند صدوره إذا تحققت في الحكم إحدى حالات بطلان حكم التحكيم المقررة في المادة (53) تحكيم.
الوجه الخامس: نوع الضمان والكفالة التي يقدمها الخصم المحتكم لسير إجراءات التحكيم أو لتنفيذ حكم التحكيم
معنى ذلك أنه عند صدور حكم التحكيم وعدم الإدعاء ببطلانه أو عند رفض دعوى بطلانه يكون الضمان محلاً للتنفيذ عليه بموجب حكم التحكيم أو يتم مباشرة إجراءات تنفيذ حكم التحكيم في مواجهة الكفيل الذي قدمه الخصم.
كذلك الحال بالنسبة لإجراءات سير الخصومة التحكيمية فيجوز لهيئة التحكيم إقتضاء المصاريف والتكاليف والأتعاب من المبالغ أو الأشياء المقدمة من الخصم المحتكم ضماناً لإجراءات التحكيم، وكذا يحق لهيئة التحكيم الرجوع على الكفيل لسداد المصاريف والتكاليف التي يتم الإحتياج لها عند سير إجراءات التحكيم أو عند صدور حكم التحكيم اذا امتنع الخصم عن ذلك.
الوجه السادس: إشكالية إختصام الكفيل كي يكون حكم التحكيم حجة عليه
من المعلوم أن حجية حكم التحكيم قاصرة على الخصوم في الخصومة التحكيمية، فإذا قام الكفيل بالتوقيع على إتفاق التحكيم وقبوله بأن يكون خصماً في الخصومة التحكيمية فان ذلك يجعل حكم التحكيم حجة عليه، فيتم الرجوع والتنفيذ عليه بموجب حكم التحكيم.
علماً بأنه لا يجوز الإدخال في الخصومة التحكيمية ، لأن المحكم يستمد ولايته من إتفاق التحكيم بخلاف القاضي، وعلى هذا الأساس إذا لم يكن الكفيل طرفاً في إتفاق التحكيم ، فلا يمكن قانوناً التنفيذ على الكفيل بموجب حكم التحكيم طالما انه لم يكن طرفاً في حكم التحكيم، ولكن يتم رفع دعوى على الكفيل لمطالبته بتنفيذ الكفالة إستنادا إلى وثيقة الكفالة الصادرة من الكفيل.
الوجه السابع: إمكانية قيام المحكم بإقتضاء التكاليف والمصاريف وأتعاب التحكيم من ضمانات إجراءات التحكيم والحكم
سبق القول: أنه إذا صدر حكم التحكيم فإن الكفالة والضمانات المالية تكون محلاً للتنفيذ عليها بموجب حكم التحكيم، ولكن إجراءات تنفيذ التحكيم لا تتم من قبل المحكم وإنما من قبل محكمة الإستئناف المختصة بتنفيذ حكم التحكيم حسبما هو مقرر في قانون التحكيم.
اما بالنسبة لإقتضاء المصاريف والتكاليف اثناء اجراءات التحكيم من الأموال التي وضعها الخصوم كضمان لسير إجراءات التحكيم فإن المحكم لا يستطيع من تلقاء نفسه أن يقتضي تلك المصاريف والتكاليف من الضمانات مباشرة وإنما يقوم المحكم بالإستعانة بالمحكمة المختصة للإذن له بإقتضاء المصاريف والتكاليف منها.
الوجه الثامن: إلتزام المحكم بإعادة الأشياء والأموال التي اودعها الخصوم لديه كضمان لإجراءات التحكيم أو تنفيذ حكم التحكيم
من المعروف أن الكفالة والأشياء المودعة من قبل الخصوم عبارة عن ضمان وفاء الخصم المحتكم بمصاريف وتكاليف سير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم بعد صدوره حسبما سبق بيانه، ولذلك فأنه لا يتم اللجوء إلى إقتضاء التكاليف أو التنفيذ على الأموال المودعة إلا إذا لم يقم الخصوم بالوفاء بالتكاليف والمصاريف أو الأشياء المحكوم بها، ولذلك فأنه إذا قام الخصوم بالوفاء بالتكاليف والأشياء المحكوم بها فأنه يجب على المحكم أن يعيد الأشياء المودعة إليه كضمان إلى الخصوم.
الوجه التاسع: الأموال المنقولة المسلمة للمحكم كضمان تسري عليها أحكام الرهن الحيازي
في بعض الحالات يقدم الخصوم إلى المحكم أموال منقولة (بنادق/ خناجر يمانية (جنابي) سيارات...إلخ) يقوم الخصوم بتقديمها على أساس أنها ضمان لسير إجراءات التحكيم وتنفيذ حكم التحكيم، ووفقاً لأحكام الشرع والقانون فإن حكم هذه الأموال حكم الأموال المنقولة المرهونة رهناً حيازياً (فرهان مقبوضة)، فلايتم إعادتها الى الخصم الا إذا قام الخصم بالوفاء بما التزم به ، (التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل التحكيم الجزء الثالث، أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء 2025م، ص366) ، والله اعلم...
المراجع
عبد المؤمن شجاع الدين، التعليق على أحكام المحكمة العليا في مسائل التحكيم، الجزء الثالث، مكتبة الصادق، صنعاء، 2025، ص 361–366.