![]() |
التلفيق بين أدلة الإثبات |
من المعروف أن أدلة الإثبات تقوي بعضها ، وأنه ليس من المتصور عملياً أن يسلم دليل من أدلة الإثبات من القادح، ولذلك فإن أدلة الإثبات تقوي بعضها وتجبر نقص بعضها البعض ، وعلى هذا الأساس ظهر مبدأ تساند الأدلة في الإثبات الجنائي،
ويطلق عليه أيضا مسمى تظافر الأدلة وتضامم الادلة أو تعاضدها ، ومبدأ تساند الأدلة ليس حكراً على الإثبات الجنائي، فتضامم الأدلة له تطبيقاته في المسائل المدنية والتجارية والشخصية والإدارية.
بيد ان مبدأ تساند الادلة ترد عليه إستثناءات حتى في المسائل الجزائية ، ومن ذلك ان مبدأ تساند الأدلة لايتم العمل به في إثبات جرائم الحدود والقصاص، فالشريعة الاسلامية وقانون الجرائم والعقوبات اليمني المأخوذ منها يصرحا بان وسيلة إثبات هذه الجرائم هو الإقرار والشهادة فقط ، كذلك الحال عندما تحدد الشريعة والقانون تكميل الدليل الناقص بدليل معين ، فلامجال لتطبيق مبدا تساند الادلة.
ومع أهمية مبدأ تساند الأدلة أو تعاضدها فأنه في بعض الحالات يكون جمع أدلة الإثبات تلفيقا بينها، فالتلفيق بين الأدلة يقع حينما يحدد الشرع او القانون وسيلة معينة لإثبات فعل أو تصرف معين ، وبدلا من ذلك يتم إثباته عن طريق الجمع بين أدلة إثبات أخرى غير تلك الوسيلة المقررة في الشرع والقانون لإثباته ، فيقع التلفيق في الادلة حينما يحدد القانون طريقة او وسيلة معينة لإكمال الدليل الناقص فيتم جمع أدلة أخرى لإكمال الدليل على خلاف الطريقة المقررة في القانون لإكمال الدليل، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 6/12/2015م في الطعن رقم (56971) ، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار اليه : ( كما أن الحكم الإستئنافي في سياق مخالفاته للقانون اكتفى بشهادة الشاهد..... على صحة شراء المطعون ضده من والده لمحل النزاع مكملاً لها بالقرائن ، وذلك مخالف للفقرة الرابعة من المادة (49) من قانون الإثبات التي نصت على أنه (عند إختلاف الشاهدين في صفة المشهود به تكمل شهادة من طابقت شهادته الدعوى بشاهد آخر أو يبين المدعي)، فلا مجال في هذه الحالة للقرائن بإعتبار ذلك من قبيل التلفيق في الأدلة ، وهو غير مقبول شرعاً، الأمر الذي يتعين معه قبول الطعن موضوعاً)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: المفهوم الشرعي للتلفيق :
يمنع الفقه الإسلامي التلفيق غير المشروع بين أقوال الفقراء في المسألة الواحدة ، لانه تلفيق غير مشروع يؤدي إلى تعطيل الحكم الشرعي في المسألة الواحدة .
ويقع التلفيق غير المشروع عندما يقوم المسلم المكلف بتتبع الرخص من أقوال الفقهاء في مسألة واحدة ،فيترتب على ذلك التلفيق تعطيل الحكم الشرعي في المسألة، ويضرب علماء الأصول للتلفيق غير المشروع المثل المشهور للتلفيق غير المشروع في عقد الزواج ، الذي يتحقق عندما يقوم الملفق بالأخذ بقول الحنفية بجواز أن تزوج المرأة البالغة العاقلة نفسها ، وفي المسالة ذاتها يأخذ بقول بعض فقهاء المالكية الذين ذهبوا إلى عدم لزوم الإشهاد على عقد الزواج ، وفي المسألة ذاتها ياخذ بقول فقهاء اخرين ذهبوا إلى عدم لزوم إشهار الزواج عن طريق الوليمة وغيرها ذلك من الاقوال، فالتلفيق في هذه المسألة غير مشروع ، لأنه يعطل الحكم الشرعي، ويجعل الزواج في هذه المسألة مثل الزنا.(أصول الفقه الإسلامي في نسيجه الجديد، شيخنا المرحوم العلامة الأستاذ الدكتور مصطفى ابراهيم الزلمي، مكتبة المتنبي بغداد، طبعة 1992م بغداد،٣/١٥٦).
ومن خلال ما تقدم يظهر أن المقصود بالتلفيق غير المشروع في المصطلح الشرعي هو تتبع الرخص من أقوال الفقهاء في المسألة الواحدة مما يؤدي إلى تعطيل الحكم الشرعي في المسألة، ولذلك فقد عبر الحكم محل تعليقنا عن ذلك بقوله: والتلفيق غير مقبول شرعاً.
الوجه الثاني: تساند الأدلة أو تعاضد الأدلة:
القران الكريم هو الدليل الوحيد هو الذي لا يعتريه النقص أو الخطأ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،فهو حجة علينا وعلى المتقدمين والمعاصرين والمتأخرين والملائكة والانس والجن اجمعين، أما الأدلة التي من صنع البشر فهي عرضة للخطأ والنقص والإختلال بما في أدلة الإثبات كالشهادة والإقرار والمحررات والمعاينة والقرائن واعمال الخبرة، فالضعف والوهن يعتري أدلة الإثبات بنسب متفاوتة، وبما أن الضعف والنقص يعتري أدلة الإثبات لذلك فإنه في الإمكان تقويتها عن طريق الجمع بينها لتقوية ضعفها وفقاً لمبدأ الإثبات الذي اطلق عليه شراح القانون مسميات عدة منها : / مبدأ تساند الأدلة/ مبدأ تضامم الأدلة/ مبدأ تعاضد الأدلة/ مبدأ تظافر الأدلة، وقد نصت على هذا المبدأ قوانين الإجراءات الجزائية في دول العالم المختلفة بما في ذلك قانون الإجراءات الجزائية اليمني ، كما أهتم به فقهاء وشراح القانون الجنائي اكثر من غيرهم فصنفوا فيه الرسائل العلمية والمصنفات المختلفة، ولكن ذلك لا يعني أن مبدا تساند الادلة حكراً على القانون الجنائي، فالمحامي يحشد ويجمع كل أدلة الإثبات لإقناع القاضي بوجهة نظره في كل مرافعاته المدنية والتجارية والشخصية والإدارية، كما أن القاضي في تسبيبه للاحكام المختلفة يجمع وينظم أدلة الإثبات في المسألة الواحدة او الواقعة الواحدة مدلالاً على صواب حكمه وسلامة فهمه، ففي كل هذه الأحوال لايكون الجمع بين أدلة الإثبات من قبيل التلفيق الذي اشار إليه الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثالث: المفهوم القانوني للتلفيق بين أدلة الإثبات:
اشار الحكم محل تعليقنا الى انه لا يجوز التلفيق بين أدلة الإثبات، وذلك بمناسبة قضاء الحكم الاستئنافي المطعون فيه بتكميل شهادة الشاهد الواحد الذي طابقت شهادته دعوى المدعي تكميلها بالقرائن بدلاً من تكميلها بشاهد آخر او تكليف المدعي بإثبات دعواه باي دليل من ادلة الإثبات عملاً بالفقرة (٤) من المادة (49 ) من قانون الإثبات اليمني التي نصت على أنه لاتبطل الشهادة عند : (-٤- إختلاف الشاهدين في صفة المشهود به وتكمل شهادة من طابقت شهادته للدعوى بشاهد آخر أو يبين المدعي).
فقد حدد النص السابق كيفية تكملة شهادة الشاهد الواحد الذي طابقت شهادته دعوى المدعي عند إختلاف الشاهدين وهي تكملة شهادة الشاهد الواحد بشهادة شاهد آخر او تكليف المدعي بإثبات دعواه باية وسيلة من وسائل الإثبات ، فحينما ينص القانون على طريقة إثبات معينة تكمل طريقة الإثبات الناقصة فمخالفتها والإثبات بأدلة إثبات غير تلك المحددة في القانون يكون من قبيل تلفيق الأدلة المشار إليه في الحكم محل تعليقنا.
ومقتضى نص الفقرة (٤) من المادة (٤٩) إثبات السابق ذكرها أنه اذا اختلف الشاهدان في صفة المشهود به مثل الإختلاف في وصف التصرف الصادر من المورث من حيث نوعه وتاريخ وقوعه ومكان وقوعه ومقدار العوض ومضمون صيغة الإيجاب والقبول.
مثلما وقع في القضية التي تناولها الحكم ، فقد كان وصف احد الشاهدين للتصرف بانه بيع وهذا الوصف مطابق لدعوى المدعي في حين كان وصف الشاهد الاخر بأن البيع كان صوريا فقد كان يخفي هبة.
ففي هذه الحالة كان ينبغي على المدعي أن يحضر شاهدا اخرا ليكمل شهادة الشاهد الواحد، لان شهادة الواحد لا تكون مقبولة إلا إذا في الأموال والحقوق شريطة أن يكملها المدعي بشهادة شاهد آخر حتى يكتمل نصاب الشهادة في الأموال وهو شاهدان عدلان أو رجل وامرأتان، فأن عجز المدعي عن إكمال شهادة الواحد بشاهد آخر فعليه عندئذ أن يبين دعواه بأية طريقة من طرق الإثبات المقررة في قانون الإثبات ، وهذا الأمر مفهوم من جملة (او يبين المدعي) ، فقد وردت هذه الجملة بعد النص على تكميل شهادة الواحد بشاهد آخر.
وعلى هذا الاساس فقد قضى الحكم محل تعليقنا بأن الحكم الإستئنافي المطعون فيه قد قام على التلفيق بين الأدلة حينما قضى بتكميل الشهادة بالقرائن بدلاً من إلزام المدعي بتقديم شاهد آخر لإكمال نصاب الشهادة او الزام المدعي بإثبات دعواه بأية طريقة من طرق الإثبات المقررة في القانون.
علماً بأن إختلاف الشاهدين في صفة المشهود به ليس من قبيل تناقض الشهادة الذي يبطل الشهادة أو يسقطها ، لأن التناقض يسقط الشهادة، في حين ان إختلاف الشاهدين في صفة المشهود به ليس تناقضا، فلايسقط الشهادتين المختلفتين ، فالإختلاف في صفة المشهود به مفاده أن الشاهدين قد اتفقا بشأن حصول الواقعة أو التصرف ، فالواقعة أو التصرف ثابت بشهادة الشاهدين غير انهما اختلفا في صفة المشهود به مثل شهادة احد الشاهدين بأن التصرف كان بيعا في حين يشهد الشاهد الاخر بانه كان هبة ، ولذلك فالإختلاف في صفة المشهود به لا يبطل الشهادة ، ولذلك يجوز للمدعي أن يكمل شهادة الشاهد الذي طابقت شهادته دعواه من حيث صفة المشهود به، والله اعلم.