حُسن النية في التقاضي

حُسن النية في التقاضي
حُسن النية في التقاضي

نصت المادة (18) من قانون المرافعات اليمني على أن (ممارسة حق التقاضي تقوم على حسن النية)، وقد ورد هذا النص ضمن الفصل الرابع الذي تضمن (المبادئ الحاكمة في القضاء والتقاضي)، وفي ذلك دلالة بالغة على أن حق الخصوم في التقاضي ليس طليقاً وأنما يحكمه هذا المبدأ العظيم وتحكمه أيضا المبادئ الأخرى، كما أن النص السابق يصرح بأن حق التقاضي يقوم على أساس حسن النية، ولذلك فأن من واجب القاضي مراقبة إلتزام الخصوم وإحترامهم اثناء التقاضي لمبدأ حسن النية، لأن القاضي لا يستطيع أن يتثبت من الحق إذا لم يلتزم الخصوم بحسن النية، وعدم إلتزام الخصوم وعدم إحترامهم لمبدأ حسن النية في التقاضي من أهم أسباب إطالة إجراءات التقاضي وتعطيل تنفيذ الأحكام القضائية الباتة ، حسبما صرح الحكم الصادر من الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/3/2010م في الطعن رقم (٣٩٢٥٩) الذي ورد ضمن أسبابه (وتشير الدائرة إلى أن مبدأ حسن النية كمبدأ أساسي في تسيير الخصومات قد تم تجاهله من قبل طرفي الخصومة، بدليل أن التنفيذ بدأ عام ١٤١٣ه ومازال طرفا الخصومة في نزاع أمام القضاء دون موجب بل على سبيل اللدد والكيد والعنت لبعضهم، وعليه: تقرر الدائرة رفض الطعن المقدم من الطاعنين)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:

الوجه الأول: معنى حُسن النية في التقاضي

حسن النية في التقاضي مبدا عام وحاكم للقاضي والخصوم معا ، ومعناه بالنسبة للخصوم: ان يلتزم الخصوم الصدق والامانة عند تقديم مذكراتهم وادلتهم وطلباتهم والادلاء بأقوالهم ، وان يلتزم الخصوم في ذلك بنصوص القوانين التي تنظم إجراءات التقاضي، وعدم التحايل أو التلاعب أو الإضرار بالخصم الآخر.

ومعنى حسن النية في التقاضي بالنسبة للقاضي ان يلتزم القاضي التزاما صارما بالنصوص القانونية المنظمة لإجراءات التقاضي والمواعيد الإجرائية والمبادئ الأخرى الحاكمة للقضاء والتقاضي كالمساواة بين الخصوم ومبدأ المواجهة ومراقبة سلوك الخصوم ، فالقاضي هو الحارس الأمين لمبادئ القضاء والتقاضي وهو الضامن لتطبيق المبادئ الحاكمة للقضاء والتقاضي.

وإلتزام القاضي والخصوم بمبدأ حُسن النية في الإجراءات القضائية يكفل سير إجراءات نظر القضايا للمنازعات بشكل عادل ونزيه وسريع.

ويتطلب مبدأ حُسن النية من الخصوم أثناء ممارستهم لإجراءات التقاضي تقديم معلومات دقيقة وصادقة للقاضي، وتجنب أية محاولات للتحايل أو التلاعب أو الكيد أو قلب الحقائق، وكذا عدم إستغلال الخصوم للوسائل القانونية لتحقيق مكاسب تافهة أو للإضرار بالخصم الآخر.

الوجه الثاني: سوء نية الخصوم في التقاضي

سبق القول أن مبدا حُسن النية من أهم المبادئ الحاكمة للقضاء والتقاضي، فإذا لم يلتزم الخصم بهذا المبدأ فانه يكون قد أساء استعمال حقه في التقاضي، ولذلك فإن عدم إحترام الخصم لمبدأ حُسن التقاضي يعني أن الخصم قد أساء إستعمال حقه في التقاضي، وبناءً على ذلك فإن هناك مسميات عدة لعدم إلتزام الخصم بمبدأ حُسن النية في التقاضي ، فيطلق عليه بعض شراح قانون المرافعات اسم التقاضي الكيدي وبعضهم يسميه سوء إستعمال الحق في التقاضي وسوء النية في التقاضي، وهذه المسميات المتعددة مدلولها واحد.

الوجه الثالث: مظاهر سوء نية الخصم في التقاضي

لسوء النية في إجراءات التقاضي مظاهر عدة ، ولكن المظهر العام لسوء النية أو سوء إستعمال الحق في التقاضي يظهر عندما يكون هدف الخصم من مباشرة إجراءات التقاضي الإضرار بخصمه، فالخصم في هذه الحالة لا يستهدف الوصول إلى حقه الذي يطلبه ولا إثبات عدم صحة المطالبة له وأنما يستهدف من التقاضي الإضرار بخصمه.

كذلك يكون الخصم متعسفاً في إستعمال حقه في التقاضي إذا كان الحق الذي يطالب به تافهاً قياساً بالمصاريف القضائية التي يتكبدها أو يكبدها خصمه.

ومن مظاهر التعسف في إستعمال الحق في التقاضي الدفوع الكيدية والإستشكالات أو منازعات التنفيذية الكيدية والدعاوى الكيدية.

الوجه الرابع: معالجة قانون المرافعات اليمني للتقاضي الكيدي او سوء النية في التقاضي

نصت المادة (١٧٠) من قانون المرافعات على أنه (يجوز للمحكمة أن تحكم للخصم بناءً على طلبه بغرامة على خصمه عن كل دعوى أو دفاع يقصد به الكيد، كما يجوز لها دون طلب أن تحكم على ذات الخصم لذات الأسباب بغرامة مناسبة للخزانة العامة وأن تبين أسباب ذلك في حكمها)، وقد سبق التعليق على هذا النص بالقول أن النص قد اطلق على التعويض الذي يطلبه الخصم المضرور من التقاضي الكيدي (غرامة)، وهذا خطأ قانوني فادح ،فهناك فرق بين الغرامة والتعويض، فالغرامة عقوبة تكون مبلغا معينا يتم توريده إلى الخزينة العامة ، في حين ان التعويض في القانون يكون بقدر الضرر الذي لحق بالمضرور ويتم تسليم مبلغ الى المضرور وليس الى الخزينة العامة.

 والخلط بين الغرامة والتعويض في النص القانوني السابق يجعل بعض القضاة يتساهل في تقدير التعويض المستحق للخصم المضرور من التقاضي الكيدي ، مع أنه من الواجب أن يكون التعويض متناسباً مع الضرر الفعلي الذي لحق بالخصم بسبب التقاضي الكيدي. (التعليق على احكام المحكمة العليا في المسائل التجارية الجزء الثاني، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين ، جولة الجامعة الجديدة صنعاء ، طبعة ٢٠٢٣م صنعاء ، ص١٥٨).

الوجه الخامس: مراقبة القاضي لمدى إلتزام الخصوم بمبدأ حُسن النية في إجراءات التقاضي

نظراً لأهمية مبدأ حُسن النية في إجراءات التقاضي وعدم إساءة الخصوم لحقهم في التقاضي فقد أوجب قانون المرافعات وضمن المبادئ الحاكمة للتقاضي أوجب القانون على القاضي أن يراقب مدى إلتزام الخصوم بمبدأ حُسن النية في مرافعاتهم الكتابية و الشفهية وطلباتهم ومدى إلتزامهم بالمواعيد المقررة في القانون للقيام بالإجراءات ومدى إلتزامهم بالنصوص القانونية في مباشرتهم لإجراءات التقاضي.

والمراقبة تفترض أن يقوم القاضي بتنبيه الخصوم عند إساءتهم في اجراءات التقاضي وكذا فرض الجزاءات المناسبة لردع الخصوم لضمان حُسن سير إجراءات المحاكمة لتحقيق العدالة.

وتهدف مراقبة القاضي الى تقويم إجراءات التقاضي وترشيدها حتى تسير وفقاً لأحكام القانون وعدم الإنتظار إلى وقت النطق بالحكم للحكم على الاجراءات التي لم يلتزم بها الخصوم في وقت وقوع هذه الإجراءات ،لأنه يتعذر على القاضي الإحاطة بالقضية ومعرفة الحقيقة إذا مارس الخصوم التقاضي الكيدي أو تعسفوا في إجراءات التقاضي ووقف القاضي متفرجا ومنتظرا للحكم في هذه الإجراءات عند النطق بالحكم.

ومراقبة القاضي للخصوم أثناء مباشرتهم لإجراءات التقاضي تظهر الدور الإيجابي للقاضي في الإدارة الرشيدة للدعوى وضمان عدم إنحراف إجراءات التقاضي، وتكاد مراقبة الخصوم أن تكون إستثناء من الدور السلبي المفترض للقاضي الجيد الذي يقف اثناء اجراءات التقاضي موقفا سلبيا ،لا يتدخل في إجراءات التقاضي لصالح خصم من الخصوم، بيد أن مراقبة القاضي ليست تدخلاً من القاضي لمصلحة خصم لأنها تهدف إلى حُسن سير إجراءات التقاضي لتحقيق الحق والعدل بصرف النظر عن الخصم المستفيد من تدخل القاضي بمناسبة مراقبته للخصوم اثناء مباشرتهم لإجراءات التقاضي.

ويقوم القاضي بمراقبة الخصوم اثناء التقاضي من خلال مجموعة من الإجراءات والأساليب والادوات، ومن ذلك أن يتأكد القاضي أن الخصوم يتبعون الإجراءات القانونية المقررة مثل تقديم الأدلة والقيام بالإجراءات في الوقت المحدد وحضور جلسات المحاكمة في الوقت المحدد، وكذلك مراقبة سلوك الخصوم والتأكد من أنهم يتصرفون بحُسن نية وبطريقة تسهم في تحقيق العدالة، ويجب على القاضي مراقبة الإجراءات الإدارية مثل سلامة تنفيذ الإعلانات وفقا للطرق القانونية. (منهجية العمل القضائي، د. حسن السيد، عالم الكتب القاهرة ٢٠٠٥م، ص١٥٥)، والله اعلم.