إثبات التعاقد بالوسائل الحديثة

إثبات التعاقد بالوسائل الحديثة

إثبات التعاقد بالوسائل الحديثة

في الوقت الحاضر تطورت وسائل الاتصال والتواصل تطورا متسارعا مذهلا ، وقد استفادت المعاملات التجارية وغيرها من هذه الوسائل سيما في إبرام العقود والتصرفات بين الشركات والموسسات والاشخاص الموجودين في اماكن متباعدة (التعاقد من بعد) دون ان يجمع البائع والمشتري مجلس عقد حقيقي يجتمع فيه البائع والمشتري حقيقة ، فمثلا يكون البائع في الصين والمشتري في صنعاء وقت إبرام العقد ، فيكون مجلس العقد في هذه الحالة مجلسا حكميا وليس حقيقيا.

فمقتضيات التجارة بين الشركات والاشخاص في الدول المختلفة تستدعي إستعمال وسائل ألإتصال والتواصل الحديثة عند إبرام الصفقات التجارية، مثل التعاقد عن طريق الإيميل أو البريد الإلكتروني وتطبيقات الهاتف الجوال كالواتس والتليجرام...الخ ، فيكون البائع في دولة والمشتري في دولة ، ويكون مجلس العقد بينهما مجلساً حكمياً، فينعقد عقد البيع عند وصول علم القبول إلى البائع، وقد يتم إبرام عقد البيع في وثيقة واحدة يقوم البائع بالتوقيع عليها أولاً ثم يقوم بإرسالها إلى المشتري عن طريق الوسائل الحديثة، فيقوم المشتري بالتوقيع عليها وإعادة إرسالها الى البائع ، كما قد يتم تحرير الإيجاب في رسالة مستقلة يقوم البائع بإرسالها إلى المشتري بإحدى الوسائل الحديثة فيقوم المشتري بتحرير رسالة القبول موجهة إلى البائع تتضمن قبول المشتري فينعقد البيع، (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة ، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين ، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة صنعاء ، طبعة ٢٠٢٢م ، ص٨٧).

ولضرورة أعمال التجارة الدولية الحديثة فإن الوثائق المستخرجة من وسائل الإتصال والتواصل الحديثة كالإيميل والواتساب والتليجرام والفاكس ...الخ تكون لها حجيتها ، ولا يتم التعامل معها أو النظر إليها على أنها مجرد صور مستندات طالما أنه قد ثبت للمحكمة أنه قد تم إستخراجها من اجهزة الإتصال والتواصل الحديثة كالإيميل والواتس والتليجرام...الخ ،ولم يتم التلاعب أو العبث بها.

 اما إذا كانت الرسائل المستدل بها عبارة عن صور من مستخرجات الوسائل الحديثة، فهي مجرد صور يتم الإستئناس بها ولا تكفي وحدها للاستدلال بها ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/1/2010م في الطعن رقم (36499)، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه (وبإطلاع الدائرة على نعي الطاعن فأنها قد وجدت أن حكم محكمة أول درجة قد انتهى الى رفض الدعوى لعدم ثبوتها ، فقطب الرحى الذي استند إليه حكم الشعبة تمثل في عدم ثبوت الدعوى – وعبء الإثبات كما هو معروف يقع على المدعية - وهي لم تفعل بحسب منطق الحكم الإستئنافي، وحدد حكم الإستئناف المستند الرئيسي في الدعوى وهو عقد البيع المؤرخ بتاريخ... ،وعاب ذلك الحكم على الشركة المدعية انها لم تقدم أصل ذلك المستند سيما أن الدعوى ترتبط بذلك المستند، فدعوى التعويض تستند إلى ذلك المستند الذي لم يتم تقديم أصله ، والمقصود بالأصل المعتمد في حيثيات حكم محكمة أول درجة هو مخرجات وسائل الإتصال الحديثة كالفاكس من المحررات التي تعتبر منتجة في الإثبات لا مجرد صور تلك المحررات....الخ)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:

الوجه الأول: المقصود بالوسائل الحديثة في التعاقد وكيفية التعاقد بواسطتها

 الوسائل الحديثة هي: وسائل الإتصال والتواصل بين المتعاقدين الذين لا يكونوا في مجلس عقد واحد أي في مكان واحد، وانما في مكانين متباعدين ، كأن يكون المشتري في اليمن ويكون البائع في الصين، أو يكون البائع في صنعاء والمشتري في عدن، والإختراعات في مجال وسائل الإتصال والتواصل تتوالى ، إذ تظهر بين الوقت والاخر وسائل وتطبيقات جديدة للإتصال والتواصل بين الاشخاص ، ولذلك لا يسعنا المجال لحصرها في هذا التعليق الموجز، ولذلك فسوف تقتصر على ذكر وسائل الإتصال المشهورة والشائعة التداول بين الاشخاص في اليمن، والتي يتم إستعمالها في التعاقد والتصرف في الوقت الحاضر وهي: الإيميل والواتس والتليجرام.

 إذ يتم البيع عن طريق الإيميل وتطبيقات الهاتف الجوال عن طريق قيام المشتري بتحرير رسالة إلى البائع عن طريق الإيميل أو تطبيقات الهاتف الجوال يطلب فيها شراء سلعة معينة يحدد أوصافها بدقة وكمياتها وطريقة شحنها وتاريخ وصولها إلى المشتري وسعرها... الخ، ويقوم المشتري بإرسال هذه الرسالة إلى البائع الذي يقوم بدراستها وتعديل بعض بيانات السلعة المطلوب شرائها ثم يقوم بإرسال رسالة تتضمن في الغالب التعديلات في بعض بيانات طلب المشتري إلى المشتري الذي قد يقبل بما ورد في رسالة عندئذ ينعقد العقد، وأن لم يقبل فإن المراسلات عن طريق الوسائل الحديثة تستمر بين البائع والمشتري حتى يتفق الطرفان على شروط عقد البيع ،وتتم كل هذه المراسلات والمعاملات بواسطة الوسائط الإلكترونية ،

وبناءً على ذلك فإن الإيجاب والقبول لا يتحدد إلا بعد مفاوضات بين البائع والمشتري عن طريق المراسلات الإلكترونية بينهما، وقد تسفر هذه المفاوضات والمراسلات الى إبرام عقد البيع بين الطرفين، وقد يتم تحرير العقد بوثيقة واحدة يتم التوقيع عليها من طريق المراسلة الإلكترونية، وقد تسفر المراسلات عن التعاقد بين الطرفين من غير ان يتم تحرير عقد البيع في وثيقة واحدة وأنما إذا قبل البائع بالرسالة الموجهة إليه من المشتري من غير تعديل للشروط الواردة فيها انعقد العقد، أما إذا قام البائع بتعديل الشروط المذكورة في رسالة المشتري وقام بإرسال رسالة بالتعديلات فقبل المشتري تعديلات البائع انعقد العقد وفقاً للشروط المذكورة في رسالة المشتري والشروط الواردة في رسالة البائع إلى المشتري .(فقه المعاملات المالية و تطبيقاتها المعاصرة، أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين، مكتبة الصادق جولة الجامعة الجديدة، 2022م صنعاء، ص 83).

الوجه الثاني: موقف القانون اليمني من التعاقد بواسطة الوسائط الحديثة

نصت المادة (154) من القانون المدني اليمني على ان (يتم التعاقد بواسطة وسائل الإتصالات السلكية واللاسلكية طالما توفرت فيها الصفة الوثائقية المقبولة)، فهذا النص صريح في جواز التعاقد عن طريق وسائل الإتصال والتواصل الحديثة بما فيها الإيميل وتطبيقات الهاتف الجوال، لأن هذه الوسائل من (وسائل الإتصالات اللاسلكية)، وقد اشترط النص القانوني السابق أن تتمتع مخرجات او مستخرجات الوسائل الحديثة بالصفة الوثائقية المقبولة، ومعنى ذلك أن يكون المتعاقد بهذه الوسائل قادراً على إثبات نسبة الرسالة أو الإيجاب أو القبول الصادر بواسطة هذه الوسائل إلى المتعاقد الذي ارسلها عن طريق رقم الهاتف الجوال للمرسل لها او عن طريق نسبة الرسالة أو الإيجاب أو القبول إلى عنوان البريد الإلكتروني للمتعاقد.

وهذا الأمر يستدعي أن تتولى المحكمة التي تنظر النزاع التثبت من صحة نسبة الرسالة إلى الشخص أو الجهة التي ارسلتها، ومؤدى ذلك أن إستخراج الرسالة من الهاتف أو الإيميل ينبغي أن يكون بنظر المحكمة او الخبير الذي تندبه المحكمة عند إختلاف الخصوم، وإذا قام المتعاقد بإستخراج الرسالة من الإيميل أو الهاتف وحدث الخلاف بشان حجية الرسالة التي استخرجها الخصم بنفسه فإنه يجب على المحكمة التي تنظر النزاع أن تتحقق من صحة نسبة الرسالة إلى إيميل الشخص الذي أرسلها أو رقم هاتفه، وفي هذا المعنى فقد ورد في أسباب الحكم الإستئنافي الذي اقره حكم المحكمة العليا محل تعليقنا (والمحكمة في هذا السياق توافق المدعية فيما ذهبت إليه من حجية المراسلات التي تتم بواسطة وسائل الإتصالات الحديثة إذا صح ثبوت صدورها من مرسلها ، ذلك ان تقرير الأحكام منوط بمصالح الناس، ومصلحة المتعاملين تقتضي إعتماد مخرجات وسائل الإتصالات الحديثة وإعتبارها منتجة ، وقد جارى المشرع اليمني ذلك في المادة (١١١) إثبات وفي المادة (١٥٤) مدني التي نصت على أن يتم العقد بواسطة كل وسائل الإتصالات السلكية واللاسلكية طالما توفرت فيها صفة الوثائقية المقبولة قانوناً، ولا شك أن قيد الصفة الوثائقية في التعاقد عن طريق وسائل الإتصالات الحديثة انما هو بخصوص إثبات العقد، أما لو كان مراد المادة المشار إليها تمام العقد أي من حيث وقوعه وحدوثه فعلاً، فلا معنى للقيد الوارد في المادة، إذ أن القواعد القانونية الشرعية تقضي بإنعقاد العقد باللفظ والإشارة المفهمة، فما ذكرناه ينصرف إلى عين المستندات التي تخرجها وسائل الإتصالات الحديثة لا إلى الصور المنسوخة منها، فإذا كان القانون قد أسبغ حجيته على مخرجات وسائل الإتصالات الحديثة فإن الحجية قاصرة على تلك المخرجات لا صورها).

الوجه الثالث: إثبات التعاقد بالوسائل الحديثة في القانون التجاري اليمني

نصت المادة (٦) من القانون التجاري في نهايتها على أنه (بالنسبة إلى وسائل الإثبات تطبق القواعد المتعارف عليها في المعاملات التجارية).

وقد وردت إشارة إلى هذا النص في أسباب الحكم الإستئنافي، ومعنى ذلك أن المعاملات التجارية في اليمن قد صارت تتم بواسطة وسائل الإتصال الحديثة، فطالما أن الأعمال والانشطة التجارية تتم بواسطة وسائل الإتصالات الحديثة بحسب ماجرى عليه العرف التجاري ، لذلك فإن المستندات المستخرجة من الوسائل الحديثة تكون لها الحجية القانونية في الإثبات التجاري.

الوجه الرابع: إثبات التعاقد عن طريق الوسائط الحديثة في قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني

 صدر القانون رقم (٤٠) لسنة ٢٠٠٦م بشأن أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية، ووافقا للمادة (٤) من هذا القانون فإنه يسري على سائر العمليات المالية والمصرفية ، كما أنه يسري على المعاملات التي يتفق اطرافها صراحة أو ضمنا على تنفيذها بوسائل الكترونية.

 ومن المعلوم أن التجار والأعراف التجارية قد استقرت في اليمن على إستعمال الوسائل الإلكترونية في المعاملات التجارية ، ومنها عقود البيع والشراء ، حسبما سبق بيانه في الوجه السابق.

 كما أنه من الشائع إتفاق التجار في اليمن صراحة أو ضمناً على التعاقد عن طريق الوسائل الإلكترونية، وعلى هذا الاساس فإن ما ورد في المادة (١٠) من قانون أنظمة الدفع الإلكترونية يسري على المعاملات التجارية الإلكترونية ومن ضمنها التعاقد عن طريق الوسائل الإلكترونية ، وفي هذا الشأن نصت المادة (١٠) من القانون المشار إليه على أنه (يكون للسجل الإلكتروني والعقد الالكتروني ورسالة البيانات والمعلومات الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني الآثار القانونية نفسها المترتبة على الوثائق والمستندات والتوقيعات الخطية من حيث إلزامها لأطرافها أو حجيتها في الإثبات).

الوجه الخامس: إثبات التعاقد عن طريق الوسائل الحديثة في قانون الإثبات اليمني

أشار الحكم محل تعلقينا إلى المادة (١١١) من قانون الإثبات التي نصت على أن (تكون للرسائل الموقع عليها قيمة المحرر العرفي من حيث الإثبات، وتكون للبرقيات هذه القيمة أيضاً إذا كان أصلها المودع في مكتب التصدير موقعاً عليه من مرسلها ، وتعتبر البرقية مطابقة لأصلها حتى يقوم الدليل على عكس ذلك، وإذا أنعدم أصل البرقية فلا يعتد بها إلا لمجرد الإستئناس).

فقد وردت في هذا النص ( البرقية )، ويلحق بذلك التعاقد بالوسائل الحديثة الأخرى، إذا استطاع المتمسك بالمستخرج من الوسائط الحديثة إثبات نسبة البرقية أو الإيميل أو العقد أو الإيجاب أو القبول المرسل عن طريق الهاتف الجوال أو الايميل.

الوجه السادس: حجية المستندات المستخرجة من الوسائط الإلكترونية

من خلال مطالعة ما ورد في الأوجه السابقة يظهر أن التعاقد عن طريق الوسائط الإلكترونية كالايميل وتطبيقات الهاتف الجوال يتم ذلك عن طريق وثيقة عقد واحدة يتم التوقيع عليها وتبادلها ضمن الوسائط الالكترونية أو يتم إرسال الإيجاب برسالة من الموجب إلى القابل ثم إرسال القبول برسالة من القابل الى الموجب عن طريق الوسائل الحديثة الإلكترونية، فعند وصول الرسالة المتضمنة القبول إلى الموجب ينعقد العقد.

 وعلى هذا الأساس فإن أصل العقد المرسل عن طريق الوسائط الإلكترونية أو أصول الرسائل المتضمنة الإيجاب والقبول تكون لدى الطرف الذي ارسلها ، وقد كان الحكم محل تعليقنا قد ناقش هذه المسألة بإستفاضة حيث كلفت محكمة الموضوع الشركة المدعية أن تقدم أصل الفاكس الذي ارسلته إلى الشركة المدعى عليها ،لأن أصل الرسالة المتضمنة الإيجاب تكون لدى الموجب واصل الرسالة المتضمنة القبول تكون لدى القابل،ط.

 أما إذا كان العقد أو رسائل الإيجاب والقبول مطبوعة داخل الجهاز الذي تم إرسال العقد أو الرسالة بواسطته فإن النسخة الأصلية المستند تكون داخل الجهاز أي الجهاز الذي تم إرسال العقد او الرسالة بواسطته وكذا في الجهاز الذي استقبلهط ذلك ، ولا شك أنه عند إنكار صورة المستند فان الأمر يقتضي إستخراح أصل المستند من الجهاز.

ووفقاً لنصوص القانون اليمني السابق ذكرها في الأوجه السابقة فحجية المستندات المستخرجة من الوسائط الإلكترونية تتوقف على مجموعة من الشروط القانونية من أهمها وجود رابطة بين المحرر والشخص المنسوب له المحرر عن طريق التحقق بما لا يدع مجالاً للشك أن الإيميل الصادر منه المحرر منسوب للشخص مع وجود رابط بين المستند الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني (مدى حجية المحررات الإلكترونية في الإثبات، اياد محمد عارف ، جامعة النجاح فلسطين 2017م، ص٧٥)، والله اعلم.