![]() |
مدى وجود المحكم المفوض في القانون اليمني |
من المعلوم أن المحكم المفوض في الفقه القانوني هو الذي يفوضه الخصوم المحتكمون بان يفصل في خلافهم بموجب مبادئ العدل والانصاف غير متقيد بالقواعد القانونية.
ولكن في اليمن يظن كثير من الناس بأن قيام الخصوم بتفويض المحكم تفويضا مطلقا للفصل في النزاع لايقتصر على إطلاق يد المحكم في الحكم غير متقيدا بالقواعد القانونية بل يعني التفويض المطلق للمحكم أنه لايجوز للخصوم الإدعاء ببطلان حكم التحكيم الذي يصدره المحكم المفوض لاحقا.
بيد أنه لم يرد في قانون التحكيم اليمني مسمى المحكم المفوض الذي لا يحق الادعاء ببطلان حكمه، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 16/1/2010م في الطعن رقم (35642) ، فقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (وحيث أن نعي الطاعن غير سديد، إذ لا يوجد في القانون ما يدعيه الطاعن بأنه: لا يجوز الطعن في حكم التحكيم إذا كان المحكم مفوضاً)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الاتية:
الوجه الأول: أنواع التحكيم في قانون التحكيم اليمني النافذ
ضمن تعاريف المصطلحات القانونية الواردة في قانون التحكيم حددت المادة (2) من قانون التحكيم اليمني أنواع التحكيم الواردة في قانون التحكيم اليمني ،وهي ثلاثة أنواع : النوع الأول: التحكيم التجاري، والنوع الثاني: التحكيم الوطني، والنوع الثالث: التحكيم الدولي، وبناءً على ذلك فلا وجود في القانون المشار اليه لما يسمى (التحكيم المفوض أو المحكم المفوض) ، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثاني: فكرة المحكم المفوض في تصور بعض الناس في اليمن
المحكم المفوض في الفقه القانوني هو الذي يفوضه الخصوم المحتكمون بان يفصل في خلافهم بموجب مبادئ العدل والانصاف فلايتقيد بالقواعد القانونية، إلا أنه من الشائع في اليمن عند تحرير إتفاق التحكيم قيام بعض الأشخاص بتضمين إتفاق التحكيم عبارة (والمحكم بموجب هذه الوثيقة مفوض تفويضاً مطلقاً في الفصل في النزاع ، وأنه لا مطعن ولا منهى في حكم المحكم) وما شابه هذه العبارة، إذ يتصور البعض أن وجود هذه العبارة يمنع الخصوم المحتكمين من تقديم دعوى بطلان حكم التحكيم بعد صدوره، في حين أن قانون التحكيم اليمني لم يتضمن ما يسمى ( المحكم المفوض) حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، فضلا عن ان مفهوم المحكم المفوض في الفقه القانوني هو الذي يفوضه الخصوم المحتكمون بان يفصل في خلافهم بموجب مبادئ العدل والإنصاف ولايتقيد بالقواعد القانونية ، ويسميه بعض الشراح التحكيم بالصلح .(الإطار القانوني لسلطة المحكم بالصلح، د. عبد الله رسول السعدي ،مجلة المحقق الحلي للعلوم القانونية والسياسية،العدد الأول السنة الثانية عشرة ٢٠٢٠م بغداد، ص٨٥).
الوجه الثالث: هل يجوز للخصوم المحتكمين الإتفاق المسبق على التنازل عن حقهم في الإدعاء ببطلان حكم التحكيم:
من المقرر في فقه الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز للشخص التنازل عن الحق قبل وجوده، ومن تطبيقات ذلك أنه لا يجوز للشخص التنازل عن حقه في الميراث قبل وفاة مورثه، وكذلك الحال بالنسبة للخصوم المحتكمين فانه لا يجوز لهم الإتفاق المسبق على تنازلهم عن حقهم في الإدعاء ببطلان حكم التحكيم بعد صدوره من المحكم في المستقبل.
صحيح أن الإدعاء ببطلان حكم التحكيم حق وليس واجباً، وتبعاً لذلك يجوز للخصم أن يستعمل هذا الحق أو لا يستعمله، بيد أنه لا يجوز للخصم أن يتنازل عن هذا الحق قبل وجوده ، ومن المعروف أن حق الإدعاء ببطلان حكم التحكيم لا يوجد إلا بعد أن يصدر المحكم حكمه.
وعلى هذا الأساس فلا وجود للمحكم المفوض في قانون التحكيم اليمني ، إضافة إلى انه لا يجوز للمحتكم ان يتنازل مسبقا عن حقه في الإدعاء ببطلان حكم التحكيم وذلك قبل صدور الحكم أما بعد صدور الحكم فيجوز ذلك.
وبحسب هذا المفهوم فانه لايجوز للخصوم المحتكمين ان ينصوا في إتفاق التحكيم أو غيره انهم : (مشرفون مسبقا لحكم التحكيم عند صدوره)، ومعنى التشريف للحكم بلهجة اليمن القبول بالحكم أي التنازل عن الطعن بالحكم أو الإدعاء ببطلانه.
الوجه الرابع: فكرة النظام العام في قانون التحكيم تحول دون الإتفاق المسبق على عدم الإدعاء ببطلان حكم التحكيم عند صدوره
التحكيم عماده التراضي بين الخصوم المحتكمين الذين يعينوا المحكم في إتفاق التحكيم ويمنحوه ولايته في الفصل في الخصومة التحكيمية ، ويمكن للمحتكمين أن يحددوا للمحكم الإجراءات التي ينبغي عليه إتباعها عند نظره الخصومة التحكيمية والفصل فيها.
ومع ان التحكيم يقوم على الإتفاق والتراضي بين الخصوم إلا أن فكرة النظام العام له لها وجود في قانون التحكيم وكذا في قانون المرافعات، وفي هذا المعنى نصت المادة (39) من قانون التحكيم على أنه يجب على المحكم ( مراعاه احكام هذا القانون وعدم الإخلال بأحكام قانون المرافعات التي تعتبر من النظام العام ) ، وفي هذا السياق نصت أيضا المادة (5) تحكيم على أنه: ( لا يجوز التحكيم فيما يأتي: -هـ- كل ما يتعلق بالنظام العام ) ، وكذا نصت المادة (53) تحكيم على أنه (لا يجوز طلب إبطال حكم التحكيم إلا في الأحوال الأتية: ز- إذا خالف حكم التحكيم أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام ).
ومن المعلوم أنه لا يجوز للأفراد الإتفاق على خلاف النصوص المتعلقة بالنظام العام للمجتمع ككل، وبناءً على ذلك فلا يجوز للخصوم الإتفاق المسبق على تحصين حكم التحكيم من الإدعاء ببطلانه، لأن من أهم اهداف الطعون في الأحكام ودعاوي بطلان احكام التحكيم هو حماية النظام العام وتمكين القضاء من بسط رقابته على احترام المحاكم والمحكمين للنظام العام، وتحقيق العدل بإعتباره أساس الحكم، والله اعلم.