إلزام الغاصب بإستئجار الأرض التي غصبها

إلزام الغاصب بإستئجار الأرض التي غصبها

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.

يشترط الفقه الإسلامي على مالك الأرض عند التصرف بها للغير أن يكون المالك قادراً على تسليم الارض إلى المتصرف إليه، وفي تطبيق هذا الشرط اختلف الفقه الإسلامي بشأن قيام مالك الارض ببيع المال المغصوب او تأجيره للغير، فذهب فريق من الفقهاء : إلى جواز قيام المالك بالبيع او التأجير او غير ذلك من التصرفات إذا كان المتصرف إليه هو الغاصب نفسه للمال، لأن المال المغصوب في قبضته فهو قد تسلم المال من قبل عن طريق غصبه للمال، في حين ذهب فريق من الفقهاء إلى : عدم جواز قيام المالك بالبيع او التأجير او غيره من التصرفات إلى الغاصب ، لأن المال وإن كان في قبضة الغاصب من قبل التصرف إلا أن في التصرف الى الغاصب إعانة للغاصب المعتدي وتشجيع الغاصبين الفاسدين المفسدين المعتدين على غصب أموال الناس ثم إجبار ملاكها على البيع او التأجير للغاصبين، ولذلك فإن البيع او التأجير لغاصب المال من قبيل التعاون على الآثم والعدوان، وذلك محرم بقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وهذا القول هو القول الذي يناسب الواقع في اليمن الذي تزدهر فيه ظاهرة غصب أموال الناس والبسط عليها وإجبار ملاكها على بيعها أو تاجيرها للغاصب نفسه بمبالغ تافهة .

وبشأن إلزام الغاصب بإستئجار الأرض التي سبق له ان غصبها او إطلاقها فقد اشار إلى ذلك الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 4-6-2012م في الطعن رقم (45004)، المسبوق بالحكم الابتدائي الذي قضى: (بثبوت ملكية المدعي للموضع محل النزاع وهو حول..... وإلزام المدعى عليهم بإستئجار ذلك الموضع بحسب ما يتفق عليه الطرفان بشأن الحرث والغلول ، وبحسب ما جرت عليه العادة في المنطقة بين الشريك والمالك، فان رفض المدعى عليهم الاستئجار فيلزمهم رفع ايديهم عن الموضع المدعى به دون قيد أو شرط)، وقد قضى الحكم الاستئنافي بتأييد الحكم الابتدائي، وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: (فقد ناقشت الدائرة ما اثاره الطاعن في عريضة طعنه من أسباب، ووجدت: أن تلك الأسباب متعلقة بموضوع النزاع، وقد ناقشت تلك الأسباب محكمة الاستئناف في حكمها، ومن خلال ذلك توصلت إلى نتيجة صحيحة موافقة للشرع والقانون)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: الفرق بين الغاصب والحائز القانوني للأرض:

عرّفت المادة (1119) من القانون المدني اليمني الغصب بأن (الغصب: هو الإستيلاء على مال الغير او حقه عدواناً بدون سبب شرعي)، ومن خلال مطالعة هذا النص يظهر ان الغاصب هو الذي يضع يده على عقار غيره من غير سبب مشروع، وهذا الأمر يقتضي التفرقة بين السبب المشروع لوضع اليد على ارض الغير والسبب غير المشروع، لان الحيائزالقانوني للارض هو الذي يضع يده على أرض غيره بسبب مشروع ، في حين ان الغاصب هو الذي يضع يده على ارض غيره بسبب غيرمشروع، فالتفرقة بين السبب المشروع وغير المشروع لوضع اليد على ارض الغير المذكورة في النص القانوني السابق هي في الوقت التي تفرق بين الغاصب والحائز لارضه غيره.

 ولذلك فان الأمر يقتضي بيان السبب المشروع لوضع اليد على ارض الغير ، والسبب المشروع لوضع اليد على ارض الغير ينقسم إلى ثلاثة انواع: الأول : يرجع إلى مالك العقار والثاني يرجع إلى القضاء، والثالث يرجع إلى السلطة العامة، وبيان ذلك كما يأتي:

اولا: السبب المشروع لوضع اليد على الارض: وهو السبب الذي يرجع إلى مالك العقار: وهو الإذن والموافقة من مالك العقار للحائز بالإنتفاع بالعين ،ويستثنى من ذلك المالك القريب او الوارث او الشريك للحائز، فهولاء لايملكوا التمسك بالحيازة في مواجهة مالك الارض ، وكذا يستثنى من التمسك بالحيازة المستأجر للعقار، لأن يده على المال يد حكمية لحساب المؤجر، ولأنه بعقد الإيجار مقر بأن الأرض المؤجرة منه ليست ملكه وإنما لمالكها المؤجر.

ثانيا: السبب المشروع لوضع اليد على الارض الذي يرجع إلى حكم القضاء أو التحكيم : وهو قيام الشخص بوضع يده على العقار بموجب حكم او قرار قضائي او حكم تحكيم كان مالك الارض أو خلفه طرفاً في ذلك الحكم فكان حجة عليه.

ثالثا: السبب المشروع لوضع اليد على الارض الذي يرجع إلى السلطة العامة التنفيذية: ويتحقق هذا السبب إذا وضع الحائز يده على الأرض بموجب قرار إداري صريح بإستملاك العقار للمنفعة العامة ثم قيام السلطة العامة بتنفيذ قرارها وتمكين الحائز من وضع يده على العقار.

اما السبب غير المشروع لوضع اليد فهو الغصب الذي يكون فيه واضع اليد غاصباً ، فغصب ارض أو عقار الغير فهو الذي يقع خلافاً للأسباب المشروعة للحيازة السابق ذكرها، ولذلك اشترطت المادة (1104) مدني اشترطت في الحيازة القانونية (الثبوت) حيازة الملك ان لا تقترن الحيازة بإكراه المالك او منازعته ، وان يتصرف الحائز بالارض التي يحوزها ويظهر عليها بمظهر المالك للارض.

الوجه الثاني: الوضعية القانونية لإلزام الغاصب بإستئجار الأرض التي سبق له أن غصبها:

في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كانت الأرض المغصوبة أرضاً زراعية (حقل زراعي) ، ولذلك فقد قضى الحكم بإلزام الغاصببين بإستئجارها بحسب الشروط التي جرت عليها العادة الجارية في منطقة الحقل الزراعي فان لم يستاجروها فيتم إلزامهم پإطلاق الارض أي إعادتها لمالكها.

ومن المعلوم أن إيجار الأراضي الزراعية في الفقه الإسلامي والقانون يكون وفقا صيغة المزارعة، فينعقد عقد المزارعة بين مالك الأرض والمزارع الذي يتولى زراعتها على أن يتقاسم المزارع مع المالك المحصول بحسب العقد او بحسب العرف الجاري ، غير أن عقد المزارعة في الفقه الإسلامي محل خلاف شديد بسبب الغرر الذي يحيط بهذا العقد من كل ناحية ، فالمحصول مجهول القدر أي أن الإجرة غير معلومة، ولذلك فقد ابتكر الفقه الإسلامي في اليمن صيغة مناسبة تلبي احتياج المجتمع اليمني الزراعي حيث ابتكر فقهاء اليمن منذ القدم صيغة (المشاركة) او المضاربة التي تعني ان مالك الأرض (المال) يقوم بتسليمها (للشريك) وهو المزارع الذي يقوم بزراعتها على أن يتقاسم الطرفان المحصول بحسب الإتفاق بينهما او بحسب العرف، ولذلك يطلق في اليمن مصطلح (الشريك) على المزارع الذي يتولى زراعة الأرض ، وقد ابتكر فقهاء اليمن صيغة المشاركة لزراعة الأراضي الزراعية كبديل لصيغة المزارعة التي ينتقدها قسم كبير من الفقهاء.

وإلزام الغاصب بإستئجار الأرض سواءً بصيغة عقد المزارعة او صيغة عقد المشاركة او المضاربة أو الزام مالك الارض على تاجيرها لغاصبها محل نظر، لأن العقود في الشريعة الإسلامية والقانون المدني اليمني لا تكون صحيحة إلا إذا تمت بالتراضي بين المتعاقدين ، لأن الإكراه او الإلزام على التعاقد يتنافى مع مبدأ سلطان الإرادة الذي يحكم العقود والذي يعني عدم جواز إلزام الأشخاص على التعاقد، فإذا كان الإلزام من عناصر الحكم القضائي التي تجعله قابلاً للتنفيذ بقوة السلطة العامة إذا استدعى الأمر ذلك، إلا أن الإلزام في مسائل العقود غير مقبول. (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص282).

الوجه الثالث: رؤية شرعية وواقعية في إلزام الغاصب بإستجار الأرض التي غصبها والزام المالك للارض بتاجيرها من غاصبها:

ذكرنا في مقدمة هذا التعليق ان فريق من الفقهاء يذهب إلى عدم جواز قيام المالك بالتصرف في المال إلى غاصبه، لأن ذلك من قبيل التعاون على الآثم والعدوان لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، فالغاصب معتدي، وكذلك تأجير الأرض المغصوبة من غاصبها يخالف حديث النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (ليس لعرق ظالم حق)، فالغاصب ظالم بغصبه وإعتدائه على أرض غيره فليس له حق في شراء الأرض المغصوبة أو استئجارها، في حين ذهب فريق آخر من الفقهاء إلى جواز تأجير الأرض من الغاصب ، لأنه قد سبق له أن استلمها عند غصبه لها ، فلا تحتاج إلى تسليم من مالكها ، لأن العلة في منع المالك من التصرف في الأموال التي ليست بحوزته هو عدم قدرته على تسليمها إلى المتصرف إليه، وهذه العلة متخلفة بالنسبة للغاصب للعين.

والقول الفقهي الذي نختاره هو القول الأول ،لأنه المناسب للواقع في اليمن، لأن الغاصبين يهدفوا من غصبهم لأموال الغير التمسك بالثبوت والحيازة في مواجهة مالك المال نتيجة الخلط بين الحيازة والغصب السائد لدى غالبية الغاصبين في اليمن (الباسطين) ، في حين يستهدف قسم آخر من الغاصبين من غصبهم حمل مالك الأرض المغصوبة على بيعها او تأجيرها للغاصب بمبلغ زهيد، ولذلك فأن الواجب أن يكون القضاء بإلزام الغاصب بإخلاء العين المغصوبة وتسليمها لمالكها وتعويض مالكها عن غلاتها خلال فترة الغصب ، فضلاً عن تعويض مالك الارض عن الأضرار التي لحقت به جراء الغصب، فلا ينبغي ان يتضمن القضاء مكافأة الغاصب ببيع الأرض المغصوبة له أو تأجيرها له، علاوة على ان إلزام مالك الارض بتاجيرها لغاصبها يتنافى مع سلطان الارادة في ابرام العقود ووجوب إحترام ارادة ورضاء وإختيار المتعاقدين ، والله أعلم.

إلزام الغاصب بإستئجار الأرض التي غصبها