التحكيم في قسمة التركة

التحكيم في قسمة التركة

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.

القسمة: هي توزيع أموال المورث المتوفي بين ورثته الشرعيين بحسب الفرائض الشرعية المقررة في الشريعة الإسلامية، والتحكيم في قسمة التركة: هو إتفاق الورثة على تعيين محكم لقسمة التركة والفصل في أية منازعات أو خلافات أو دعاوى قد تقع بين الورثة أثناء إجراءات القسمة، وتنتهي اجراءات القسمة بواسطة المحكم أو المحكمين إلى قسمة التركة بحسب الفرائض الشرعية مثل المحكم في ذلك مثل القاضي في القسمة الجبرية.

وقد حدد قانون التحكيم اليمني المسائل التي لا يجوز التحكيم فيها ، وذلك في المادة (5) ولم يذكر من بينها مسائل قسمة التركات، وانما ذكر ضمن المسائل التي لايجوز التحكيم فيها ذكر المسائل المتعلقة بالنظام العام ،وبما أنه لم يرد ذكر القسمة ضمن المسائل التي لايجوز التحكيم فيها لذلك فإنه يجوز التحكيم في قسمة التركة ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26-3-2012م في الطعن رقم (44272)، المسبوق بالحكم الاستئنافي الذي ورد ضمن أسبابه: (فقد تبين أن هذه القضية قد صدر فيها حكم تحكيم بناءً على الإتفاق فيما بين المستأنف والمستأنف ضدها وذلك بقسمة مخلف مورث الطرفين الذي توفى وانحصر إرثه بأخيه المستأنف وزوجته المستأنف ضدها ، وحصول تشريف الطرفين لحكم التحكيم في حينه، وباع المستأنف نصيبه حسبما هو ظاهر ببصيرة البيع المرفقة، ولذلك فإن ما قضت به محكمة أول درجة موافق للشرع والقانون)، وعند الطعن بالنقض بالحكم الاستئنافي أقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: (ومن خلال الإطلاع على حيثيات الحكم الابتدائي والحكم الاستئنافي المؤيد له فقد تبين: أن الأسباب التي توصل إليها الحكم الاستئنافي صحيحة لما استند إليه من مواد قانونية ، ولذلك فإن الحكم الاستئنافي جاء موافقاً للشرع والقانون)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: النظام العام والشريعة الإسلامية والتحكيم في القسمة:

نصت المادة (5) من قانون التحكيم اليمني على إنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي: - كل ما يتعلق بالنظام العام)، والنظام العام هو المسائل المقررة لمصلحة المجتمع ككل وليس لمصلحة فرد من أفراد المجتمع بعينه، ومن المعروف ان مسائل النظام العام لا يجوز للأفراد الإتفاق على خلافها او التصالح بشأنها.

والقواعد الآمرة في الشريعة الإسلامية هي النصوص الشرعية القطعية المتعلقة بالحرام والحلال ، فهذه النصوص تمثل النظام العام للمجتمع المسلم، فلا يجوز للأفراد الإتفاق على إباحة المحرم أو تحريم المباح ، وتطبيقاً لذلك فإن الفرائض في قسمة التركة فرضها الله سبحانه تعالى للورثة واطلق عليها اسم (الفرائض) أي أنها مفروضة من الله تعالى، فلايجوز للورثة الإتفاق المسبق على التنازل عن حقوقهم في الميراث أو إسقاطها، وإن كان يجوز للذكر البالغ الراشد اسقاط حقه في الميراث بعد تحققه والتنازل عنه لبقية الورثة أو بيعه أو وقفه أو غير ذلك.

وفي هذا السياق نصت المادة (53) تحكيم على إنه (مع مراعاة أحكام هذا القانون لا يجوز طلب إبطال حكم التحكيم إلا في الاحوال الآتية: -ز- إذا خالف حكم التحكيم أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام...إلخ).

ونخلص من هذا الوجه إلى القول ان التحكيم في القسمة جائز في الشريعة الاسلامية طالما ان المحكم أو حكم التحكيم لم يختلف النصوص الشرعية القطعية المتعلقة بالحرام والحلال ، ومؤدى ذلك ان التحكيم في القسمة يكون جائز طالما انه لم يحرم حلالا أو يجيز حراما.

الوجه الثاني: التحكيم في القسمة والصلح في القسمة :

نصت المادة (5) تحكيم على إنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي: -د- المسائل التي لا يجوز فيها الصلح)، ومعنى ذلك ان المسائل التي لايجوز الصلح فيها لايجوز التحكيم فيها.

 ومن المعروف انه يجوز الصلح بين الورثة على إجراءات القسمة كالصلح بشأن التثمين او التخارج او في توزيع أموال التركة بينهم بالتراضي شريطة أن يكون الورثة المتقاسمين ذكورا بالغين عاقلين غير ممنوعين من التصرف ، وشريطة أن يكون الورثة المتصالحين من الذكور ، لأن تصرف النساء او تنازلهن لأقاربهن مشروط بأن يكون بيعاً قد تم بسعر المثل وتولى تقديره خبراء عدول وتم قبض الثمن من قبل الوارثة المتصرفة ، حسبما استقرت عليه أحكام القضاء اليمني منذ امد بعيد.

والصلح يتضمن في الفقه الاسلامي والقانون يتضمن معنى الإسقاط أو التنازل عن بعض الحق ، وهذا يستدعي الاشارة بإيجاز إلى مدى جواز تنازل الوارث المقاسم عن بعض نصيبه الشرعي في التركة ، ولاشك أنه لا يجوز للوارث أن يتنازل عن نصيبه او حقه الشرعي في الميراث قبل تحقق هذا الحق الشرعي بموت المورث أي انه لايجوز للوارث ان يتنازل عن نصيبه في تركة مورثه قبل وفاة مورثه، فمن المعروف أن حق الوارث في الميراث لا يتحقق إلا إذا ثبت بالبينة موت مورثه وثبتت حياة الوارث عند وفاة المورث، ففي هذه الساعة يستطيع الوارث ان يتنازل عن حقه في الميراث الشرعي من مورثه ، غير أن تنازل الوارث عن نصيبه قبل حصر أموال التركة وتحديد الإلتزامات القائمة عليها يكون جزافي يكتنفه الغرر، ولذلك فإن الوقت المناسب لتنازل الوارث عن نصيبه أو بعض نصيبه يكون عند حصر أموال التركة وتحديد نصيب كل وارث منها ، فعندئذٍ يجوز للوارث أن يتنازل عن نصيبه لأحد الورثة أو للورثة الآخرين جميعهم، لأن الوارث في هذه الحالة قد صار مالكاً لنصيبه المعين وعالما بقدره ، فللوارث عندئذٍ أن يتصرف بميراثه كيفما يشاء ومتى ما شاء سواءً بالبيع او الهبة او الوقف او التنازل أو غير ذلك من التصرفات.

ونخلص من هذا الوجه إلى القول: أن الصلح بين الورثة في قسمة التركة جائز إذا كان الورثة ذكوراً بالغين عقلاء، وعلى هذا الاساس فانه يجوز التحكيم في قسمة التركة طالما انه يجوز الصلح في قسمة التركة على النحو السابق بيانه.

الوجه الثالث: مدى جواز التحكيم في قسمة التركة:

إذا كان التحكيم بين الورثة المتقاسمين قد تم على أساس إلتزام المحكم بأحكام المواريث المقررة في الشريعة الإسلامية فإن التحكيم جائز، لأن المحكم في هذه الحالة يباشر إجراءات القسمة مثلما يباشرها القاضي في القسمة الجبرية، فيقوم المحكم بالحكم بموجب الفرائض المقررة في الشريعة الإسلامية ، لذلك فإن التحكيم في قسمة التركة جائز طالما ان المحكم لم يخالف الفرائض الشرعية المقررة في الشريعة الإسلامية، وإذا خالف حكم التحكيم الفرائض الشرعية فأنه يحق للوارث المقاسم أن يتقدم أمام محكمة الاستئناف المختصة بدعوى بطلان حكم التحكيم عملاً بالمادة (53) تحكيم التي نصت على إنه (مع مراعاة أحكام هذا القانون لا يجوز طلب إبطال حكم التحكيم إلا في الاحوال الآتية: -ز- إذا خالف حكم التحكيم أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام...إلخ).

الوجه الرابع: تشريف الورثة المتقاسمين لحكم التحكيم في قسمة التركة:

معنى تشريف الحكم بصفة عامة هو: قبول الخصم أو الخصوم بما قضى به الحكم وتنازل الخصوم عن الطعن في الحكم، وبناءً على ذلك فإن تشريف الورثة المتقاسمين لحكم المحكم الذي قام بالقسمة بينهم يعني قبول الورثة ورضاهم وموافقتهم على ما قضى به حكم التحكيم ، فإذا كان حكم المحكم قد حكم بالقسمة بحسب الفرائض الشرعية فإن التشريف يكون نافذاً، وإن كان حكم التحكيم قد حكم بالقسمة بالمخالفة لأحكام الفرائض الشرعية فإن تشريف الورثة لحكم التحكيم غير لازم، الا اذا كان المقاسمو المتضرر من القسمة بالنقص من فريضته يعلم بان حكم التحكيم قد انتقص من نصيبه الشرعي لمصلحة وراث اخر فتنازل الوارث المتضرر عن ذلك ، فيكون حكم الوارث في هذه الحالة كحكم المصالح في القسمة الذي يتنازل عن بعض حقه في الميراث حسبما سبق بيانه. لأن الفرائض الشرعية مقررة لمصلحة الوارث الذي يحق له التنازل عن نصيبه او فريضته في الميراث بعد ثبوتها بموت مورثه كما لو تنازل بها كلها او بعضها للورثة الأخرين أو بعضهم، فالشريعة الإسلامية لا تمنع الوارث عن التنازل عن نصيبه من الميراث بعد وجوده وتحققه، ففرائض الميراث ليست فرائض تعبدية، ولذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بأن تشريف الورثة لحكم المحكم بإجراء القسمة يمنع الورثة من طلب نقض القسمة التي تمت بموجب حكم التحكيم ولو كان حكم التحكيم قد حكم لأحد الورثة بأكثر من نصيبه الشرعي طالما ان حكم التحكيم بإجراء القسمة قد تم تشريفه من قبل جميع الورثة برضاهم واختيارهم بعد علمهم بمضمون الحكم الذي قاموا بتشريفه.

وقد سبق لنا أن ذكرنا إنه يجوز للورثة التصالح في قسمة التركة حتى لو كان الصلح على إسقاط بعض الورثة الذكور عن أنصبتهم لبعضهم بعضاً، والله اعلم.

التحكيم في قسمة التركة
التحكيم في قسمة التركة