مدى جواز التحكيم في القسمة الشرعية

مدى جواز التحكيم في القسمة الشرعية

ينص قانون التحكيم اليمني في المادة (5) على إنه لا يجوز التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظام العام، وهذا النص يمنع التحكيم في القسمة من حيث تحديد الفرائض والأنصبة التي حددها الشارع تبارك وتعالى في كتابة العزيز أي أن التحكيم لايجوز في احقية الوارث لنصيبه الشرعي أو في تحديد الانصبة الشرعية بالزيادة أو النقص أو في قسمة اموال المورث غير المشروعة كالاموال المغصوبة أو المسروقة أو المتحصلة من رشوة أو غناء..الخ.

 غير أن التحكيم جائز في إجراءات القسمة من حيث حصر التركة وحصرالديون والإلتزامات القائمة عليها وتحديد أموال التركة القابلة للقسمة الفورية وتثمين أموال التركة وتحرير وثائق القسمة والفصل في منازعات الورثة بشأن اجراءات القسمة كدعاوى الاختصاص وتحديد أنصبة كل وارث بحسب الفرائض الشرعية المقررة في الشريعة الاسلامية،

حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 7-1-2012م في الطعن رقم (43791)، المسبوق بالحكم الاستئنافي الذي قضى

(بقبول الدفع بالتحكيم وإحالة الطرفين إلى التحكيم، لان ذلك الحكم كان موافقاً لنص المادة (19) من قانون التحكيم)، وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أقرت الدائرة الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: (فقد كان الإطلاع على تفاصيل ما اثاره الطاعن في أسباب طعنه من حيث الموضوع ، فوجدت الدائرة: أن تلك الأسباب غير متحققة ولا تأثير لها على ما توصل إليه الحكم الاستئنافي في تأييده الحكم الابتدائي الذي استند إلى أحكام المادة (19) من قانون التحكيم في قضائه برفض طلب القسمة لوجود التحكيم وإحالة الطرفين الوارثين إلى المحكم)،

وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: تصور موجز لإجراءات القسمة:

إجراءات القسمة كثيرة تبدأ بإستخراج شهادة وفاة المورث لإثبات وفاة المورث ثم إستخراج حكم إنحصار الورثة الذي يحدد ورثة المتوفي ثم حصر الأموال التي مات المورث وهي تحت يده ثم حصر الديون التي على المورث أو له وكذا حصرالالتزامات القائمة على المورث أو عليه ثم تحديد المخلف وهي الأموال المملوكة بالفعل للمتوفي القابلة للقسمة على ورثته بعد إخراج الديون والإلتزامات وتجنيب الاموال المختلف بشأنها ثم مساحة وتثمين أموال التركة ثم إعداد التركيز الذي يتضمن أموال التركة وأثمانها ونصيب كل وارث منها ثم التخارج أو المخارجة بين الورثة بما في ذلك إجراء القرعة ثم تحرير فصول القسمة باسم كل وارث على حدة التي تحدد الأموال التي صارت من نصيب كل وارث على حدة ثم تطبيق او تنفيذ الفصول على الواقع الذي يعني تمييز وتعيين وتسليم كل وارث الأموال المحددة له في فصله.

وعند مباشرة إجراءات القسمة المشار إليها تحدث نزاعات بين الورثة بشأن حصر أموال التركة فقد يدعي بعض الورثة أن بعض تلك الأموال ملك خاص به (دعاوى الإختصاص) أو قد يدعي احد الورثة أنه شريك لمورثه في بعض أموال التركة، كما قد يحصل بين الورثة نزاع بشأن تثمين بعض أموال التركة، وكذا تحدث الخلافات بين الورثة عند التخارج وتحديد ما يخص كل وارث بحسب ما ورد في التركيز وكذا تحدث الخلافات عند تمييز وتعيين ما يخص كل وارث من أموال التركة ...الخ.

الوجه الثاني: موضوع التحكيم في قضايا القسمة:

إذا كان موضوع التحكيم في القسمة هو مباشرة إجراءات القسمة المشار إليه في الوجه الأول من هذا التعليق والفصل في الخلافات التي تقع بين الورثة بمناسبة مباشرة إجراءات القسمة المشار اليها، فإن هذا التحكيم جائز لانه لايدخل في الورثة شخصا غير وارث أو يستبعد وارثا كما انه لايمس مقادير الفرائض الشرعية المقررة في الشريعة الاسلامية ، وعلى هذا الاساس فان هذا التحكيم لا يخالف النظام العام.

اما إذا كان موضوع التحكيم هو إدخال غير وراث أو إخراج وارث شرعي ثبتت صفته الشرعية كوارث أو اذا كان موضوع التحكيم زيادة نصيب أحد الورثة أو إنقاصه فإن التحكيم في هذه الاحوال لا يجوز، لانه مخالف للنظام العام وينطبق عليه حكم المادة (5) من قانون التحكيم التي نصت على إنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي: -هـ- كل ما يتعلق بالنظام العام).

الوجه الثالث: النظام العام في القانون الذي لا يجوز التحكيم بشأنه وعلاقته بالتحكيم في القسمة :

نصت المادة (5) من قانون التحكيم اليمني على إنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي: -هـ- كل ما يتعلق بالنظام العام)، ومن خلال ما تم عرضه في الأوجه السابقة يظهر أن التحكيم إذا كان موضوعه هو تحكيم المحكم بمباشرة إجراءات القسمة السابق ذكرها والفصل في المنازعات التي تقع بين الورثة أثناء إجراءات القسمة واجراء القسمة بين الورثة الشرعيين وتقسيم التركة بحسب الفرائض الشرعية فإن التحكيم في هذه الحالة جائز في الشريعة الإسلامية، وتبعاً لذلك فإن التحكيم في هذه الحالة لا يخالف النظام العام، اما إذا كان موضوع التحكيم منح المحكم صلاحية زيادة أو نقصان الفرائض الشرعية أو إدخال وارث او اخراج وارث أو تقسيم التركة من غير إخراج الديون والإلتزامات القائمة أو تقسيم أموال التركة غير المشروعة كالاموال المغصوبة أو المسروقة أو المتحصلة من طرق محرمة كالرشوة والغناء والسرقة فإن التحكيم فيها لا يجوز شرعاً ،لأن الشريعة الاسلامية قد حددت الفرائض الشرعية التي تعني أن الله تعالى هو الذي افترضها وقررها فلا تجوز الزيادة والنقصان فيها وكذلك الحال في تحديد الورثة وتحديد الأموال المحرمة شرعا.

وفي هذا السياق فقد نصت المادة (53) تحكيم على إنه (مع مراعاة أحكام هذا القانون لا يجوز طلب إبطال حكم التحكيم إلا في الاحوال الآتية: -ز- إذا خالف التحكيم أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام).

وبناءً على هذا النص فإن حكم التحكيم إذا لم يخالف أحكام المواريث المقررة في الشريعة الإسلامية فإنه يكون جائزا ويجب العمل بموجبه بخلاف الحال لو تعرض الحكم لمقادير الفرائض الشرعية بالزيادة والنقصان وغيره من الجوانب الشرعية.

الوجه الرابع: النظام العام والشريعة الإسلامية:

من ضمن حالات بطلان حكم التحكيم المحددة في المادة (53)تحكيم الفقرة (ز) (-ز- إذا خالف التحكيم أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام).

 ولذلك ينبغي الاشارة بإيجاز إلى النظام العام وعلاقته بالشريعة الاسلامية ، ففكرة النظام العام عند رجال القانون والسياسة عصية عن التعريف ، ولذلك فأن فكرة النظام العام تستمد سموها من كونها عصية عن التعريف ، لأن هذه الفكرة ليست قاصرة على مجال من المجالات بل أنها تمتد في كل المجالات ، فهناك نظام عام سياسي وهناك نظام عام إجتماعي وهناك نظام عام اقتصادي...إلخ، لذلك لا يملك فرع من تلك الفروع تعريف النظام العام، ومع ذلك يمكن القول: أن النظام العام في القانون: هو القواعد القانونية المقررة لمصلحة المجتمع كله وليس لمصلحة فرد بعينه من أفراد المجتمع بمعزل عن بقية أفراد المجتمع، ولذلك لا يجوز لأفراد المجتمع الإتفاق على خلاف ما ورد في القواعد القانونية الآمرة المنظمة لمصلحة المجتمع وحقوقه ككل.

وتتمثل فكرة النظام العام في الشريعة الإسلامية في النصوص والأحكام والأدلة الشرعية القطعية التي تبين الحلال والحرام أو المسائل الجائزة أو غير الجائزة، وعلى هذا الأساس لا يجوز للأفراد التحكيم في هذه المسائل، لأنه يترتب عليها تحريم ما أحل الله تعالى أو إباحة ما حرم الله، فهذا هو النظام العام في فقه الشريعة الاسلامية. (الدفوع المتعلقة بالنظام العام، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص9).

وعلى هذا الأساس فلا يجوز التحكيم في مسائل الميراث أو الفرائض الشرعية من حيث مقاديرها ، لأن الله سبحانه وتعالى قد حددها في كتابه العزيز وكذا التحكيم بشان قسمة اموال التركة المحرمة شرعا السابق بيانها.

الوجه الخامس: إحالة المحكمة المتقاسمين إلى المحكمين:

نصت المادة (19) تحكيم على إنه (على المحكمة التي ترفع أمامها دعوى متعلقة بخلاف أو نزاع يوجد بشأنه إتفاق تحكيم أن تحيل الخصوم إلى التحكيم ما عدا الحالات الآتية: -أ- إذا تبين للمحكمة أن إتفاق التحكيم باطل أو لاغٍ أو لا يشمل النزاع المطروح أمامها –ب- إذا تابع الطرفان إجراءات التقاضي أمام المحكمة فيعتبر إتفاق التحكيم كأن لم يكن).

وبناءً على ذلك إذا سبق للورثة المتقاسمين أن قاموا بتحكيم محكم لإجراء القسمة بينهم ، فقام أحدهم بتقديم طلب القسمة أمام المحكمة، فواجه المدعي وارث آخر بدفع بوجود تحكيم ،فأنه ينبغي على المحكمة في هذه الحالة أن تحيل الورثة المتقاسمين إلى التحكيم حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.

الوجه السادس: كيفية تحكيم القسام:

القسام المحكم : هو الذي يقوم الورثة بتعيينه في اتفاق مكتوب يتم فيه تحديد ولايته المتمثلة في إجراء القسمة الشرعية بالإضافة إلى الفصل في أية خلافات قد تحدث بين الورثة بشأن إجراء القسمة واثنائها، وبموجب وثيقة اختيار وتعيين المحكم القسام فأنه يقوم بإجراء القسمة بحسب الإجراءات المحددة في القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية مثله في ذلك مثل أي قسام بالإضافة إلى قيامه بالفصل في أية نزاعات قد تقع بين الورثة بشأن إجراءات القسمة وإثنائها وبحسب ماهو مقرر في قانون التحكيم .

الوجه السابع: طريقة عمل القسام المحكم:

إذا حدثت نزاعات بين الورثة اثناء إجراءات القسمة أو بشأنها فإن القسام المحكم يقوم بالفصل في تلك النزاعات، وعندئذ يتم تضمين إجراء القسمة في مدونة حكم التحكيم الذي يتضمن حصر موجودات التركة وتثمينها وتحديد الأنصبة وتحديد نصيب كل وارث (تحرير الفصول أو الفروز) بالإضافة إلى الفصل في دعاوى الاختصاص أو أية نزاعات قد تقع بين الورثة بسبب القسمة ، وهذه هي الطريقة الغالبة في عمل (القسام المحكم)، وهذه الطريقة تشبه القسمة الجبرية التي يباشرها القاضي، وهناك طريقة أخرى يتبعها بعض (القسامين المحكمين) وهي إجراء القسمة في وثائق مستقلة عن حكم التحكيم الذي يشتمل فقط على الفصل في النزاعات التي وقعت بين الورثة، فضلا عن ان بعض القسامين المحكمين يصدر أكثر من حكم تحكيم بمناسبة كل نزاع على حدة خاصة عندما لا تحدث النزاعات في وقت واحد أو دفعة واحدة وإنما تقع النزاعات بين الفينة والآخرى اثناء مراحل إجراءات القسمة، والله اعلم.

مدى جواز التحكيم في القسمة الشرعية
مدى جواز التحكيم في القسمة الشرعية

©مدونة الأستاذ الدكتور/ عبدالمؤمن شجاع الدين