مصرف ديوان الوقف في اليمن

مصرف ديوان الوقف في اليمن

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.

من حرص اليمنيين على فعل الخير وإجراء الصدقات الجارية لا تخلو قرية من قرى اليمن من ديوان وقف ، وهذا الديوان عبارة عن مكان مفروش يجد فيه عابروا السبيل أو الوافدين على القرية يجدوا فيه مكان يأويهم مجاناً ، ويتم في هذا المكان أو الديوان إطعام الوافدين أو عابري السبيل والفقراء من أهل القرية الذين لايجدون الطعام اوالمأوى لهم، ولذلك من الصعب القول بإنقطاع مصرف ديوان الوقف في القرى الا إذا هجر الناس جميعهم القرية .

وقد ظهر وقف الديوان في قرى اليمن لعدم وجود الفنادق والمطاعم في القرى ، ولذلك لم يظهر وقف الديوان في مدن اليمن ، بيد ان الامانة العلمية تقتضي القول ان الضرورة الشرعية تقتضي في الوقت الحاضر وجود وقف ديوان الوقف في المدن بل ان ذلك اولى بعد ان ظهرت في المدن شريحة من المشردين الذين لاماوى لهم ولا مطعم لهم.

ففي الماضي خصص الواقفون اليمنيون لديوان الوقف الأموال الوفيرة التي تكفل إدامة وتعمير وفرش (الديوان) وتوفير الطعام والانارة لمن يأوي إلى هذا (الديوان) ،وكان الطعام يقدم للوافدين الى الديوان بجفان كبيرة سيما وجبة الغداء وكانت أخبار (جفان )الكرام في مديرية القفر وغيرها تتناقلها الركبان وتتباهى بها قبائل اليمن الكريمة بالقول :مثل جفنة فلان ، والجفنة عبارة عن وعاء من الخشب أو أو الحديد مستدير كان يكفي لاطعام عشرين شخصا أو أقل أو اكثر بحسب عدد الوافدين، وكان وجود الجفنة في بيت من البيوت علامة على كرم الاسرة وحلول البركة بين افرادها .

ومع أن دواوين الوقف كانت ومازالت مفتوحة إلا إنه في الوقت الحاضر تقلص عدد الوافدين على القرى وعابروا السبيل فتقلص دور ديوان الوقف وهجرت الى حد ما جفان كرام الواقفين من أهل اليمن ،ولكن ذلك لايعني إنقطاع مصرف ديوان الوقف ، فلاينقطع مصرف ديوان الوقف الا إذا هجر الناس جميعهم القرية فصارت القرية كلها مهجورة، وقد أشار إلى هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 28-3-2012م في الطعن رقم (44154)، المسبوق بالحكم الابتدائي ، حيث أدعى المدعون بأن وقف جدهم على الديوان قد انقطع لعدم وجود الوافدين أو عابري السبيل ، وبموجب هذه الدعوى قضى الحكم الابتدائي بأن يقوم متولي الوقف بصرف عائدات المواضع الموقوفة على الديوان ، وذلك في الفقراء من ذرية الواقف الذين لاماوئ لهم في القرية، وقد قضى الحكم الاستئنافي بتأييد الفقرات التي قضت بصرف الحاصلات التي كانت تصرف على الديوان في الفقراء من ذرية الواقف الذين لاماوئ لهم في القرية، وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: (اما من حيث الموضوع ، فقد ناقشت الدائرة ما اثاره الطاعن في عريضة الطعن من أسباب، ووجدت الدائرة ان تلك الأسباب ما هي إلا أمور متعلقة بوقائع النزاع، وقد تمت مناقشتها من قبل المحكمة الاستئنافية ، وتوصلت المحكمة الاستئنافية في حكمها إلى نتيجة موافقة للشرع والقانون، ولا ورود للأسباب المذكورة في عريضة الطعن، فقد كان الحكم الاستئنافي مسبباً بما فيه الكفاية مما يستوجب رفض الطعن موضوعاً)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: ماهية ديوان الوقف:

ديوان الوقف في القرية: هو غرفة واسعة مفروشة مثلها مثل غرف الضيافة التي كان أهالي القرى اليمنية يعدوها لإستقبال الضيوف، وكان ديوان الوقف مفتوحاً طوال الوقت للوافدين على القرية وعابري السبيل والفقراء من اهالي القرية الذين لاماوئ لهم فيأووا إلى الديوان ، ويتم توفير الطعام المناسب للوافدين على الديوان من عائدات الأعيان الموقوفة التي ينص الواقفون في وثيقة الوقف على أن عائدات الأوقاف تصرف لإقامة وإصلاح ديوان الوقف وفرشه وسراجه وإطعام من يرتاده وياوي إليه، وكانت بيوت أهل القرى يتناوبوا طهي الطعام وتقديمه لمرتادي الديوان بحسب عدد بيوت القرية، وكان في بعض القرى يتولى إعداد الطعام وتقديمه بيت معين من بيوت القرية مقابل بعض عائدات وقف الديوان ، اما حبوب الطعام التي كان يصنع منها طعام الوافدين إلى الديوان فقد كانت من حاصلات الأعيان الموقوفة على الديوان.

الوجه الثاني: اصناف الوافدين على ديوان الوقف ووضعية الديوان في الوقفيات:

الوافدون على ديوان الوقف: هم الوافدون على القرية الذين لا يجدون من يؤويهم في داره، وقد يكون بعض الوافدين مسافرين أو عابري سبيل أو فقراء من أهل القرية ذاتها ومن أهل القرى المجاورة الذين لا يجدون من يطعمهم أو يأويهم.

ومن خلال مطالعة الوقفيات (وثائق الوقف) التي يرد فيها (وقف الديوان) يظهر أن الواقف لا يخصص وقف الديوان على صنف معين من الوافدين على الديوان أو مرتاديه وإنما كان الواقف يصرح في وقفيته: بأن تصرف عائدات او حاصلات الأعيان الموقوفة على إقامة الديوان وفرشه وسراجه وإطعام الوافدين إليه من غير استثناء أو تحديد ، فلا يخصص الواقف على الديوان وقفه على ذريته حصراً، وإنما قد يكون من مرتادي ديوان الوقف بعض ذرية الواقف الذين لايجدون من يطعمهم أو ياويهم.

ونخلص من هذا الوجه إلى القول: أن مصرف الوقف على ديوان الوقف هو إقامة الديوان وتعميره وفرشه وإنارته وإطعام الوافدين عليه سواءً من ذرية الواقف أو من غيرهم.

الوجه الثالث: معنى إنقطاع مصرف الوقف على الديوان:

من المسلم به في فقه الشريعة الإسلامية وقانون الوقف اليمني أن الوقف يقع على سبيل التأبيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك من الصعب القول بإنقطاع مصرف ديوان الوقف في القرى الا إذا هجر الناس جميعهم القرية ، فعندئذ تزول منفعة ديوان الوقف، وفي هذه الحالة لا يبطل الوقف على الديوان وإنما يكون الوقف منقطعاً فينتقل في هذه الحالة مصرف الوقف الديوان إلى مبرة مماثلة أو اصلح منها ، وفي هذا المعنى نصت المادة (30) من قانون الوقف الشرعي على أن (الوقف المنقطع المصرف يصرف في مبرة مماثلة أو اصلح منها بإشراف الجهة المختصة وتسويغ الحاكم، ويقدم ورثة الموقوف عليه وورثة الواقف إن تحققت فيهم المبرة، وإذا ألتبس مصرف الوقف قام المتولي بالصرف بحسب علمه أو علم من سبقه من المتصرفين الثقات، ومع تعذر العلم يعمل بظنه فإن لم يحصل الظن فعلى وجهين إن كانت المصارف منحصرة قسمت الغلة بينهما بالسوية وإن كانت غير منحصرة فهو اللبس المطلق، ومعه فغلة الوقف بنظر الولاية العامة لصرفها في مصلحة أخرى).

فوفقاً لهذا النص فإن وقف ديوان الوقف لاينقطع الا إذا هجر الناس جميعهم القرية ، لان ارادة الواقف وعبارته ونصه قد اتجه إلى أن يكون مكان ديوان الوقف هو القرية التي حددها الواقف وليس غيرها،واذا هجر الناس جميعهم القرية فقد انقطع مصرف وقف الديوان لعدم وجود الأشخاص الذين لا مأوى له فينقطع مصرف الديوان وينتقل إلى مبرة مماثلة وهي صرف عائدات الأعيان الموقوفة للمحتاجين من ذرية الموقوف عليهم وذرية الواقف الذين لاماوئ لهم .

الوجه الرابع: وقف الديوان في قانون الوقف اليمني:

 ورد في قانون الوقف اليمني حكم خاص بالوقف على الديوان ، وذلك في المادة (38) التي نصت على أن (الوقف على الديوان لإطعام الفقراء أو الغرباء صحيح، وإذا زادت الغلة عن حاجة المصرف صرفت في مبرة مماثلة بإشراف الجهة المختصة وتسويغ الحاكم) .

 والمقصود بالجهة المختصة في هذا النص هي وزارة الأوقاف او هيئة الأوقاف والمقصود بالحاكم في النص هو قاضي الأحوال الشخصية المختص ، ومعنى التسويغ هو إجازة المحكمة لصرف الفائض من غلة وقف الديوان في مبرة مماثلة ، ومن المعروف أيضاً أن نقل مصرف الديوان إذا انقطع مصرفه على النحو السابق بيانه لا يتم إلا بموجب حكم من القاضي المختص وهو الحكم بالتسويغ أي إجازة أو تسويغ نقل مصرف الديوان إلى مبرة مماثلة.

الوجه الخامس: توصية لهيئة الأوقاف بشأن إيجاد دواوين للأوقاف في الحارات الشعبية بالمدن:

سبق القول بأن ديوان الوقف في القرى اليمنية من القرب والمبرات العظيمة، ومن التراث الشرعي الخيري اليمني الذي نفخر به ونسأل الله ان يحتسب الثواب والأجر للواقفين على ديوان الوقف الذي مازال موجوداً في كل قرى اليمن ، فلا يعقل أن نقبل بأن تندثر هذه المبرة والقربة العظيمة مع كثرة الإحتياج لها في العصر الحاضر، فهناك اعداد هائلة من المشردين في المدن الذين لا يجدون مأوى لهم في كثير من حارات المدن ، يهيمون على وجوههم في الشوارع من غير مأوى أو طعام، ولذلك فإن الواجب الديني يحتم علينا توصية هيئة الأوقاف وهيئة الزكاة بالمبادرة إلى إنشاء دواوين للوقف في بعض حارات المدن لتوفير المأوى والطعام لمن لا مأوى ولا طعام له، فديوان الوقف من تراثنا الوقفي الذي لا نقبل بإنقطاعه وخروجه من نطاق الخدمة مع كثرة الإحتياج له في العصر الحاضر، والله اعلم.

مصرف ديوان الوقف في اليمن

مقال ذات صلة: