حكم الرجوع عن النذر بالمال لغير الوارث
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
النذر تصرف من تصرفات الإرادة المنفردة ، أي أنه يصدر بإيجاب من الناذر دون حاجة إلى قبول من المنذور له وان كان يجوز للمنذور أن يرجع المال المنذور فيبطل النذر في هذه الحالة.
ويتم النذر بالمال بصيغة كتابية أو لفظية تدل على أن الناذر قد نذر المال ، كان يقول الناذر : نذرت الارضية المملوكة لي الكائنة في مكان كذا لابني فلان فيقوم الناذر بتمليك المنذور له مالاً، وفي هذا المعنى نصت المادة ( 208) احوال شخصية على أن (النذر هو إيجاب مكلف مختار على نفسه بلفظه أو مافي معناه بمال أو فعل أو ترك يلزمه الوفاء به دون توقف على قبول، ويصح بكل لفظ يدل عليه أو بالكتابة ...الخ)، ويجب الوفاء بالنذر وتسليم المال المنذور إلى الشخص المنذور له، ولا يجوز للشخص الناذر أن ينذر أكتر من ثلث ماله.
والنذر من التصرفات المشابهة للهبة ، ولذلك فإن حكم النذر مثل حكم الهبة التي تاخذ حكم الوصية ، وتبعاً لذلك لا يجوز النذر لوارث دون غيره من الورثة إلا إذا اجاز الورثة النذر بعد وفاة مورثهم الناذر، وكذا يجب على الناذر أن يساوي بين الورثة في النذر.
وإذا صدر النذر من الناذر عن طريق الإيجاب لغير وارث فأنه لا يجوز للناذر الرجوع عن نذره ، وقد نظم قانون الأحوال الشخصية اليمني النذر في المواد (من 208 حتى 219).
والنذر بالمال للغير من تصرفات الإرادة المنفردة الشائعة في اليمن ، سيما في محافظات تعز وإب والضالع وريمة وذمار وغيرها، فإن قام الشخص الناذر بنذر بعض ماله إلى وارث فأنه يجوز للناذر الرجوع عن النذر في هذه الحالة ، لأن القانون قد اشترط المساواة بين الورثة في الهبة ومشتبهاتها ومن ضمن مشتبهات الهبة النذر.
اما إذا صدر النذر من الشخص الناذر إلى شخص آخر غير وارث، فيكون هذا التصرف لازم ، فلا يجوز للناذر التراجع عن نذره لغير الوارث،
حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 24-1-2012م في الطعن رقم (43832)، المسبوق بالحكم الابتدائي الذي قضى:
(بصحة النذر من الناذرة.... المؤرخ..... وبطلان الإرجاع لما سبق ان نذرته المؤرخ.... ، وبطلان بيع الناذرة لما سبق أن نذرت به)، وعند إستئناف الحكم الابتدائي قضت الشعبة بتاييد الحكم الابتدائي، وجاء ضمن أسباب الحكم الإستئنافي بأن: (قول المستأنف : أن التصرف الصادر للمنذور لها المستأنف ضدها نذر أخذ صورة هبة ، وان الواهبة قد رجعت عن الهبة، وترد الشعبة على ذلك بأنه : على فرض أن يكون التصرف هبة فإن الرجوع عن الهبة لا يكون إلا في إحدى الحالات الثلاث المنصوص عليها في المادة (196) أحوال شخصية، ولم يظهر للشعبة تحقق أي من تلك الحالات ، مما يعتبر معه الرجوع عن الهبة ثم بيع الواهبة الموهوب للمستأنف باطلاً مما يجعل نعي المستأنف في غير محله)،
وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي، أقرت الدائرة الشخصية الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا:
(اما ما اثاره الطاعن بشأن مناقشة المحكمة بشأن الرجوع عن الهبة وفقاً لنص المادة (196) ، فإن الدائرة: تجد أن الحكم محل الطعن قد توصل إلى نتيجة صحيحة بشأن الرجوع عن الهبة وفقاً لنص المادة المذكورة)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية النذر بالمال للغير:
النذر: هو قيام الشخص المكلف شرعاً أي البالغ العاقل المختار المالك للمال بتمليك بعض ماله إلى الغير من غير مقابل، والنذر بحسب هذا المفهوم من تصرفات الإرادة المنفردة، إذ يقع هذا التصرف بمجرد إيجاب الناذر ، فلا يحتاج إلى قبول من الشخص المنذور له المال ، ولا يشترط أن يكون المنذور له مكلفاً شرعاً ، فيجوز النذر للمريض والمجنون والطفل ، ويشترط في المال المنذور أن يكون مباحاً شرعاً وان يكون مملوكاً للناذر وان يكون هذا المال معلوماً علماً نافياً للجهالة.
الوجه الثاني: لزوم النذر بالمال:
إذا تحققت شروط النذر بالمال المشار إليها في الوجه الأول فأنه يجب على الناذر الوفاء بنذره عملاً بقوله تعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} أي يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة في أصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر كما قال ابن كثير في تفسيره، ومعنى ذلك أنه يجب على الناذر الوفاء بما نذر سواءً أكان النذر بالمال أم غيره ، طالما أن النذر ليس في معصية.
ومعنى لزوم النذر بالنسبة للناذر: أنه يجب على الناذر الوفاء بالنذر من تلقاء نفسه ، ويجوز للقضاء حمل الناذر على الوفاء بنذره اذا لم يقم بالوفاء وديا ، شريطة ان يطلب المنذور له من القضاء ذلك أو تمسك المنذور بالنذر أمام القضاء مثلما وقع في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثالث: التشابه بين النذر والهبة عندما يكون النذر لوارث:
عقد قانون الأحوال الشخصية اليمني (الكتاب الرابع: الهبة ومشتبهاتها) وتناول القانون ضمن ذلك الكتاب الهبة والتصرفات المشابهة للهبة ، ومن هذه التصرفات النذر بالمال ، وهذا يعني أن غالبية أحكام الهبة تسري على النذر بالمال ، وتحديداً فيما يتعلق بعدم جواز إفراد أو تمييز أحد الورثة بنذر دون غيره من بقية الورثة إلا إذا اجاز الورثة ذلك بعد وفاة المورث الناذر ، وكذا وجوب التسوية بين الورثة في المال المنذور من قبل مورثهم، ونخلص من هذا الوجه إلى القول: بأن النذر لبعض الورثة أو لأحدهم يأخذ حكم الهبة للوارث، والهبة للوارث تأخذ حكم الوصية حسبما هو مقرر في قانون الأحوال الشخصية اليمني.(الوجيز في احكام الأسرة، ا.د. عبد المؤمن شجاع الدين ، ص 175) .
الوجه الرابع: حكم النذر لغير وارث:
إذا قام المورث بنذر بعض ماله إلى شخص غير وارث، فإن النذر في هذه الحالة صحيح ولازم بالنسبة للناذر، ويجوز للشخص المنذور له أن يطلب الناذر بالوفاء بنذره وتسليمه المال المنذور إذا لم يسبق للمنذور أن قبض المال المنذور ، بل أنه يجوز للمنذور له أن يلجأ إلى القضاء ويتمسك بالنذر في مواجهة الناذر لحمله على الوفاء بالمال المنذور.
الوجه الخامس: جواز رجوع الناذر عما نذر به لأحد الورثة دون غيره، وعدم جواز رجوع الناذر عما نذر به لغير الوارث:
تخصيص أحد الورثة بمال على سبيل النذر يورث الوحشة والخلاف بين الورثة ويولد الحسد والضغائن بينهم ، ولذلك فإن جمهور الفقهاء يذهبوا إلى تحريمه عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (أتقوا الله وساووا بين أولادكم) ، وقد ورد هذا الحديث في روايات عدة ، ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أمر النعمان بن بشير رضي الله عنه بأن يستعيد ما اعطاه لولده دون بقية الورثة (تفسير آيات وأحاديث الأحكام، أ. د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص292).
وبما أن تخصيص أحد الورثة بنذر من المورث فيه معصية فيجب على المورث الرجوع عن النذر خروجاً من المعصية، ومع ذلك فان النذر لوارث دون غيره من الورثة جائز اذا اجاز الورثة ذلك بعد وفاة مورثهم ، لأن تلك الإجازة تدل على طيبة أنفس الورثة بالنذرالصادر من مورثهم لاحدهم ، وانه يستحق المال المنذور.
اما إذا كان النذر بالمال قد صدر من المورث إلى شخص آخر من غير الورثة ، ففي هذه الحالة لا يجوز للناذر الرجوع عما نذر به عملاً بما ورد في المادة (213) أحوال شخصية التي نصت على إنه (لا يجوز الرجوع في النذر وإنما يبطل برده من المنذور له أو من يقوم مقامه عند تحقق المصلحة بالرد)، إضافة إلى أن النذر تصرف لازم من المؤرث ، فالمورث ملزم بالوفاء بنذره ، فلا يحق له الرجوع عنه، والله أعلم.
![]() |
حكم الرجوع عن النذر بالمال لغير الوارث |