التخلية عند بيع العقارات في اليمن
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدينالأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.
لا ريب ان تمام البيع التسليم أي قيام البائع بتسليم المبيع وقيام المشتري بتسليم الثمن ، بيد انه يتعذر عند بيع العقار التسليم الحقيقي للعقار لطبيعة العقار لأنه غير منقول، ولذلك فقد قرر الفقه الاسلامي والقانون المدني اليمني أن التخلية في العقار تقوم مقام التسليم.
والتخلية ليست ركناً في عقد البيع، وانما هي تندرج ضمن الاثار المترتبة على إنعقاد عقد البيع العقاري ، فالتخلية عن تنفيذ البائع لالتزامه بتسليم العقار المبيع إلى المشتري ، ولذلك فقد اجاز القانون المدني اليمني للبائع الثابتة ملكيته للعقار أن يبيع العقار حتى ولو لم يكن العقار بحوزته بل حتى لو كان العقار مغصوباً تحت يد الغاصب.
ولا شك أن مفهوم التخلية عند بيع العقار يتداخل مع عدة مفاهيم في القانون منها: تسجيل التصرف في العقار الذي يقوم مقام تسليم العقار.
والتخلية تعني: تخلي المالك البائع عن ملكيته للمبيع وتركه للمشتري للتصرف فيه تصرف المالك، والتخلية عند بيع العقار اقتضتها طبيعة المبيع العقاري الذي يتعذر فيه التسليم أو القبض الحقيقي كالمنقول ، لذلك تكون التخلية بمثابة التسليم الحكمي للعقارالى المشتري.
حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 25-12-2016م في الطعن رقم (58674)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: (وحيث أن الشعبة الاستئنافية قد ذكرت في حيثياتها بأن التخلية ليست من أركان العقد، والدائرة تجد: ان التخلية من أحكام المبيع ، فيلزم البائع تسليم المبيع إلى المشتري حسب المادة (529) مدني)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: معنى التخلية عند بيع العقار:
مفهوم العقار في هذا التعليق يشمل الأراضي والمباني، فلن نخوض في جدلية التفرقة بين الأراضي والعقارات، حيث يذهب البعض إلى أن مفهوم العقار يقتصر على المباني ومفهوم الأراضي يقتصر على الأراضي الفضاء أي غير المبنية، أما فيما يتعلق بالتخلية فإن الحديث بشأنها يشمل الأراضي والمباني.
والتخلية للعقار: هي ترك البائع حيازته للعقار المبيع للمشتري الذي يحل محل البائع، والتخلية مستفادة من تخلي البائع عن ملكيته للعقار وعن حيازته له وعدم إعتراضه للمشتري.
والتخلية في الفقه الإسلامي بالنسبة للعقارات تقوم مقام القبض عند بيع المنقولات، وقد ابتكر الفقه الإسلامي مصطلح (التخلية) لتعذر القبض الحقيقي بالنسبة للعقار ، لأن القبض الحقيقي لا يتم إلا عند بيع المنقولات لامكانية مناولتها من يد إلى يد بخلاف العقار. (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص132).
الوجه الثاني: التخلية في القانون المدني اليمني:
سبق القول في الوجه الأول: أن التخلية في البيع العقاري تعني تخلي البائع عن العقار المبيع وتركه للمشتري، ومؤدى ذلك أن التخلية في العقار تقوم مقام التسليم، وعلى هذا الأساس فقد أكد القانون المدني اليمني على أنه يجب على البائع أن يسلم المبيع إلى المشتري، فقد أوجب القانون ذلك ضمن تناول القانون لآثار البيع، فقد نص القانون على ذلك بعنوان (ما يجب على البائع – إلتزاماته) ، ومن ضمن هذه الإلتزامات أو الواجبات إلتزام البائع بتسليم المبيع إلى المشتري، فقد نصت المادة (529) مدني على أنه (يلزم البائع تسليم المبيع إلى المشتري بالحالة التي كان عليها وقت البيع، ويشمل التسليم ملحقات الشيء المبيع وكل ما اعد بصفة دائمة لاستعماله طبقاً لما هو منصوص عليه في المادة (516) وما بعدها)، فهذا النص يلزم البائع بتسليم المبيع بصفة عامة سواءً أكان المبيع منقولاً أم عقارا، ويظهر من وضع القانون لهذا النص ضمن آثار عقد البيع أن التسليم أو التخلية ليست من أركان عقد البيع وإنما أثر من آثاره، ولذلك فقد استند الحكم محل تعليقنا في قضائه لهذا النص.
وللتوكيد على أن التخلية أو تسليم البائع المبيع الى المشتري ليس من أركان عقد البيع فقد نصت المادة (532) مدني على أنه (يكون التسليم بتخلية المبيع ووضعه تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته والإنتفاع به دون عائق أو مانع، ولو لم يستول عليه إستيلاء مادياً ما دام البائع قد اعلمه بذلك، ويحصل التسليم على النحو الذي يتفق مع طبيعة الشيء المبيع، ويجوز أن يتم التسليم بمجرد التراضي على البيع إذا كان المبيع في حيازة المشتري قبل المبيع أو كان البائع قد استبقى المبيع في حيازته لسبب آخر غير الملكية، ويعتبر هذا قبضاً مع مراعاة ما نصت عليه المادة (495) )، في حين نصت المادة (495) مدني على أنه (يصح بيع المالك لما يملك ولو كان في حيازة المشتري كالمغصوب والمسروق إلا في المضمون بغير التعدي كالرهن والعارية المضمونة وفي الوديعة (الأمانة) فلا بد فيها من قبض جديد).
ومن خلال عرض النصوص القانونية السابقة يظهر أن التخلية أثر من آثار عقد البيع العقاري وانها إلتزام وواجب على البائع بموجب عقد البيع الذي سبق إبرامه، وإن للمحكمة أن تحمل البائع على تنفيذ إلتزامه بالتخلية، كما يظهر أن التخلية ليست ركناً من أركان البيع ، فقد صرحت المادة (453) مدني على أن أركان البيع هي: (-1- صيغة العقد -2- العاقدان وهما البائع والمشتري -3- المعقود عليه (محل العقد) وهو المال المبيع والثمن)، ووفقا لهذا النص فليست التخلية من أركان عقد البيع، كما نصت المادة (452) مدني على أن (ينعقد المبيع بإيجاب مكلف وقبول مثله متعاقبين دالين على معنى التمليك والتملك حسب العرف).
الوجه الثالث: التخلية لا تقتضي أن يكون العقار بحوزة البائع:
سبق القول أن التخلية تعني تخلي البائع المالك عن العقار المبيع وتمكين المشتري منه، ومفاد التخلية أن يقول البائع للمشتري: دونك هذا أو ذلك العقار المبيع لك فيتصرف المشتري فيه تصرف المالك من غير إعتراض أو ممانعة من البائع.
وعلى هذا الأساس فإن القانون المدني اليمني لم يشترط أن يكون البائع حائزاً للعقار عند بيعه، فقد أجاز القانون للمالك بيع العقار ولو لم يكن بحوزته طالما أن ملكية البائع للعقار ثابتة، فقد أجاز القانون للبائع بيع ماله ولو لم يكن في حيازته حتى لو كان المال مغصوباً أو مسروقاً ، حسبما ورد في المادة (495) مدني التي نصت على أنه (يصح بيع المالك لما يملك ولو كان في حيازة المشتري كالمغصوب والمسروق...)، وبيع المالك لماله المغصوب محل خلاف شديد في الفقه الاسلامي ،اذ يذهب جماعة من الفقهاء إلى جواز بيع المغصوب إلى الغاصب نفسه ، لأن المبيع المغصوب في هذه الحالة لا يحتاج إلى تسليم لانه أصلاً بحوزة الغاصب، أما بيع المغصوب إلى غير غاصبه فلا يجوز ، لأن المبيع في هذه الحالة يكون غير مقدور التسليم إلى المشتري، في حين ذهب فرق اخر من الفقهاء إلى عدم جواز بيع المال المغصوب إلى الغاصب نفسه ، لأن البيع للغاصب يؤدي إلى تشجيع الظلمة والفاسدين على غصب الأموال ثم إجبار ملاكها على بيعها للغاصبين أنفسهم، ونحن نختار هذا القول. (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص137).
ولا شك أن بيع المالك للعقار الذي ليس بحوزته يؤدي إلى إشكاليات ونزاعات كثيرة، ولذلك اشترط قطاع التوثيق بوزارة العدل اليمنية اشترط على الأمناء الشرعيين قبل تحرير عقد البيع العقاري التحقق من حيازة البائع للعقار المطلوب بيعه، واشترط قطاع التوثيق أيضاً تحرير محضر إثبات حيازة البائع للعقار المراد بيعه شريطة أن يتم التوقيع على محضر إثبات الحيازة من قبل الجيران المحادين للعقار المبيع، وقد فتح هذا المحضر المجال واسعا أمام جيران البائع لإبتزازه للحصول على (السعاية) من غير سعي أو عمل.
الوجه الرابع: التخلية وتسجيل العقار في السجل العقاري:
التسجيل في السجل العقاري يجعل مستند ملكية المسجل يجل له الحجية القانونية المطلقة في مواجهة الكافة وفقاً لما ورد في قانون السجل العقاري، ومن المعلوم في دول العالم المختلفة أن تسجيل عقد البيع العقاري في السجل العقاري يقوم مقام تسليم البائع للعقار إلى المشتري لتعذر التسليم الحقيقي للعقار نظراً لطبيعته التي تختلف عن القبض الحقيقي بالنسبة للمبيع المنقول.
وعلى هذا الأساس فإن التسجيل في السجل العقاري يقام مقام التخلية أو التسليم، ولأهمية وحجية تسجيل المبيعات العقارية في السجل العقاري فقد نصت المادة (9) من قانون التوثيق اليمني على أنه (مع مراعاة قانون الوقف يجب على الموثق عند ممارسة مهامه الإلتزام بما يلي: -2- عدم توثيق أي محرر في التصرفات العقارية إلا بعد التأكد من ملكية المتصرف للعقار بأن يكون مسجلاً في السجل العقاري في المناطق التي توجد بها مكاتب للسجل العقاري مالم فأقلام التوثيق بالمحاكم هي المختصة).
ومن خلال إستقراء هذا النص يظهر أنه منع الأمناء الشرعيين فقط من تحرير التصرفات العقارية التي تكون مستندات ملكيتها غير مسجلة في السجل العقاري وفي الوقت ذاته اجاز هذا النص لأقلام التوثيق في المحاكم المختصة مكانياً أن تقوم بتحرير التصرفات في العقارات غير المسجلة في السجل العقاري، لتوفر الخبرة والإمكانيات لدى أقلام التوثيق للتحقق من صحة مستندات الملكية غير المسجلة في السجل العقاري.
وبناءً على النص السابق فليس صحيحاً الفهم السائد في اوساط المجتمع بأن الدولة قد منعت البيع والشراء في العقارات إلا إذا كانت مستندات ملكيتها مسجلة في السجل العقاري وان ذلك هو سبب الركود في السوق العقاري في اليمن، فحقيقة الأمر أن الدولة نقلت البيع في هذه الحالة من الأمين الشرعي إلى المختص في قلم التوثيق، وهذا الإجراء مقرر في قانون التوثيق في الحالات التي تحتاج إلى مزيد من التحقق والتثبت مثل تصرفات ذوي الإحتياجات الخاصة (كالأعمى والأخرس والأقطع والمشلول). والله أعلم.