تأثير القرابة على المصاريف القضائية: في القضاء والقانون اليمني

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.
في الأحكام القديمة الصادرة في اليمن كانت ترد فيها عبارة (يتحمل كل طرف مصاريفه للقرابة)، لان الدين والورع والتقوى كان يكبح جماح الخصوم عامة والاقارب خاصة ، ولان الخلاف بين الاقارب في الماضي كان يقع بسبب التباس الحق على القريب فلايعلم ان كان على حق ام لا - فضلا عن ان الاقارب حتى الماضي القريب كانوا يتساهلون فيما بينهم فلايستقصي القريب من قريبه كل حقه بل ان كان يتساهل مع قريبه في هذا الشان ، لكن الحال تغير في الوقت الحاضر، فكثير من القضايا المنظورة أمام المحاكم اطرافها من الاقارب ، ولذلك فقد صرح قانون المرافعات بأن المحكوم عليه هو وحده الذي يتحمل مصاريف التقاضي دون إعتبار للقرابة بين الخصوم اطراف القضية ، ويقوم القاضي بتقسيم المصاريف بين اطراف القضية إذا وجد القاضي ان اطراف القضية قد اخفقوا في بعض طلباتهم ، وبناء على ذلك صار من الواجب على القاضي التقيد بالنص القانوني الذي حدد الطرف الذي يجب تحميله مصاريف التقاضي دون إعتبار للقرابة أو غيرها من الاعتبارات ، ففي الوقت الحاضر وبموجب النص القانوني الملزم فان القاضي ملزم بان يحكم بالمصاريف القضائية على المحكوم عليه، عملا بالقاعدة القانونية التي تقضي بأن يتحمل الخصم المحكوم عليه مصاريف التقاضي التي تكبدها وكذا المصاريف التي تكبدها خصمه الاخر؛
وقد اشار الى هذه المسالة الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20-11-2016م في الطعن رقم (58461)، المسبوق بالحكم الاستئنافي الذي قضى بان : (-3- يتحمل كل طرف مصاريفه للقرابة)، وعند الطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي المشار اليه أقر حكم المحكمة العليا الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا: (فقد وجدت الدائرة: أن حكم الاستئناف بتأييد الحكم الابتدائي موافق للشرع والقانون لما علل به واستند إليه)، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية المصاريف القضائية
بينت المادة (257) من قانون المرافعات اليمني المصاريف القضائية أو نفقات المحاكمة، فقد نصت هذه المادة على أن (نفقات المحاكمة هي ما يثبت بوجه شرعي وقانوني أن الخصوم انفقوه في الخصومة ، ويدخل في ذلك ما يأتي: - الرسوم القضائية – اجور الخبراء – نفقات الشهود – نفقات إتخاذ الإجراءات التحفظية – اجور من تنصبه المحكمة عن الخصم الغائب – اجرة المحامين بما تقدره المحكمة – ولا يدخل في نفقات المحاكمة التعويضات ولا ما قضت به المحكمة على الخصم من غرامات بسبب تعطيل الفصل في الدعوى وعدم الامتثال لقراراتها وأوامرها).
الوجه الثاني: وجوب الحكم بمصاريف التقاضي من تلقاء المحكمة ذاتها
اوجب قانون المرافعات على المحكمة أن تحكم بتحميل المحكوم عليه مصاريف التقاضي من تلقاء ذاتها ومن غير حاجة إلى أن يطلب الخصم من المحكمة ذلك، وفي هذا الشأن نصت المادة (258) مرافعات على أنه (يجب على المحكمة من تلقاء نفسها أن تحكم بإلزام المحكوم عليه بالنفقات في الحكم الذي تنتهي به الخصومة امامها ، وإذا اخفق كلٍ من الخصمين في بعض الطلبات تقسم المحكمة النفقات بينهما بنسبة المحكوم به على كلٍ منهما ، وإذا تعدد المحكوم عليهم بالنفقات أو المحكوم لهم بها قسمت بالتساوي بينهم أو بحسب ما تقرره المحكمة ولا يلزم المحكوم عليهم بالتضامن إلا إذا كانوا متضامنين في أصل المحكوم به).
فالظاهر من هذا النص انه يفيد الوجوب ، لان صيغة النص تفيد ذلك (يجب على المحكمة) ، وقيام المحكمة بالحكم بمصاريف التقاضي من تلقاء ذاتها على هذا النحوالوارد في النص السابق يعد استثناء من قاعدة : عدم جواز الحكم بما لم يطلب الخصوم المقررة في المادة (221) مرافعات التي نصت على أنه (ولا يجوز للمحكمة ان تحكم بما لم يطلبه الخصوم) ، وفيما قرره النص السابق دليل على أن الغاية من الحكم بمصاريف التقاضي على المحكوم عليه يتجاوز فكرة إعادة المبالغ التي تكبدها المحكوم له، إذ أن الحكم بالمصاريف القضائية على هذا النحو يتضمن معنى ردع نازع اللدد والخصومة لدى المحكوم عليه.
الوجه الثالث: المحكوم عليه هو الذي يتحمل مصاريف التقاضي وفقاً للقانون
بموجب أحكام المادة (258) مرافعات السابق ذكرها فإن المحكوم عليه هو الذي يتحمل مصاريف التقاضي، لأن القانون افترض أن المحكوم عليه هو المتعنت في دعواه أو في دفاعه لدعوى خصمه، فلا ريب أن المحكوم عليه كان يعرف منذ البداية او اثناء سير إجراءات التقاضي أنه غير محق في دعواه أو دفاعه لدعوى خصمه ، أو كان بوسع المحكوم عليه ان يعلم ذلك عن طريق محاميه ومستشاريه القانونيين، ومع هذا وذاك فقد مضى المحكوم عليه في إجراءات التقاضي حتى صدر الحكم عليه.
فقد كان بوسع المحكوم عليه أن يسلم بحق خصمه منذ علمه باحقية خصمه المحكوم له من غير حاجة إلى تداعي أمام القضاء أو من الاستمرار في عناده وخصامه امام القضاء، ولذلك فقد كان تعنت المحكوم عليه وعناده وإمتناعه عن التسليم بحق المحكوم له هو الباعث والدافع للمحكوم للجوء إلى القضاء ومواصلة إجراءات المحاكمة حتى صدور الحكم لصالحه كان الباعث على ذلك ، فلو كان المحكوم عليه قد أذعن لصوت الحق والعدل لما لجاء المحكوم له إلى القضاء ولماسار في إجراءات التقاضي حتى صدور الحكم لصالحه، فالسبب يرجع إلى المحكوم عليه.
الوجه الرابع: الخصومة والقرابة في القضاء اليمني
من سنن الله واياته الكونية وجود الخصومة ووجود القرابة ، ولا ريب أنه من المفترض وفقاً لأحكام الشرع أن يكون هناك تنافي بين الخصومة والقرابة، فالمفترض أن لا تكون هناك خصومات بين الأقارب، إلا أن الخصومة بين الأقارب موجودة في عمق التاريخ البشري فقد وجدت الخصومة بين ابني آدم عليه السلام التي وصلت إلى القتل ، قال تعالى {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: (30)].
ومن بعد هذه الحادثة المروعة تسلسلت واتصلت الخصومات بين الأقارب حتى يومنا هذا، لكن الأمانة العلمية تقتضي القول: أن خصومات المتقدمين من اليمنيين كانت أكثر انضباطاً والتزاماً من الخصومات المنفلتة بين المتأخرين من اليمنيين بسبب كثرة الورع والدين بين المتقدمين وقلته بين المتاخرين.
ذكرت هذا بمناسبة أن عبارة (يتحمل كل طرف غرامته أو نفقاته للقرابة بين الطرفين) كانت هذه العبارة ترد في ذيل الأحكام القديمة الصادرة في إب وذمار وحجة وصعدة حسب مطالعتي الكثيرة للاحكام، فقد كان الحق يلتبس في الماضي على الأقارب فيختصموا أمام القضاء التماساً للحق الذي التبس عليهم ، ولذلك كان قضاتنا المتقدمين يختموا أحكامهم بعبارة (يتحمل كل طرف غرامته للقرابة) ، هذا قبل صدور قانون المرافعات الذي صرح بوجوب الحكم بتحميل المحكوم عليه وحده بالمصاريف القضائية، ومن الأحكام القديمة الصادرة قبل صدور قانون المرافعات تسربت هذه العبارة إلى بعض أحكام القضاء اليمني الحديثة الصادرة بعد صدور قانون المرافعات مثلما قضى الحكم محل تعليقنا.
اما في الوقت الحاضر بعد أن طغى حب الدنيا والمال على الناس واعمى الأبصار والبصائر فقد اصبحت القرابة أمر ثانوي عند التزاحم والتخاصم على المال والصراع عليه، فأصبح القريب يكيد بقريبه ويحرص على إهانته وإذلاله وحبسه وتكبيله، ويدفع القريب الأموال الطائلة للوصول إلى هذه الغاية، فأصبحت خصومات الأقارب منفلتة لا يحكمها دين ولا ضمير، وساحات المحاكم خير شاهد على الخصومات التي تعصف بالقرابة والأقارب ، وتبعاً لذلك لم يعد هناك محل في الوقت الحاضر لأن يذكر القاضي في منطوق حكمه عبارة (يتحمل كل طرف مصاريفه للقرابة) ، لأن هذه العبارة تخالف النص القانوني السابق ذكره الذي اوجب الحكم على المحكوم عليه بالمصاريف القضائية من غير تفرقة بين القريب والبعيد ، فلو كان للقرابة إعتبار لما وصل الخصوم الاقارب إلى المثول أمام القضاء، والله اعلم.