التعاقد بالمراسلة
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
اجاز
الفقه الإسلامي والقانون المدني اليمني التعاقد عن طريق الكتابة الذي يتم عن طريق
قيام الموجب بكتابة صيغة الإيجاب وقيام القابل بالتعبير عن قبوله للإيجاب كتابة
بدلاً عن التلفظ بصيغة الايجاب والقبول، كما اجاز الفقه الإسلامي والقانون المدني
اليمني ان يقوم الموجب بإرسال صيغة إيجابه
المكتوبة إلى القابل الذي يكون في مجلس (مكان) اخرغير مجلس الموجب سواءً تم إرسال
صيغة الإيجاب المكتوبة بواسطة رسول (شخص) أو عن طريق وسائل التواصل الموجودة أو
الشائعة في عصر التعاقد ، واجاز الفقه
والقانون أن يعبر القابل عن قبوله بالطريقة ذاتها، ووفقاً للفقه والقانون فإن
العقد ينعقد في هذه الحالة عند قبول الشخص الذي تم إرسال الايجاب إليه ، وينتج
العقد اثره في هذه الحالة عند وصول علم القبول إلى سمع الموجب، وقد يقوم الموجب
بارسال صيغة العقد المتضمن ايجابه بعد التوقيع عليه من قبله فيقوم القابل بالتوقيع
على العقد عند وصوله إليه فينعقد العقد ،كما
قد يكتفي الموجب بارسال رسالة مكتوبة تتضمن ايجابه فقط وعند وصول الرسالة إلى القابل يقوم بالرد
عليها بانه قد قبل الايجاب كما هو فينعقد العقد ، وقد يكون رد القابل في رسالة
الموجب ذاتها أو في رسالة مستقلة ، والمقصود بالتعاقد بالمراسلة التعاقد بواسطة الرسائل الورقية أو التعاقد عن
طريق الرسائل الكترونية بواسطة الهاتف الجوال أو الايميل وغير ذلك من الوسائط
الكترونية.(فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبدالمؤمن شجاع
الدين، ص87).
بيد
أنه ينبغي عند التعاقد عن طريق المراسلة مراعاة الضوابط اللازمة، فضلاً عن أن هناك
بعض العقود تمنع القوانين المعاصرة إبرامها عن طريق المراسلة كعقد الزواج وعقد
الرهن وعقد البيع العقاري..الخ، وقد اشار إلى هذه المسألة المهمة الحكم الصادر عن
الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 28/12/2009م في الطعن
رقم (36447)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: ((والبين أن الشعبة التجارية
قد فصلت في تلك الأسباب التي اعاد الطاعن إثارتها فيما يتعلق بشأن إحتجاجه بالمحرر
المشار إليه مؤكدة أنها في غير محلها ولا تقوم على أي سند من القانون وتحققت الشعبة
من أن المحرر المشار إليه الذي احتج به الطاعن لا تتوفر فيه الشروط المنصوص عليها
بالمواد (984 و 995 و 994) مدني ، ذلك أن هذه المواد قد تضمنت شروط إنعقاد الرهن
بالتراضي وانه لا يلزم إلا بالقبض أو التخلية، وبالعودة إلى ذلك المحرر محل إحتجاج
الطاعن يتضح أنه محرر من طرف واحد (رسالة) لم تتلاقى فيه إرادة طرفيه حتى يمكن
القول بإنعقاد الرهن، فالمحرر بمثابة إقرار من المطعون ضده بان في ذمته للطاعن
مائة ألف دولار، والمعلوم أن الرهن عقد على عين يستحق المرتهن إستمرار قبضها لإستيفاء
مال، فلا تترتب آثار عقد الرهن إلا بتوافق إرادة طرفيه بموجب عقد صحيح تتوفر شروطه
المعتبرة قانوناً، وذلك المحرر بحق لا تنطبق عليه شروط عقد الرهن، فتمسك الطاعن
بذلك المحرر ومجادلته بالإحتجاج به أنه عقد رهن غير صحيح، وهذا السبب يكفي بذاته
في رفض طلبه، أما إحتجاج الطاعن بالمادة (154) مدني التي تنص على أنه (يتم العقد
بواسطة وسائل الإتصالات السلكية واللاسلكية طالما توفرت فيها الصفة القانونية
المقبولة قانوناً، فما اشارت إليه المادة مسلم به أن العقود تصح
بالمراسلة بالكتابة وبوسائل الإتصالات، غير أن هذا النص لاينطبق على ذلك
المحرر محل الإحتجاج، لان فحوى الفاظه
واضحة فهو إقرار بالمديونية وإن ذكر فيه عرض الرضا بالرهن غير أنه لم يكن صادراً
عن مقدمات تلاقت فيها إرادة الطرفين على إنشاء العقد بموجب المراسلة بالكتابة أو
الإتصالات، والفاظ المحرر لا تحتمل ذلك حسب إحتجاج الطاعن، فلا يعني إنشاء العقود
بالمراسلة الخروج عن ضوابط إبرام العقود الشرعية ومنها عقد الرهن، ومن ثم فإن ما
توصلت إليه الشعبة في حكمها بتأييد الحكم الابتدائي موافق لأحكام القانون))،
وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الاول: التعاقد بالمراسلة في الفقه الإسلامي:
ذهب الحنفية إلى أن الركن الوحيد للعقد هو صيغة
العقد (الإيجاب والقبول) اما عدا ذلك فيكون من شروط العقد ، في حين ذهب جمهور
الفقهاء إلى أن أركان العقد ثلاثة: الصيغة (الإيجاب والقبول) والعاقدان (الموجب
والقابل) ومحل العقد كالمبيع والثمن، ولاريب أن صيغة العقد (الإيجاب والقبول) هي
الركن الأهم من أركان العقد، ولذلك فقد أهتم الفقه الإسلامي بصيغة العقد وتوسع في
بحثها من شتى جوانبها المختلفة ، ومن ذلك شرط ان تتضمن صيغة الايجاب كافة التفاصيل
والاوصاف الدقيقة لمحل العقد حتى يكون يتحقق
العلم النافي للجهالة للعاقد والشئ
المتعاقد عليه وعوضه أو مقابله حتى يكون القابل على بينة من امره عند قبوله للايجاب ، فيكون حينئذ عالما علما
نافيا للجهالة بالشئ محل العقد بكافة اوصافه وصفاته وعوضه ووجود الشي المتعاقد
عليه وملكية الموجب له.(فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبد المؤمن شجاع
الدين، ص87).
وفي سياق
بحث الفقهاء لصيغة العقد بصفة عامة فقد اجاز الفقهاء للمتعاقدين أن يعبروا عن
إيجابهم وقبولهم عن طريق الكتابة حتى ولو لم يكن المتعاقد اخرساً، لأن الكتابة
اضبط وأدق في دلالتها على إرادة المتعاقد شريطة أن يتم قراءة الكتابة بصوت مسموع
عند التعاقد أي عند قبول القابل حتى يسمعها الشهود فيشهدوا على ذلك، ومن جانب آخر
فقد اجاز الفقه الإسلامي التعاقد بالمراسلة عن طريق رسول يحمل الإيجاب الشفهي ، ومن
باب أولى فقد اجاز الفقه أن يقوم الموجب بإرسال إيجابه المكتوب إلى القابل أو
العكس سواءً عن طريق رسول أو أية وسيلة تدل على صحة نسبة الإيجاب إلى الموجب
والقبول إلى القابل، وعلى هذا الأساس فقد أقرت المجامع الفقهية الإسلامية في العصر
الحاضر جواز التعاقد بالمراسلة. (فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د.
عبد المؤمن شجاع الدين، ص89).
الوجه الثاني: التعاقد بالمراسلة في القانون المدني اليمني:
اجاز القانون المدني اليمني للمتعاقد أن
يعبر عن إرادته بالكتابة حسبما ورد في
المادة (148) مدني التي نصت على أن (التعبير عن الإرادة يكون باللفظ أو
بالكتابة...إلخ)، وكذا نصت المادة (151) مدني على أنه (يصح التعبير باللفظ أو الكتابة
مطلقاً...إلخ)، ومن خلال إستقراء النصين السابقين يظهر أن القانون المدني اليمني
قد استهدى بما ورد في الفقه الإسلامي، فقد اجاز القانون المدني لأطراف العقد
التعبير عن إراداتهم عن طريق الكتابة أي كتابة الإيجاب في وثيقة سواءً أكانت رسالة
خطية مكتوبة على الورق أو رسالة مكتوبة عن طريق الوسائل الكترونية الحديثة
كالإيميل أو الرسائل النصية بالهاتف أو عن طريق الواتساب أو التيليغرام أو غيرها
من وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة، وللتأكيد على هذا المفهوم فقد نصت المادة
(154) مدني على أن (يتم العقد بواسطة كل وسائل الإتصالات السلكية واللاسلكية طالما
توفرت فيها الصفة الوثائقية المطلوبة).
ونخلص من هذا الوجه الى القول: أن القانون المدني
اليمني قد اجاز التعاقد عن طريق الرسائل الخطية والرسائل الموجهة عن طريق وسائل
ووسائط التواصل الكترونية الحديثة.
الوجه الثالث: كيفية إنعقاد العقد عن طريق المراسلة:
قد
يقوم الموجب بارسال صيغة العقد المتضمن ايجابه بعد التوقيع عليه من قبله فيقوم
القابل بالتوقيع على العقد عند وصوله إليه فينعقد العقد ،كما قد يكتفي الموجب
بارسال رسالة مكتوبة تتضمن ايجابه فقط
وعند وصول الرسالة إلى القابل يقوم بالرد عليها بانه قد قبل الايجاب كما هو فينعقد
العقد ، وقد يكون رد القابل في رسالة الموجب ذاتها أو في رسالة مستقلة ، والمقصود
بالتعاقد بالمراسلة التعاقد بواسطة
الرسائل الورقية أو التعاقد عن طريق الرسائل الكترونية بواسطة الهاتف الجوال أو
الايميل وغير ذلك.
وينعقد
العقد حين قبول القابل للإيجاب الموجه إليه، إذ ينبغي في الشريعة الإسلامية أن يتم
الإشهاد على إنعقاد وقت التقاء الإيجاب بالقبول، غير أنه لا تترتب على العقد آثاره
إلا عندما يصل علم القبول بالإيجاب إلى سمع الموجب، وفي هذا المعنى نصت المادة
(150) من القانون المدني على أنه (ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي
يتصل فيه بعلم من وجه إليه).
فإذا تم توجيه الإيجاب عن طريق رسالة خطية أو عن
طريق الهاتف فإن العقد ينعقد بما يدل على قبول من وجه إليه الإيجاب أي قبوله
بالإيجاب من غير تحفظ أو شرط فعندئذٍ ينعقد العقد.
الوجه الرابع: إثبات العقد بالمراسلة:
سبق القول أن صيغة الإيجاب والقبول هي الركن الركين في العقد، فإذا كان القبول موافقاً للإيجاب فقد انعقد العقد شريطة أن يكون محل العقد موجوداً وممكناً ومباحاً وأن تتوفر في العاقدين الأهلية الشرعية، اما الكتابة فهي وسيلة من وسائل إثبات العقد، ولذلك فإن إثبات العقد عن طريق المراسلة يتم عن طريق وسائل الإثبات المقررة في الشريعة والقانون وهي الشهادة والإقرار والقرائن والكتابة وغيرها، كما يتم إثبات التعاقد بالمراسلة عن طريق الهاتف أو الايميل باعتباره قرينة قاطعة وهي أن كل ما يصدر من رقم هاتف الشخص أو ايميله هو تعبير عن إرادة الشخص صاحب الهاتف وكذلك الإيميل الشخصي، ويتم إثبات التعاقد عن طريق الرسائل الخطية عن طريق الرسائل الورقية التي تتضمن الإيجاب والقبول وقد لاحظنا ان الطاعن في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا قد اخفق في إثبات العقد ، لأنه كان يتمسك برسالة صادرة من المطعون ضده غير أنها لم تتضمن إيجاباً صريحاً كالقول: بأني قد رهنت لك العقار فقد كان ما ورد في الرسالة هو اقرار المطعون ضده بأنه مدين للطاعن بالمبلغ وأنه سوف يقدم رهناً للطاعن إذا أراد ذلك، وقد اخفق الطاعن في إثبات العقد بالمراسلة ، لأن التعاقد بالمراسلة يقتضي أن يكون الإيجاب في الرسالة صريحاً كأن يكتب الموجب في الرسالة: لقد بعتك داري الكائنة في مكان كذا بمبلغ كذا فيرد المشتري على هذه الرسالة كتابة أو لفظاً بالقول: لقد قبلت شراء دارك الكائن بكذا بمبلغ كذا.
الوجه الخامس: عقود يمتنع إنعقادها عن طريق المراسلة:
اجازت الشريعة الإسلامية الغراء وكذا القانون
اليمني المستمد منها اجازا التعاقد عن
طريق المراسلة بصفة عامة أي في سائر العقود، غير أن الشريعة الاسلامية اجازت لولي
أمر المسلمين(الدولة) تنظيم مصالح المسلمين بما يحقق لها المصالح ويدفع عنها المفاسد،
ومن هذا المنطلق يحق لولي أمر المسلمين (الدولة) أن تضع إجراءات تنظيمية عند إبرام
العقود لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، ولذلك فقد قررت الدولة عن طريق القوانين
واللوائح إجراءات تنظيمية خاصة ببعض العقود كعقد الرهن الذي اشار إليه الحكم محل
تعليقنا، فوفقاً لقانون السجل العقاري فإن عقد الرهن ينبغي أن يتم بموجب العقد
الرسمي الذي تعده الجهة الرسمية المختصة (الهيئة العامة للأراضي والسجل العقاري).
وقد اشترط القانون المشار إليه أن يتم تسجيل عقد
الرهن في السجل العقاري، ولذلك فإن عقد الرهن لا ينعقد بالمراسلة ، فمن اللازم أن
يكون الراهن والمرتهن أو وكيلهما حاضراً.
كذلك الحال بالنسبة لعقد الزواج ، فمع أن الفقه الإسلامي قد اجاز إنعقاده عن طريق الكتابة والمراسلة غير أن القوانين ذات الصلة كقانون التوثيق ولائحته التنفيذية قد اشترطا حضور الولي العاقد والزوج المعقود عليه أو وكيلهما حضورهما في مجلس عقد الزواج ، لما لعقد الزواج من أهمية وشكلية، ولأنه عقد ديني وتحوطاً للإبضاع، لذلك فأنه من غير المقبول في الوقت الحاضر القول بإنعقاد عقد الزواج عن طريق المراسلة ، لما لذلك من مفاسد جمة. (الوجيز في شرح أحكام الأسرة، أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين، ص56)، والله اعلم.
![]() |
التعاقد بالمراسلة |