الإستدلال بالأحكام الأجنبية أمام القضاء الوطني
في بعضِ الحالاتِ يستدلُّ الخصومُ أمامَ القضاءِ اليمنيِّ بالأحكامِ الصادرةِ عن المحاكمِ الأجنبيَّةِ، ويكونُ الإستدلالُ بها مفيدًا حينما تكونُ النصوصُ القانونيَّةُ في القوانينِ الأجنبيَّةِ مماثلةً للنصوصِ القانونيَّةِ اليمنيَّةِ، لأنَّ القيمةَ العلميَّةَ للإستدلالِ بالأحكامِ الصادرةِ عن المحاكمِ الأجنبيَّةِ تكمن في بيان كيفيةُ إعمالِ القاضي للنصِّ القانونيِّ الأجنبيِّ المماثلِ للنصِّ اليمنيِّ وفهمه للنص وتطبيقه للنص القانوني على التصرف أو الواقعة المنظورة أمام القاضي ، فذلك مفيدٌ للغايةِ ، لأنَّ النصَّ القانونيَّ أو القاعدةَ القانونيَّةَ من خصائصِها أنَّها عامَّةٌ ومجرَّدةٌ يتمُّ تطبيقُها على ملايينِ الوقائعِ والأشخاصِ، بيدَ أنَّه إذا اختلفَ النصُّ القانونيُّ الأجنبيُّ عن النصِّ اليمنيِّ فإنَّه لا مجالَ للإحتجاجِ بالحكمِ الأجنبيِّ، لأنَّ أساسَه نصٌّ قانونيٌّ أجنبيٌّ مغايرٌ للنصِّ اليمنيِّ، حسبَ ما قضى الحكمُ الصادرُ عن الدائرةِ الدستوريَّةِ بالمحكمةِ العليا في جلستِها المنعقدةِ بتاريخِ 3/10/2001م في الدعوى الدستوريَّةِ رقم (1) لسنةِ 1420م، وقد وردَ ضمنَ أسبابِ الحكمِ المشارِ إليه ((أنَّ الدفعَ بعدمِ قبولِ الدعوى أمامَ المحكمةِ العليا لدعوى مبتدأةٍ مردودٌ عليه من جهتين؛ الجهةُ الأولى: كونُه مؤسَّسًا على تشريعاتٍ وأحكامٍ قضائيَّةٍ أجنبيَّةٍ وهذا ممتنعٌ العملُ بها بحكمِ المادة (8) مرافعاتٍ، والجهةُ الثانية: مخالفتُه للمادةِ (153) من الدستورِ والمادةِ (19) من قانونِ السلطةِ القضائيَّةِ))، وسيكونُ تعليقُنا على هذا الحكمِ حسبَ ما هو مبينٌ في الأوجهِ الآتية:
الوجهُ الأولُ: الإتفاقُ والإختلافُ بينَ النظمِ القانونيَّةِ:
يهدفُ القانونُ في دولِ العالمِ أجمعَ إلى تنظيمِ العلاقاتِ والمعاملاتِ بين أفرادِ المجتمعِ وحمايةِ الحقوقِ والحرياتِ والمصالحِ العامةِ والخاصةِ، كما يُحققُ القانونُ الفهمَ المشتركَ الجمعيَّ لأفرادِ المجتمعِ للحقوقِ والحرياتِ والمصالحِ بما يكفلُ عدمَ تصادمِ المصالحِ وتعارضِها، ولذلك فإنَّ فكرةَ القانونِ فكرةٌ ساميةٌ، وقبلَ تشريعِ القوانينِ جاءتِ الشريعةُ الإسلاميَّةُ خاتمةً وجامعةً للدياناتِ السماويَّةِ، فقد اشتملت الشريعة الاسلامية على كل الاحكام والمعاملات التي يحتاج اليها الإنسان قال تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، ولذلك فقد قامَ الفقهُ الإسلاميُّ بإستنباطِ الأحكامِ الفقهيَّةِ العملية من القرآنِ الكريمِ والأدلةِ الشرعيَّةِ الأخرى والترجيح بين اقوال الفقهاء واختيار القول الراجح منها حتى يمكن تطبيق الحكم الشرعي العملي ، كما قامَ فقهاءُ الشريعةِ الإسلاميَّةِ بتبويبِ الأحكامِ الفقهيَّةِ وترتيبِها حتى يسهل الرجوع إلى الحكم الشرعي وتطبيقه ، وعلى غرارِ ذلك قامَ لاحقا رجالُ القانونِ بتبويبِ نصوص القوانينِ وترتيبِها على غرارِ ترتيبِ الفقهاءِ للأحكامِ الفقهيَّةِ، وقد كانتْ اليمنُ بحقٍّ هي الدولةَ الرائدةَ على مستوى العالمِ الإسلاميِّ قاطبةً التي قامتْ بتقنينِ أحكامِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ في قوانينَ اتخذتِ المسمياتِ العالميَّةَ للقوانينِ والتشريعاتِ لكنْ مضمونُ النصوصِ القانونيَّةِ اليمنية مستندٌ من أحكامِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ ووفقًا للدليلِ الشرعيِّ القويِّ (تقنينُ أحكامِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ، أ.د. عبدُ المؤمنِ شُجاعُ الدينِ، ص9).
وتتشابهُ إلى حد كبير القوانينُ المعاصرةُ في أغلبِ دولِ العالمِ بل إنَّها تتماثلُ بحسبِ تماثلِ وتشابهِ الأحوالِ الدينيَّةِ والفكريَّةِ والإقتصاديَّةِ والإجتماعيَّةِ في الدولِ المختلفةِ، وتنقسمُ القوانينُ المعاصرةُ في دولِ العالمِ إلى مجموعاتٍ منها مجموعةُ التشريعاتِ الجرمانيَّةِ التي تعتمدُ على النصوصِ المكتوبةِ والمجموعةُ الأنجلوسكسونيَّةُ التي تعتمدُ على السوابقِ القضائيَّةِ ومجموعةُ التشريعاتِ الإشتراكيَّةِ. (أصولُ القانونِ المقارنِ، أستاذُنا المرحومُ الأستاذُ الدكتورُ جميلُ الشرقاويِ.، ص172).
ويتولى الفقه القانوني في دول العالم المختلفة شرح النصوص القانونية العامة والمجردة حتى يسهل تطبيق النصوص القانونية ، كما يقوم الفقه القانوني بالمقارنة بين النصوص القانونية الوطنية والنصوص القانونية في الدول الأخرى للاستفادة من التجارب والخبرات القانونية الدولية.
وعند قيام المحامين بالترافع أمام القضاء في مختلف دول العالم يرجع المحامون إلى الشروح المتعددة للقوانين والسوابق القضائية لبيان صحة مواقف موكليهم ولتنوير القضاة وإعانتهم لتطبيق النصوص القانونية.
ولذلك فان الحكم القضائي في دول العالم المختلفة يكون حديقة غناء تشتمل على النصوص القانونية وشروحها والسوابق القضائية التي تتم مناقشتها من قبل الخصوم والقضاة، ومن هذه الناحية تظهر القيمة العلمية للحكم ودوره في احتجاج الغير به.
الوجهُ الثاني: إعمالُ القاضي وتطبيقُه للنصوصِ القانونيَّةِ:
في المجموعةِ الشرائعيَّةِ التي تعتمدُ على النصوصِ القانونيَّةِ المكتوبةِ، وهي المدرسةُ التي تنتمي إليها الغالبيَّةُ العظمى لدولِ العالمِ ومنها اليمن، في هذه المجموعةِ تُصاغُ النصوصُ القانونيَّةُ صياغةً عامَّةً مجرَّدةً مرنةً ومناسبةً حتى يسهلَ تطبيقُ النصوصِ القانونيَّةِ على أفرادِ المجتمعِ الحاليينَ وما يأتي بعدهم لمدةٍ قد تصلُ إلى أكثرَ من خمسينَ عامًا حتى تكونَ للقواعدُ القانونيَّةُ صفةِ الثباتِ فتستقرَّ معهاَ المراكزِ القانونيَّةِ لأفرادِ المجتمعِ خلالَ مدةٍ مناسبةٍ . (مهاراتُ الصياغةِ القانونيَّةِ، أ.د. عبدُ المؤمنِ شُجاعُ الدينِ، ص186).
وبما أنَّ النصَّ القانونيَّ عامٌّ ومجرَّدٌ ومرنٌ ومناسبٌ فإنَّه يحتملُ عدةَ أوجهٍ عند تطبيقِه على الوقائعِ أو الأفرادِ بحسبِ إختلافِ الوقائعِ وظروفِ الأفرادِ، وقد أتاحتِ القوانينُ المختلفةُ للقاضي مساحةً واسعةً للإجتهادِ عند تطبيقِه للنصوصِ القانونيَّةِ العامَّةِ المجرَّدةِ المرنةِ على الأفرادِ والوقائعِ المنظورةِ أمامَ القاضي، ويُطلقُ على تطبيقِ القاضي للنصوصِ العامَّةِ والمجرَّدةِ السلطةَ التقديريَّةَ للقاضي، ويتفننُ القضاةُ في اليمنِ وغيرها من دولِ العالمِ في تطبيقِ النصوصِ القانونيَّةِ وبيانِ أوجهِ وأدلةِ وأسانيدِ إنطباقِ النصوصِ على الوقائعِ والأفرادِ عند تماسِهم أو مخالفتِهم للقانونِ ، حيثُ يتبارى القضاةُ في هذا المضمارِ. (نظريةُ القضاءِ، د. محمودُ حشيشٍ، ص114)، غيرَ أنَّ إجتهادَ القاضي عند تطبيقِه النصوصِ القانونيَّةِ مقيدٌ بأوراقِ القضيَّةِ، بمعنى أنَّه يجبُ أن يكونَ لإجتهادِ القاضي أصلٌ في أوراقِ القضيَّةِ، حتى لا يتحولَ القاضي إلى محامٍ للطرفِ المحكومِ له أو عليه، ولاريبَ أنَّ مهاراتِ القضاةِ عندَ تطبيقِ النصوصِ القانونيَّةِ تختلفُ من دولةٍ إلى أخرى بحسبِ التدريبِ والخبراتِ التي يحظى بها القاضي.
الوجهُ الثالثُ: دورُ المحامي في العالمِ (القاضي الواقفِ) في تطبيقِ القضاءِ للقانونِ:
القاضي هو الذي يقومُ حقيقةً بتطبيقِ النصوصِ القانونيَّةِ على الوقائعِ المنظورةِ امامه ِ والأفرادِ الماثلينَ أمامَه، بيدَ أنَّه لا يجوزُ للقاضي من تلقاءِ نفسِه أن يقومَ بدراسةِ النصوصِ القانونيَّةِ وشروحِها ثمَّ تطبيقِها على الوقائعِ والأفرادِ، حتى لو كانَ القاضي يعلمُ علمَ اليقينِ بتطبيقِ النصِّ القانونيِّ على الواقعةِ المنظورةِ فإنَّه لا يجوزُ له أن يقضي بعلمِه الشخصيِّ، وهنا يظهرُ دورُ المحامي في عرضِ الآراءِ والإتجاهاتِ الفقهيَّةِ والقضائيَّةِ بشأنِ علاقةِ النصِّ القانونيِّ بالواقعةِ المنظورةِ أمامَ القاضي ومدى إنطباقِها عليه ،ولهذه الغاية يستشهدُ المحامي المتمرِّسُ بالكتبِ والمراجعِ والسوابقِ القضائيَّةِ المحليَّةِ والعالميَّةِ على إنطباقِ النصِّ القانونيِّ أو عدمِ إنطباقِه، ومن خلالِ تساجُلِ المحامينَ أمامَ القاضي يستبينُ القاضي التطبيقَ السليمَ للنصوصِ القانونيَّةِ على الواقعةِ محلِّ الخلافِ المنظورةِ أمامَ القاضي. (مهاراتُ الصياغةِ القانونيَّةِ، أ.د. عبدُ المؤمنِ شُجاعُ الدينِ، ص66).
الوجهُ الرابعُ: إمكانيةُ الإستدلالِ بالسوابقِ القضائيَّةِ الأجنبيَّةِ أمامَ القضاءِ المحليِّ:
صرَّحَ الحكمُ محلُّ تعليقِنا بأنَّ الإستدلالَ بحكمٍ أجنبيٍّ أمامَ القضاءِ اليمنيِّ لا يجوزُ عندما يكونُ الحكمُ الأجنبيُّ تطبيقًا لنصٍّ يختلفُ عن النصِّ اليمنيِّ، وهذا قضاءٌ سديدٌ، لأنَّ الإستدلالَ بالسابقةِ القضائيَّةِ الأجنبيَّةِ لا يكونُ إلا عندما يتفقُ النصُّ اليمنيُّ مع النصِّ القانونيِّ الاجنبي الذي استندَ إليه الحكمُ الأجنبيُّ.
فالقاضي الوطني متقيد بتطبيق القانون الوطني وليس القانون الاجنبي ، وفي هذا المعنى نصت المادة (8)من قانون المرافعات اليمني على أن (يتقيد القاضي في قضائه بالقوانين النافذة ويجب عليه تطبيق احكامها).
الوجهُ الخامسُ: جوازُ إستدلالِ الفقهِ بالسوابقِ القضائيَّةِ الأجنبيَّةِ حتى لو اختلفت النصوص:
أسدى الفقهُ الإسلاميُّ للفقهِ القانونيِّ العالميِّ خدمةً جليلةً حينما قرَّرَ الفقهُ الإسلاميُّ قواعدَ الإستنباطِ والإستدلالِ والجدلِ والمناظرةِ والمقارنةِ والترجيحِ، حيثُ أخذَ الفقهُ القانونيُّ بهذه القواعدِ والمناهجِ والأساليبِ دونَ أن ينسبَها لصاحبِها وهو الفقهُ الإسلاميُّ، (الفقهُ المقارنُ، أ.د. عبدُ المؤمنِ شُجاعُ الدينِ، ص34).
وقد مثَّلَ الفقهُ الإسلاميُّ الجانبَ المتحولَ في الشريعة الاسلامية الذي يستنبطُ الأحكامَ الفقهيَّةَ من النصوص الثابتة وهي الأدلةِ الشرعية الإجماليَّةِ ،اذ استنبط الفقه الاسلامي من النصوص الشرعية الاحكام الواجب تطبيقهاعلى المستجداتِ والمتغيراتِ التي كانتْ تظهرُ في العصورِ المختلفةِ حتى العصرِ الحاضرِ، فاستطاعَ الفقهُ الإسلاميُّ بتوفيقِ من الله أن يجعلَ الشريعةَ الإسلاميَّةَ صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، فقد كانتْ تتغيرُ إجتهاداتُ الفقهِ الإسلاميِّ بتغيرِ الأزمنةِ والأمكنةِ حتى تكونَ الشريعةُ الإسلاميَّةُ خالدةً تالدة وصالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.
وقد كانَ الفقهُ الإسلاميُّ يؤثرُ ويتأثرُ بالعلومِ والمناهجِ والطرقِ التي كانتْ تظهرُ في مختلفِ العصورِ ومختلفِ الدولِ، فقد تأثرَ الفقهُ الإسلاميُّ بفنِّ الجدلِ والمناظرة الذي كانَ سائدًا لدى فلاسفةِ اليونانِ وبراهمةِ الهندِ منذ العصرِ العباسيِّ ، وقامَ الفقهُ الإسلاميُّ باسلمة فن الجدل والمناظرة وتطويرِه، وقد كان هذا الفن ضمن مقومات ومكونات الفقه والفقهاء في الشريعة الاسلامية حتى اليوم ، في حينِ انقرضَ علمُ الجدلِ لدى اليونانِ والهندِ، فعلم الجدل كان من أهم مكونات علم الخلاف الذي كان الأصل التاريخي للفقه المقارن.(الفقهُ المقارنُ، أ.د. عبدُ المؤمنِ شُجاعُ الدينِ، ص33).
وعلى هذا الأساسِ المتينِ الذي ارساه فقهاءُ المسلمينَ اتبعَ الفقهُ القانونيُّ طريقَ الفقهِ الإسلاميِّ في الإستفادةِ من التطبيقاتِ القانونيَّةِ والقضائيَّةِ في الدولِ المختلفةِ، ومن ذلك السوابقُ القضائيَّةُ حتى لو كانَ أساسُها نصوصًا قانونيَّةً مغايرةً للنصوصِ الوطنيَّةِ. (أصولُ القانونِ المقارنِ، أستاذُنا المرحومُ الأستاذُ الدكتورُ جميل الشرقاويِ، ص92).
فوظيفةُ الفقيهِ وظيفةٌ تنويريَّةٌ لا تقتصرُ على تبصيرِ القاضي بكيفيةِ التطبيقِ السليمِ للنصِّ القانونيِّ ، وإنَّما نشاطُ الفقيهِ أوسعُ نطاقًا من ذلك فهو يُبصِّرُ السلطةَ التشريعيَّةَ الوطنيَّةَ والقضاءَ وأفرادَ المجتمعِ بالإتجاهاتِ القانونيَّةِ القضائيَّةِ السائدةِ في دولِ العالمِ المختلفةِ للإستفادةِ منها في تطويرِ العملِ القانونيِّ والقضائيِّ في المجتمع المسلم.
الوجه السادس: تسبيب الاحكام القضائية وعلاقته بالفقه المقارن:
سبق القول ان الاصل التاريخي للفقه المقارن هو علم الخلاف الذي ظهر بظهور الدين الاسلامي الحنيف ، اذ كان علم الخلاف أو الفقه المقارن يعتمد في منهجيته على عرض اقوال الفقهاء المختلفة ومناقشة ادلتهم والموازنة والترجيح بينها واختيار الراجح منها بعدل وانصاف بعيدا عن التعسف والتعصب ، وهذا المنهج هو المنهج ذاته الذي يتبعه القاضي المعاصر عند تسبيبه للحكم القضائي. (الفقه المقارن، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين،ص 26). والله أعلم.
![]() |
الإستدلال بالأحكام الأجنبية أمام القضاء الوطني |