وقت قبول الخصم لطلب اليمين
إذا قام الخصم بتوجيه اليمين إلى خصمه فأنه يكون قد احتكم إلى دين وضمير خصمه الذي وجه إليه اليمين ولم يعد محتكما إلى عدالة المحكمة ، فإرادة الخصم الذي وجه اليمين قد اتجهت إلى حسم الخلاف فيما بينه وبين خصمه محتكما إلى خصمه، وهذا الامر يستلزم من الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه تحديد موقفه بعد توجيه اليمين إليه مباشرة ، فان قبل اداء اليمين فعندئذٍ يتم تحديد الحق أو الواقعة التي سيتم الحلف عليها وكذا تحديد صيغة اليمين المناسبة بحسب الإجراءات المحددة في قانون الإثبات اليمني وبما لايخالف الشريعة والقانون وبما يطابق الواقعة اوالحق أو الشي محل الخلاف حتى تكون اليمين مطابقة لمحل الخلاف فتحسمه اليمين ولذلك تسمى اليمين الحاسمة، اما إذا لم يصرح الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه بقبول اليمين بعد توجيه اليمين إليه فإن موقفه هذا يعد نكولاً عن أداء اليمين، لأن نص المادة (143) من قانون الاثبات اليمني قد تضمنت عبارة (كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها) فالفاء في هذا النص هي فاء التعقيب التي تفيد الفورية أي انه يجب على الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه بعد سماعه لطلب خصمه لليمين يجب عليه بعد سماعه للطلب مباشرة التعبير اللفظي الصريح بقبوله لطلب اليمين، واذا قبل الخصم طلب اليمين فلايحق لطالب اليمين العدول عن طلبه اليمين.
اما إذا سكت الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه بعد سماعه للطلب فإن ذلك يعد امتناعا عن اداء اليمين وهو مايسمى النكول عن أداء اليمين، وفي هذه الحالة لا يجوز له الرجوع عن نكوله، فيتم إعتباره ناكلاً، وتترتب عليه الآثار المترتبة على النكول ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 4-1-2010م في الطعن رقم (35823)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: ((وحيث أن الحكم الاستئنافي لم يرتب على النكول الآثار المترتبة على النكول ، وحيث أن الطعن للمرة الثانية والقضية صالحة للفصل فيها فيما يتعلق بمطالبة الطاعن بقيمة الشيكين وانها دين في ذمة المطعون ضده ، وبما ان الطاعن قد احتكم إلى ضمير المطعون ضده فيما يدعيه باليمين الحاسمة التي وجهها الطاعن إلى المطعون ضده أمام الشعبة التجارية فنكل المطعون ضده عنها ولم يردها ، وقد ثبت النكول بإمتناع المطعون ضده عن أداء اليمين ، وهو بمثابة نكول صريح عن اليمين يترتب عليه القضاء للطاعن بمطلبه وهي قيمة الشيكين لثبوت قيمة الشيكين ديناً في ذمة المطعون ضده بنكول المطعون ضده عملاً بأحكام المادتين (143 و 144) إثبات ، فقد نصت المادة (143) إثبات على أنه (كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها دون أن يردها على خصمه وكل من ردت عليه اليمين فنكل عنها خسر الدعوى فإن كان المدعى عليه حكم للمدعي بطلباته...إلخ) ، ويلاحظ في عبارة (كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها) ، يلاحظ أن حرف (الفاء) في: فنكل من حروف العطف يقتضي الفورية دون مهلة))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية قبول الخصم اليمين:
هو التعبير الصريح باللفظ من الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه ، وذلك بقبوله أو موافقته على أداء اليمين الموجهة إليه بشأن المال أو الحق أو الواقعة محل النزاع فيما بينه وبين خصمه، ويجب أن يكون القبول بأداء اليمين بلفظ صريح ، فلا يكون السكوت قبولاً حتى لا يلتبس قبول أداء اليمين بالنكول عن اليمين، لأن النكول عن اليمين يقع بمجرد إمتناع الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه ، ويندرج السكوت ضمن مفهوم الامتناع، وفقا للمادة (143) إثبات التي استند إليها الحكم محل تعليقنا فقد نصت هذه المادة على أن (كل من وجهت إليه اليمين فنكل دون أن يردها على خصمه وكل من ردت عليه اليمين فنكل عنها خسر الدعوى، فإن كان المدعى عليه حكم للمدعي بطلباته وإن كان المدعي حكم برفض دعواه) ، فالظاهر من هذا النص أن مجرد إمتناع الخصم عن أداء اليمين يكون نكولاً عنها وان السكوت بمثابة إمتناع ، ولذلك صار من اللازم على الخصم الذي يريد قبول أداء اليمين الموجهة إليه يجب عليه أن يصرح بقبوله بلفظ صريح أو كتابة صريحة بما يفيد موافقته الصريحة لطلب اليمين حتى لا يلتبس قبول اليمين بالنكول عنها.
الوجه الثاني: وقت قبول الخصم أداء اليمين:
وفقاً للمادة (143) إثبات السابق ذكرها ، فأنه يجب على الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه إذا كان قابلاً لأداء اليمين ، فأنه يجب عليه التعبير بلفظه أو كتابة عن قبوله صراحة فور توجيه اليمين إليه أو بعد توجيه اليمين إليه وسماعه لطلب اليمين مباشرة ، فالفاء الواردة في عبارة (فنكل عنها) دون أن يردها) الواردة في المادة (143) السابق ذكرها تفيد التعقيب، فالفاء المذكورة في جملة (فنكل عنها) قد جاءت في النص المشار إليه عقب توجيه اليمين ، ولذلك فأنها تفيد التعقيب، أي انه يجب الخصم السامع لطلب خصمه يجب عليه قبولها عقب سماعه لها اي فور سماعه لها ، ففاء التعقيب المذكورة في النص السابق تختلف عن فاء الاستئناف التي تفيد إستئناف الكلام، وتختلف أيضا عن فاء السببية التي تفيد التعليل وبيان الأسباب، فالفاء عندما تكون للتعقيب فأنها تفيد الفورية أي فور الإنتهاء من الأمر السابق عليها، فكلمة (فنكل عنها) الواردة في النص السابق جاءت بعد توجيه اليمين إلى الخصم ، ولذلك فأنه يجب على الخصم الذي يريد قبول أداء اليمين أن يعبر عن ذلك صراحة بلفظ أو كتابة بعد سماعه لطلب اليمين وإلا فأنه ناكل عن أداء اليمين أي ممتنع عن أدائها، لأن السكوت في هذه الحالة امتناع وليس رضاء،واذا قبل الخصم طلب اليمين فلايحق لطالب اليمين العدول عن طلبه اليمين.
الوجه الثالث: فاء التعقيب ووظائفها في اللغة العربية:
كان جانب من النقاش في الحكم محل تعليقنا بشان فاء التعقيب ووظائفها في اللغة العربية وكيفية استفادة القاضي منها عند تطبيقه للنصوص القانونية ، وفي هذا الخصوص جاء في لسان العرب لابن منظور مادة (عقب) باب (الفاء) : أمّا الفاء العاطفة فمعناها التعقيب، وتفيد الترتيب، تقول: قام زيد فعمرو، فدلت (الفاء) على أن قيام عمرو بعد زيد، بلا مهلة. يريد: يكبر. ومعنى زيادتها: أنها غير عاملة، وأن الكلام يستغني عنها، ولا ينقص معناه بحذفها، وتزاد لإفادة التوكيد وتقوية الكلام.
والفاء هي ثاني حروف العطف العشرة، وهي أيضًا ثاني الحروف العاطفة التي تدلُّ على اشتراك ما قبلها وما بعدها في الإعراب والمعنى، وهي تُفيد - مع التشريك في الإعراب والمعنى - معنيين آخرين، هما: التعقيب، ومعناه: أن يكون المعطوف واقعًا عقب المعطوف عليه مباشرةً، بلا تراخٍ، ولا مهلة؛ أي: دون مدة طويلة مِن الزمن تفصل بين وقوعهما.
كما أن الفاء تفيد الترتيب، ومعناه: أن الاسم الذي يأتي قبل حرف العطف (المعطوف عليه) يَحدُث أولًا، والاسم الذي يأتي بعد حرف العطف يحدث بعده؛ أي: أن يكونَ الاسم المعطوف بالفاء متأخِّرًا عن المعطوف عليه.
كما تفيد الفاء التشريك في المعنى: مثل : جاء سعيد فعلي ،فإن حرف العطف (الفاء) قد دلَّ على أن سعيدًا وعليًّا قد اشتركا في المجيء.
وتفيد الفاء الترتيب والتعقيب؛ وذلك لأن المعنى أن عليًّا جاء أولًا، وسعيدًا جاء بعده مباشرةً، وبلا مهلة بين مجيئهما.
وتفيد الفاء ايضا التسبُّب؛ أي: أن يكون المعطوف متسببًا عن المعطوف عليه، ويكون هذا في عطف الجمل كقولنا: سها المصلي فسجد للسهو - رمى الصائد الطائر فقتله - زنى الرجل فرجم، ومن ذلك في كتاب الله قوله تعالى: ﴿ فَوَكَزَهُمُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ [القصص: 15] وقوله سبحانه: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37]
واالترتيب الذي تفيده الفاء نوعان:
النوع الأول ترتيب ذكري، وهو: وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما، لا بحسب زمانهما؛ نحو: حدثنا المحاضر عن أبي بكر، ، فعمر فعلي رضي الله عنهم.
النوع الثاني: ترتيب معنوي، وهو: أن يكون زمن تحقُّق المعنى في المعطوف متأخِّرًا عن زمن تحقُّقه في المعطوف عليه، كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾ [عبس: 21]، فالإقبار بعد الإماتة، وليس بينهما وقت طويل.
والفرق بين الفاء الاستئنافية والعاطفة هو ان حرف الفاء من حروف العطف مبني على الفتح يعطف كلمة على كلمة أو جملة على جملة ويفيد الترتيب والتعقيب، كقولنا: دخلَ سامي فأحمد، وتفيد السبب أيضًا في الجمل مع الترتيب والتعقيب، كقولنا: نام كثيرًا فاستيقظَ ، أما الفاء الاستئنافية فهي حرف استئناف تدخل على الجملة ولا تؤثر فيها، فالكلام الذي يليها لا علاقة له بما سبقها، ومثال عليها قولنا: أريدُ أن تأتيني، فتبارك لي.
وغالب إستعمال الفاء هو التعقيب الذي يفيد حصول الشئ المعطوف من غير مهلة حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
الوجه الرابع: وقت قبول الخصم اليمين ووقت الأداء الفعلي لليمين:
إذا كانت جملة (فنكل عنها) قد دلت على وجوب تعبير الخصم الذي وجهت إليه اليمين عن قبوله أداء اليمين فور توجيهها إليه، بيد أنه لا يجب عليه أن يؤدي اليمين فور توجيه اليمين إليه، إذ يجب على الخصمين أن يحددا بدقة الواقعة أو الحق المطلوب أداء اليمين عليه كما ينبغي تحديد صيغة اليمين فإن اختلف الخصوم في هذا الشان قامت المحكمة بتحديد صيغة اليمين بما يطابق الشي محل الخلاف وبما يطابق الشرع والقانون، والغالب أن يقوم الخصم طالب اليمين بإعداد صيغة اليمين المطلوبة غير أن هذه الصيغة تخضع لرقابة محكمة الموضوع التي تتولى مراجعة صيغة اليمين وتعديلها بما يتوافق ويطابق الحق أو الواقعة محل النزاع وبما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وبعد الإنتهاء من هذه الإجراءات التي قد تستغرق وقتاً يقوم الخصم الذي وجهت إليه بأدائها أمام المحكمة، ومؤدى ذلك أنه لايلزم ان يؤدي الخصم القابل لطلب اليمين ان يؤديها فور قبوله طلب اليمين.
الوجه الخامس: الحكمة من وجوب تحديد موقف الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه فور توجيه اليمين إليه:
سبق القول بأنه يجب على الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه أن يحدد موقفه من اليمين الموجهة إليه بعد توجيهها إليه مباشرة، فالغرض من توجيه اليمين هو حسم النزاع ، ولذلك تسمى هذه اليمين بالحاسمة، فالخصم عندما يقرر توجيه اليمين إلى خصمه إنما يهدف من ذلك الاحتكام إلى دين وامانة وضمير خصمه بغرض حسم النزاع ، ويتحقق هذا الغرض اما بإمتناع الخصم عن أداء اليمين فتقضي المحكمة لصالح من قام بتوجيه اليمين أو يقوم بأداء اليمين فتقضي المحكمة لصالح الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه، فالخصم الذي قام بتوجيه اليمين إلى خصمه قد أحتكم إلى دين وضمير خصمه بقصد حسم النزاع بين الطرفين المتخاصمين ولم يعد محتكما إلى عدالة المحكمة التي تنظر النزاع، فناسب ذلك أن يبادر الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه أن يبادر إلى تحديد موقفه من اليمين الموجهة إليه، وان لا يتراخى في ذلك فتتعطل الحكمة من اليمين الحاسمة، ولهذه الغاية فانه اذا قبل الخصم طلب اليمين فلايحق لطالب اليمين العدول عن طلبه اليمين. (أحكام اليمين، د. أبو اليقظان الجبوري، ض114)، والله أعلم.
![]() |
وقت قبول الخصم لطلب اليمين |