لا يقبل طلب اليمين عند البينة الكاملة
اليمين وسيلة من وسائل الإثبات ، قد تكون دليلا كاملا كما قد تكون مكملة لاي من وسائل الإثبات الأخرى عندما تكون وسائل الإثبات الأخرى غير كافية لإثبات الواقعة أو الشيء أو الحق محل النزاع.
ومن ناحية أخرى فقد تكون اليمين وسيلة إثبات كاملة عندما تنعدم البينة على الحق محل النزاع، بيد أنه إذا إستطاع الخصم أن يقدم أمام محكمة الموضوع الأدلة أو البينات الكافية لإثبات الحق أو الواقعة محل النزاع المدعى بها، فلا تقبل محكمة الموضوع طلب اليمين من الخصم الذي قدم الأدلة الكاملة، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26-3-2007م في الطعن رقم (27783)، وقد ورد ضمن أسباب الحكم المشار إليه: ((اما ما نعاه الطاعنان في طعنهما أن محكمة الاستئناف لم تلتفت إلى طلبهما اليمين من الطرف الآخر ، فإن ذلك النعي لا تأثير له على الحكم ، إذ لا مجال لليمن إلا في حال إنعدام البينة، وطالما قد ثبت للمحكمة أن ما ابرزه المدعى عليهما من المستندات لا تحكي في المتنازع عليه بتحقيق العدول، وان البصائر المبرزة من المطعون ضدهما تنطبق على محل النزاع، وبالتالي فلا سبيل للطاعنين في طلب اليمين فيما توفرت فيه البينة الكاملة))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: طلب اليمين عند البينة الكاملة في الشريعة الإسلامية:
من أصول الإثبات وقواعده في الشريعة الإسلامية أن: البينة على المدعي واليمين على المنكر، وأصل هذه القاعدة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، ومعنى ذلك أن الشريعة الإسلامية قد قررت البينة على المدعي بالحق أو الشيء أو الواقعة محل النزاع ، فإذا افلح المدعي في تقديم البينة الكاملة على الشيء أو الحق أو الواقعة التي يدعيها فلا يحق إلزامه بشيء آخر غير ما ألزمه الشارع به وهي البينة، وتطبيقاً لذلك لا يحق إلزام المدعي بأداء اليمين أو حلفها إستجابة لطلب خصمه ، طالما أنه قام بتقديم البينة الكاملة المثبتة لما ادعى به.
الوجه الثاني: طلب اليمين عند البينة الكاملة في قانون الإثبات اليمني:
من المعلوم أن قانون الإثبات اليمني مأخوذ من فقه الشريعة الإسلامية، ولذلك فأنه قد نحى منحى الشريعة الإسلامية في تقريره أن البينة على المدعي واليمين على المنكر، ومن المعلوم أن مفهوم المدعي في الشريعة الإسلامية وقانون الإثبات واسع يستوعب كل من يدعي بحق أو واقعة ، فقد يشمل مفهوم المدعي المدعى عليه أيضاً، مثل أن يدعي المدعي الأصلي بدين فيرد المدعى عليه على المدعي بأنه قد قام بالوفاء بالدين، فيكون رد المدعى عليه في هذه الحالة إقراراً بالدين المدعى به، ومن ناحية أخرى يكون إدعاءً من جانب المدعى عليه بوقوع واقعة الوفاء ، وعندئذٍ يلزم المدعى عليه إثبات واقعة الوفاء بالدين، وفي هذا المعنى نصت المادة (2) من قانون الإثبات اليمني على أنه (على الدائن إثبات الحق وعلى المدين إثبات التخلص منه، وتكون البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ، فوفقاً لهذا النص إذا إستطاع المدعي تقديم البينة على صحة دعواه فلا يلزمه أداء اليمين، فيكون طلب اليمين في هذه الحالة من غير سند قانوني، فلا يجاب طلب المدعى عليه اليمين من المدعي، وفي هذا المعنى نصت المادة (145) إثبات على أنه (على المحكمة أن توجه اليمين المتممة للمدعي الذي قدم بينة ناقصة لاستكمال البينة القانونية على الحق المدعى به بشرط ألا تكون الدعوى خالية من أية بينة وأن لا تكون فيها بينة كاملة و ذلك في الأحوال التي يجوز فيها ذلك وهي الحقوق والأموال، ولا يجوز للمدعي أن يرد اليمين المتممة إلى المدعى عليه) فهذا النص صريح في تقريره بأن اليمين لا يتم توجيهها إلى الخصم إذا كانت له بينة كاملة.
الوجه الثالث: طلب اليمين عند البينة الكاملة والتعسف في إستعمال حق التقاضي:
سبق القول في الوجهين السابقين أن طلب اليمين عند البينة الكاملة ليس له سند صحيح في الشريعة والقانون، وعلى هذا الأساس فإن طلب اليمين من الخصم الذي افلح في تقديم البينة الكاملة يكون ضرباً من ضروب التعسف في إستعمال حق التقاضي، فلا ينبغي الإستجابة له حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
الوجه الرابع: المقصود بالبينة الكاملة التي تمنع طلب اليمين:
المقصود بالبينة الكاملة في هذا الشأن أن يتمكن المدعي من إثبات الحق أو الواقعة المدعى بها بإحدى وسائل الاثبات سواء أكانت وسيلة واحدة من وسائل الإثبات المقررة في المادة (13) من قانون الإثبات اليمني كشهادة الشهود والإقرار والكتابة...إلخ، فإذا إستطاع المدعي أن يثبت ما يدعيه بواحدة من طرق الإثبات المقررة فقد تحققت البينة.
وقد يتمكن المدعي من اثبات ما يدعيه عن طريق أكثر من طريقة من طرق الاثبات ، وتطبيقاً لذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بعدم قبول طلب اليمين، لأن المدعى عليهما المطعون ضدهما تمكنا من إثبات أحقيتهما في الأرض المدعى بها محل النزاع عن طريق الكتابة وهي تقديم وثائق ملكيتهما للأرض إضافة إلى أعمال الخبرة والمعاينة، إذ افاد الخبراء العدول عند تطبيق مستندات الطرفين عند معاينة المحكمة لمحل النزاع أن مستندات ملكية الطاعنين لا تنطبق على محل النزاع وان مستندات المطعون ضدهما هي التي انطبقت على الأرض محل النزاع، ومن خلال ذلك يظهر أن البينة الكاملة قد تحققت من خلال أكثر من طريقة من طرق الإثبات (الكتابة والمعاينة وأعمال الخبرة) ، بيد أنه في حالات كثيرة تتحقق البينة الكاملة بطريقة واحدة من طرق الإثبات تكون كافية في إثبات الشيء المدعى به، فإذا توفرت البينة الكاملة بأية طريقة من طرق الإثبات يمتنع قبول طلب اليمين.
الوجه الخامس: محنة القاضي عند تقريره توفر البينة الكاملة بمناسبة طلب الخصم اليمين:
يمتنع على القاضي الإفصاح عن قناعته المسبقة في النزاع الذي ينظره حتى ينطق بحكمه في جلسة علنية ، ولذلك فإن القاضي عندما يرفض طلب الخصم توجيه اليمين إلى خصمه عند تقديم الطلب بسبب توفر البينة الكاملة يكون قد افصح القاضي عن قناعته المسبقة في الحكم لصالح الخصم الذي قدم البينة الكاملة، لذلك يجب على القاضي أن لا يعلل رفضه طلب اليمين عند تقديم الطلب وانما يعلل ذلك عند تسبيبه للحكم المنهي للخصومة الذي يتضمن تعليل القاضي لرفضه طلب اليمين لتوفر البينة الكاملة.
ولذلك فإن تطبيق قاعدة عدم قبول طلب اليمين عند توفر البينة يحتاج من القاضي مهارة كي لا يفهم الخصوم من موقفه أنه قد أفصح مسبقاً عن قناعته فيما سيحكم به لاحقاً.
الوجه السادس: إستثناء يمين الإستيثاق عند وجود البينة الكاملة:
مع وجود البينة الكاملة في مواجهة الخصم القاصر كالمجنون والصبي وكذا في مواجهة الغائب والخائف والمسجون والمعتقل والاسير فإن الفقه الإسلامي يجيز للقاضي أن يوجه يمين الإستيثاق إلى الخصم الذي اثبت دعواه ببينة كاملة، مع أن هذا الخصم قد اثبت دعواه ببينة كاملة، ويقرر الفقه الإسلامي يمين الإستيثاق في هذه الاحوال لعدم تكافؤ الخصوم أمام المحكمة، فالغائب والصبي والمجنون لا يستطيع الدفاع عن نفسه أمام المحكمة في مواجهة خصمه إلا عن طريق المنصوب أو الوكيل أو الولي الذي قد لا يحسن تمثيل القاصر أو الغائب أمام القضاء في مواجهة خصمه.
الوجه السابع: تطبيق مستندات ملكية الأرض:
تناول الحكم محل تعليقنا في جانب منه تناول تطبيق مستندات ملكية الأرض محل النزاع، التي غالباً ما يلجأ إليها القاضي عند النزاع فيما يتعلق بحدود الأراضي محل النزاع ومساحتها ومسمياتها.
والاولى والأفضل ان يتم تطبيق المستندات بحضور القاضي الذي ينظر النزاع ، ولذلك ينبغي على القاضي قبل الانتقال لتطبيق المستندات التاكيد على الخصوم بأن المستندات المقدمة منهم المطلوب تطبيقها هي كل المستندات المتعلقة بمحل النزاع . كما ينبغي مطابقة صور المستندات على اصولها، وكذا ينبغي حصول القاضي على الصور الجوية لمحل النزاع حتى يقف القاضي على الطبيعة الميدانية للأرض المتنازع بشانها ، ثم يقوم القاضي بدراسة مستندات الخصوم في ضوء الخريطة الجوية حتى يحيط القاضي بطبيعة النزاع على أرض الواقع ، اذ يقوم القاضي بدراسة المستندات المطلوب تطبيقها من حيث كاتب المستندات وتاريخ كتابتها ومسميات الأرض المذكورة في المستندات ومسميات الأراضي المحادة لها وكيفية إنتقال الأرض والمستند إلى الخصم ومساحات الأراضي المذكورة فيها، وبعض القضاة يقوم بتكليف الخصوم بتطبيق مستنداتهم في الصور الجوية حتى يقف القاضي قبل الانتقال للمعاينة على وجهة نظر كل خصم ، وبعد أن يحيط القاضي بجوانب الخلاف من الناحية الميدانية فإن القاضي يقوم القاضي بتحديد الميعاد المناسب للانتقال للمعاينة وتطبيق المستندات على الأرض محل النزاع والمعاينة ، وعند الانتقال يحضر القاضي ويتولى الاشراف والمعاينة لعملية تطبيق المستندات من قبل الخبراء العدول ، فيتم التطبيق الميداني للمستندات على الأرض محل النزاع بحضور الخصوم المتنازعين ، ويتم إثبات نتائج المعاينة والتطبيق للمستندات في محضر يتم التوقيع عليه من قبل القاضي وكاتب المحضر والخصوم ،واذا رفض احد الخصم التوقيع على المحضر يتم اثبات رفضه ويتم التوقيع على المحضر ايضا من قبل توقيع الخبراء العدول.
ومن خلال ما تقدم في هذا الوجه يظهر أن محضر تطبيق المستندات هو مزيج بين محضر المعاينة واعمال الخبرة، لأن تطبيق المستندات يتم من قبل الخبراء العدول، والله أعلم.
![]() |
لا يقبل طلب اليمين عند البينة الكاملة |