القرائن الدالة على صدق الدعوى عند تقادمها
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
كان منهج القانون اليمني سديد في تنظيمه لأحكام التقادم، اذ صرح القانون بتقادم الدعوى بالحق وليس تقادم الحق ذاته ، فقد استطاع القانون اليمني التوفيق بين الرؤية الشرعية للتقادم والرؤية القانونية، وتبعاً لذلك استطاع التوفيق بين إستقرار المراكز القانونية التي يحققه نظام التقادم وبين حفظ الحقوق من الضياع والإعتداء ومنع المعتدين وارباب الشر من أكل أموال الناس بالباطل تحت غطاء التقادم ، ويظهر الموقف المتوازن للقانون اليمني في هذه المسألة في أن القانون اليمني صرح بسريان أحكام التقادم على سائر الدعاوى المتضمنة المطالبة بالحقوق المختلفة، لكنه صرح في الوقت ذاته بسماع الدعاوى المتقادمة إذا كانت هناك قرائن تدل على صدق هذه الدعاوى ، حسبما ورد في نهاية المادة (23) من قانون الإثبات اليمني ونهاية المادة (1118) من القانون المدني اليمني ،وحسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 4-7-2009م في الطعن رقم (38602)، وقد ورد ضمن أسباب ذلك الحكم: ((فالدائرة تجد: صحة ما عللت به الشعبة بحكمها وما انتهت إليه في قضائها، لأن الشعبة قد طبقت نص المادة (23) إثبات التي تقضي بلزوم سماع الدعوى متى توفرت القرائن على صدق الدعوى، فلم تكن الشعبة قد خالفت القانون أو اخطأت في تطبيقه بل جاء حكمها موافقاً لما ورد في المادة المذكورة بلفظ (مالم يكن هناك قرائن دالة على صدق الدعوى فتسمع تأكيداً لحفظ الحقوق) ،وهذا هو نفس ما استندت إليه الشعبة في حكمها، الأمر الذي يتعين معه رفض الطعن))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: تقادم الدعاوى في القانون اليمني:
اعتنق القانون اليمني وجهة النظر القائلة بأن الدعاوى أو المطالبات بالحقوق هي التي تتقادم اما الحق ذاته فأنه لا يتقادم، فحينما نظم قانون الاتبات التقادم صرح في بداية كل النصوص الناظمة التقادم بأنه لاتسمع الدعوى ، فقد وردت عبارة (لا تسمع الدعوى) في بداية كل النصوص القانونية المنظمة لأحكام التقادم في قانون الإثبات، حسبما هو ظاهر في بداية المواد (16 و 17 و 18 و 20 و 21 و 22 و 23)، وكذلك الحال بالنسبة للمادة (1118) من القانون المدني التي بدأ نصها بعبارة (لا تسمع دعوى الملك)، إذ يفهم من هذه النصوص القانونية المتظافرة أن القانون اليمني يقرر تقادم الدعاوى أو المطالبات بالحق وليس تقادم الحقوق ذاتها، وموقف القانون اليمني موقف محمود موافق للاتجاه السائد في الفقه الإسلامي الذي يقرر أنه لا يحل مال أمرئ مسلم إلا بطيب من نفسه، وان مال المسلم على المسلم حرام ،وأنه ليس لعرق ظالم حق، وهذه كلها نصوص شرعية مصدرها الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والواقع ان تقادم الدعوى يحول بين صاحب الحق والمطالبة بحقه الذي لايلحقه التقادم ، وعلى هذا الاساس فان تقادم الدعاوى يمنع صاحب الحق من المطالبة القضائية بحقه ، غير ان الحائز للحق في هذه الحالة يكون آثم عند الله تعالى وعرضة للحساب والعقاب عند الله تعالى، ولاتبرا ذمة الحائز لحق غيره إلا إذا إعادة الحق إلى صاحبه ، ومن هذا المنطلق يفرق الفقه الاسلامي بين الحق قضاء والحق ديانة، فاذا تقادمت الدعوى لدى القضاء فان دعوى صاحب الحق لاتتقا دم عند الله سبحانه وتعالى.(فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص 181).
الوجه الثاني: مدد تقادم الدعاوى في القانون اليمني:
فرَّق القانون اليمني بين مدد تقادم الدعاوى المختلفة، فمدة تقادم دعوى الملك حددتها المادة (1118) مدني بـ(30) سنة من يوم وضع اليد ، ومدة تقادم دعوى القسمة حددتها المادة (16) إثبات بسنة من تاريخ البلوغ أو الحضور بالنسبة لغير البالغ وغير الحاضر، ومدة تقادم دعوى الشفعة حددتها المادة (17) إثبات بمضي ثلاثة أيام من تاريخ العلم، ومدة تقادم الدعاوى بحق في عقار حددتها المادة (18) إثبات بثلاثين سنة، ومدة تقادم الدعوى المتعلقة بالحقوق المتجددة كإيجارات وغلات الأراضي والأرباح بمضي ثلاث سنوات من تاريخ إستحقاقها، ومدة تقادم دعاوى أصحاب المهن عن أجور مهنهم بمضي سنة من وقت أداء العمل، ومدة تقادم حقوق التجار والصناع عن الأشياء التي وردوها أو صنعوها وحقوق أصحاب الفنادق والمطاعم عن أجر الإقامة وثمن الطعام وحقوق العمال والخدام والاجراء من اجور مدة تقادم الدعاوى بهذه الحقوق سنة من تاريخ إستحقاق هذه الحقوق.
وقد قررت المادة (23) إثبات تقادم الدعاوى في سائر الحقوق الأخرى التي لم يرد ذكرها في قانون الإثبات، إذ حددت هذه المادة تقادم الدعاوى في سائر الحقوق بعد مضي خمس سنوات من تاريخ إستحقاق هذه الحقوق.
ومن خلال الإشارة الموجزة في هذا الوجه إلى النصوص القانونية التي حددت مدد تقادم الدعاوى أو المطالبات بالحقوق يظهر أن التقادم متعلق بالدعوى بالحق وليس بالحق ذاته، كما يظهر أيضاً أن القانون اليمني وتحديداً قانون الإثبات قد صرح بأن جميع الدعاوى بسائرالحقوق تخضع للتقادم ، حسبما هو ظاهر في بداية المادة (23) إثبات التي نصت على انه (لا تسمع الدعوى من حاضر بسائر الحقوق التي لا تتعلق بعقار ولم يرد ذكرها في المواد الأربعة السابقة بعد مضي خمس سنوات من تاريخ الإستحقاق مع عدم المطالبة...إلخ).
الوجه الثالث: الاستثناء القانوني من تقادم الدعاوى بالحقوق في القانون اليمني:
ذكرنا في الوجه السابق أن قانون الإثبات قد قرر شمول تقادم الدعاوى على كافة الحقوق أو سائر الحقوق كما ورد في بداية المادة (23) إثبات، وهذا هو الأصل في القانون، فالدعاوى في الحقوق كافة عرضة للتقادم، إلا أن القانون اليمني أورد استثناءً مهماً من تقادم الدعاوى في الحقوق كافة ، فقد ورد في نهاية المادة (23) إثبات أن الدعاوى كافة تسمع رغم التقادم إذا كانت هناك قرائن دالة على صدق الدعوى، فقد نصت المادة (23) إثبات على أنه (لا تسمع الدعوى من حاضر بسائر الحقوق التي لا تتعلق بعقار ولم يرد ذكرها في المواد الأربع السابقة بعد مضي خمس سنوات من تاريخ الإستحقاق مع عدم المطالبة ويعتبر الحق مستحق الأداء من يوم ثبوته مالم يضرب له أجل للسداد فلا يعتبر مستحقاً إلا بعد إنقضاء الأجل ،هذا وعدم سماع الدعوى في المواد الأربع السابقة مالم يكن هناك قرائن دالة على صدق الدعوى فتسمع تأكيداً لحفظ الحقوق).
ومثل هذا الإستثناء ورد أيضاً في نهاية المادة (1118) مدني التي نصت على أنه (لا تسمع دعوى الملك من حاضر على ذي اليد الثابتة الذي يتصرف تصرف المالك بلا مطالبة ولا قرابة ولا مصاهرة ولا ظروف غير عادية تسود فيها الفوضى أو التغلب ويتعذر فيها الوصول إلى الحق وذلك بعد مضي ثلاثين سنة من يوم وضع اليد، والعبرة في إعتبار الشخص غائباً عن البلد هي بوجوده خارجها طوال المدة المقررة، ويعتبر حاضراً إذا كان متردداً إليها، ويستثنى من ذلك الميراث والوقف والشراكة فلا تحدد بمدة ويلحق بذلك إذا كان هناك قرائن قوية دالة على صدق الدعوى فتسمع تأكيداً لحفظ الحقوق).
ومن الملاحظ أن نص القانون المدني قد اشترط أن تكون القرائن قوية حتى تسمع الدعوى المتقادمة .
ويتاسس الاستثناء القانوني في سماع الدعاوى كافة رغم تقادمها إذا كانت هناك قرائن دالة على صدق الدعوى، يتاسس هذا الاستثناء على أساس أن منع سماع الدعوى يؤدي حتما إلى الحيلولة بين صاحب الحق وبين المطالبة بحقه الذي لايلحقه التقادم ، وعلى هذا الاساس فان تقادم الدعاوى يمنع صاحب الحق من المطالبة القضائية بحقه ، ولذلك فقد حاول القانون إستدراك هذا الأمر حينما اجاز للمدعي صاحب الحق أن يثبت صدق دعواه رغم تقادمها.
سيما ان الحائز للحق في هذه الحالة يكون آثم عند الله تعالى وعرضة للحساب والعقاب عند الله تعالى، ولاتبرا ذمة الحائز لحق غيره إلا إذا إعادة الحق إلى صاحبه ، ومن هذا المنطلق يفرق الفقه الاسلامي بين الحق قضاء والحق ديانة، فاذا تقادمت الدعوى لدى القضاء فان دعوى صاحب الحق لاتتقا دم لدى الله سبحانه وتعالى.(فقه المعاملات المالية وتطبيقاتها المعاصرة، ا.د. عبد المؤمن شجاع الدين، ص 181).
الوجه الرابع: معنى القرائن الدالة على صدق الدعوى:
عرَّفت المادة (154) إثبات القرائن بأنها: الأمارات التي تدل على إثبات ما خفي من الوقائع ودلائل الحال المصاحبة للواقعة المراد إثباتها، والقرائن ثلاثة أنواع: النوع الأول: قرائن شرعية : وتغني عن إثبات الواقعة عن أي دليل آخر، ومن هذه القرائن حجية الحكم، وهذه القرائن قطعية في دلالتها لايجوز اثبات خلافها أو عكسها ، والقرينة الواحدة من هذا النوع تكون دليلا كاملا يتحتم على المحكمة الاخذ به ، والنوع الثاني: قرينة قضائية: وهي ما تستنبطه المحكمة من الأمور الواقعية أو المعاينة التي تدل على صور الحال في القضية، وهذه القرائن ظنية تفيد غالب الظن ،واخذ المحكمة بهذه القرائن جوازي ، ولذلك يجوز اثبات عكسها ، اما النوع الثالث: فهي القرينة البسيطة التي لا تصلح دليلاً مستقلاً ولكن تستأنس بها المحكمة ، حسبما ورد في المادة (155) إثبات، والقرينة الشرعية والقانونية تكون قاطعة لا يجوز نقضها ويتعين الأخذ بها والحكم بمقتضاها ،حسبما هو مقرر في المادة (156) إثبات، اما القرينة القضائية فهي جوازية يجوز للمحكمة الأخذ بها إذا كانت قطعية وتكون دليلاً كاملاً وهي قابلة لإثبات العكس وفقاً للمادة (157) إثبات، والحكم القضائي حجة وقرينة قانونية قاطعة.
ومن خلال العرض الموجز في هذا الوجه للقرائن وأنواعها وحجيتها يظهر أن: القرائن الدالة على صدق الدعاوى المتقادمة هي القرائن الشرعية والقانونية والقرائن القضائية التي يعجز المدعى عليه عن إثبات عكسها أو خلافها.
الوجه الخامس: المقصود بصدق الدعوى:
وردت عبارة (صدق الدعوى) في نهاية المادة (23) إثبات السابق ذكرها ،وكذا في نهاية المادة (1118) مدني السابق ذكرها ، فقد اجاز النصان المشار إليهما إلى اجازا قبول الدعوى رغم تقادمها إذا دلت القرائن على (صدق الدعوى)، ومعنى صدق الدعوى أن: يكون المدعي صادقا في دعواه، أي صدق المدعي في الحق الذي يدعيه.
الوجه السادس: إمكانية إثبات صدق الدعوى المتقادمة بغير القرائن:
المادتان (23) إثبات و (1118) مدني صرحتا بسماع الدعوى المتقادمة إذا كانت هناك قرائن تدل على صدق الدعوى، ومن المعلوم أن هناك أدلة أقوى من القرائن وأعلى منها مرتبة كالشهادة والإقرار والمحررات الكتابية (البصائر والفصول والوهبيات...إلخ).
لذلك يجوز سماع الدعوى إذا كانت هناك أدلة أقوى دلالة وأعلى مرتبة من القرائن، والله أعلم.
![]() |
القرائن الدالة على صدق الدعوى عند تقادمها |