لا يجوز التمسك بالبطلان إلا ممن شُرع لمصلحته
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
يهدف القانون إلى تنظيم إستعمال أفراد المجتمع لحقوقهم وواجباتهم، ومن ذلك: تنظيم حقهم في التقاضي، وفي سبيل التنظيم القانوني لإستعمال الأفراد لحقهم في التقاضي اشترط قانون المرافعات تحقق الصفة والمصلحة فيمن يتقدم بدعواه أو طلبه أو طعنه أمام القضاء، إذ يجب أن تكون له صفة ومصلحة، بيد أنه يجوز للأفراد الدفاع عن النظام العام الذي يحمي أفراد المجتمع ككل عن طريق ابلاغ النيابة العامة بالجرائم والمخالفات والانتهاكات للنظام العام ،باعتبارالنيابة العامة تنوب عن المجتمع ككل في الدفاع عن النظام العام ،وكذا يحق للخصم عندما يكون طرفا في الخصومة ان يتمسك بالنظام العام وان يطلب من القضاء احترام النظام العام وحمايته وابطال الاجراءات المخالفة للنظام العام .
وتطبيقاً لشرطي المصلحة والصفة في الدعوى أو الطلب فلا يجوز للغير أن يتمسك بالبطلان الذي شرعه القانون لمصلحة غيره إلا إذا كان هذا البطلان متعلقاً بالنظام العام، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 10-10/2010م في الطعن رقم (41279)، وقد ورد ضمن أسباب ذلك الحكم: ((اما نعي الطاعن على الحكم المطعون فيه بالبطلان والقصور في التسبيب لإغفاله بيان شهادة الشهود وعدم مناقشتها، فهو نعي مردود، ذلك ان الشهود هم محضرون من قبل المطعون ضده وهو من شُرع البطلان لمصلحته وليس للطاعن وفقاً للمادتين (53 و 54) مرافعات، إضافة إلى أن فحوى شهادة الشهود ليس فيها ما يؤثر في النتيجة التي توصل إليها الحكم ولا يتغير بها وجه الرأي في الحكم، لذا لزم الالتفات عن هذا النعي))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: حالات بطلان الإجراءات في قانون المرافعات اليمني:
حدد قانون المرافعات اليمني حالات بطلان الاجراءات في ثلاث حالات بيانها على النحو الآتي:
الحالة الأولى : بطلان الاجراءات الصريح :وقد بينت ذلك المادة (47) مرافعات التي نصت على أنه (يقع باطلاً كل إجراء نص القانون صراحة على بطلانه) فقد صرح القانون في نصوص عدة على الحالات التي يكون فيها الإجراء باطلاً ، مثل المادة (222) مرافعات التي نصت على أنه (لا يجوز أن يشترك في المداولة غير القضاة الذين سمعوا المرافعة وإلا كان الحكم باطلاً) ،فالإجراء المتمثل في الإشتراك في المداولة من قبل غير القضاة الذين سمعوا المرافعة إجراء باطل يترتب عليه بطلان الحكم، ومثل تصريح المادة (125) مرافعات ببطلان أي إجراء من الإجراءات التي يكون فيها الوكيل بالخصومة أحد القضاة أو العاملين بوزارة العدل أو رجال الجيش والأمن.
فمتى نص القانون صراحة على بطلان إجراء معين، ففي هذه الحالة يمتنع على القاضي البحث عن أهمية الإجراء أو الوضع الشكلي الذي خالف النص، إذ أن الضرر مفترض في هذه الحالة وان القانون قد افترض أن الغاية المطلوبة من النص لم تتحقق.
الحالة الثانية: البطلان بسبب إغفال أو مخالفة الغرض الجوهري: إذ يكون الإجراء باطلاً إذا كان قد ترتب على إغفال أو مخالفة غرض جوهري، وفي هذا المعنى نصت المادة (48) مرافعات يمني على أنه (يقع باطلاً كل إجراء أغفل أو جاء مخالفاً لغرض جوهري).
والواقع أن إغفال الغرض الجوهري يؤدي إلى عدم تحقق الغاية المطلوبة من الإجراء ،ولذلك فقد كان حرياً بالمقنن اليمني عدم النص على البطلان بسبب إغفال الغرض الجوهري في نص مستقل، فكان ينبغي على المقنن اليمني أن يدمج البطلان بسبب إغفال الغرض الجوهري مع البطلان بسبب الإجراء المشوب بعيب ،وذلك في نص واحد ،فيكون النص الجامع لحالتي البطلان المشار اليهما هو : (يقع باطلاً كل إجراء مشوب بعيب جاء مخالفاً أو أغفل غرضاً جوهرياً إذا لم تتحقق الغاية المطلوبة منه). (البطلان في قانون المرافعات اليمني، د.سحر عبداللطيف المقطري، ص85).
الحالة الثالثة: البطلان بسبب أن الإجراء مشوب بعيب نجم عنه عدم تحقق الغاية المطلوبة من الإجراء: وفي هذا المعنى نصت المادة (49) مرافعات على أنه (يقع باطلاً كل إجراء مشوب بعيب لم تتحقق منه الغاية المطلوبة).
فالإجراء المشوب بعيب يفهم من صياغته في المادة (49) أنه لا يكون باطلاً إلا إذا تخلفت الغاية المقصودة من الاجراء أو الشكل اما إذا تحققت الغاية فأنه يكون صحيحاً ،بيد أن البطلان بسبب عيب في الإجراء يشابه البطلان بسبب إغفال الغرض الجوهري ،لان الغرض والغاية متشابهان.
وبشان بطلان الإجراء المشوب بعيب فقد اخذ قانون المرافعات اليمني بمذهب التوفيق بين اعتبارين: الأول: ضرورة إحترام الشكل الذي يفرضه القانون للعمل الإجرائي، والإعتبار الثاني: عدم التضحية بالحق الموضوعي بسبب تخلف الشكل ،فلا يجوز أن يهدر الحق الموضوعي نتيجة بطلان الإجراءات التي هي بمثابة وسيلة لحماية الحق الموضوعي، ونتيجة لذلك فإن القانون لا يرتب البطلان على أي عيب يشوب العمل الإجرائي إلا إذا لم تتحقق الغاية المقصودة من الاجراء، فعدم تحقيق الغاية من الإجراء أو تحققها هو المعيار الذي بمقتضاه يتم الحكم بالبطلان أو عدمه.
والغاية المقصودة من الإجراء ليست تلك الغاية الشخصية التي يرمي إليها الشخص من قيامه بعمله ،فالعمل الذي يقوم الموظف به من المفروض أن لا غاية له من ذلك العمل سوى القيام بوظيفته التي حددها القانون، فإن كانت له غاية أخرى فأنه ينبغي عدم الإعتداد بها لتقرير صحة العمل، فلا يمكن القول بأن العمل صحيح لمجرد أنه حقق غايته الخاصة، فالقانون يقرر أن الشكل ليس إلا وسيلة لتحقيق غاية معينة في الخصومة، لأن القانون عندما يشترط شكلاً معيناً إنما يهدف من ذلك تحقيق غاية يحققها من اتباع هذا الشكل ،فعدم الإلتزام بهذا الشكل يترتب عليه الحكم بالبطلان إلا إذا تحققت الغاية المقصودة من الشكل او الاجراء.
لهذا فإن الغاية المقصودة: هي الغاية الموضوعية أي الوظيفة الإجرائية التي أرادها القانون من العمل من بين مجموعة الأعمال الإجرائية المكونة للخصومة، وهذا الرأي هو الذي أخذت به محكمة النقض الإيطالية التي قضت بأنه (يجب ألا يقصد بالغاية الشخصية وإنما الموضوعية أي الغاية التي يرمي القانون إلى الوصول إليها بتحديده العمل الإجرائي لكي يمكن إنتاج آثاره القانونية، وبعبارة أخرى وظيفة العمل الإجرائي)، ويقع عبء إثبات تحقق الغاية من الاجراء على عاتق من يتم التمسك ضده بالبطلان، فعليه أن يثبت أنه رغم تخلف الشكل الذي اشترطه القانون فإن الغاية منه قد تحققت. (التعليق على قانون المرافعات، د.أحمد مليجي، ص541).
الوجه الثاني: عدم جواز التمسك بالبطلان إلا من الخصم الذي شُرع البطلان لمصلحته:
نصت القوانين على حالات بطلان الاجراءات التي تنتهك النظام العام المقرر للمصلحة العامة ولحماية الحقوق والمصالح العامة لأفراد المجتمع ككل، وهو ما يسمى بالبطلان المقرر لحماية النظام العام للمجتمع، مثل علنية جلسات المحاكمة وحياد القاضي والمواجهة بين الخصوم، وبما أن البطلان المتعلق بالنظام العام يحمي المصالح والحقوق العامة المقررة لأفراد المجتمع ككل، فأنه يجوز لأي من الخصوم التمسك به في أية مرحلة من مراحل التقاضي أو درجاته، ويحق للمحكمة أن تتصدى له من تلقاء ذاتها ولو لم يطلب منها الخصوم ذلك ، لأن القضاء هو الحارس الأمين للنظام العام، وفي هذا الشأن نصت المادة (52) من قانون المرافعات اليمني على أنه (إذا كان البطلان راجعاً لمخالفة القواعد المتعلقة بالنظام العام جاز التمسك به لكل ذي مصلحة وللنيابة العامة في أي مرحلة كانت عليها الدعوى ويجب على المحكمة ان تقضي به من تلقاء نفسها)
ومن جانب آخر فقد نص القانون أيضا على حالات بطلان أخرى مقررة لحماية المصالح الخاصة أو الحقوق الخاصة للافرد، ومقتضى ذلك أن الخصم أو الفرد وحده هو المعني بالتمسك بهذا النوع من البطلان، فلا يجوز لغيره ان يتمسك بهذا البطلان، فلا صفة ولا مصلحة للغير في التمسك بالبطلان في هذه الحالة، ، وفي هذا المعنى نصت المادة (53) مرافعات على أنه (لا يجوز التمسك بالبطلان إلا ممن شُرع البطلان لمصلحته ولا يجوز التمسك به من الخصم الذي تسبب فيه، وذلك فيما عدا الحالات المتعلقة بالنظام العام).
الوجه الثالث: الحكمة من عدم جواز التمسك بالبطلان من غير من شُرع البطلان لمصلحته:
تهدف القواعد القانونية بصفة عامة إلى تنظيم إستعمال الأفراد لحقوقهم بما في ذلك حقهم في التقاضي، ومن هذه التنظيمات اشتراط قانون المرافعات الصفة والمصلحة عند تقديم الدعاوى والطعون والطلبات وغيرها، فمن شروط الدعوى الصفة والمصلحة فلا تقبل الدعوى أو غيرها من الطلبات إلا إذا كان لصاحبها صفة ومصلحة في ذلك حسبما هو مقرر في المادتين (74 و 75) مرافعات.
وتطبيقاً لذلك فلا يجوز لغير الشخص الذي شُرع البطلان لمصلحته أن يتمسك أو يدعي ببطلان الإجراء ، لأنه لا صفة له ولا مصلحة في ذلك، إلا إذا كان هذا البطلان متعلقاً بالنظام العام، والله أعلم.