سلطة محكمة الموضوع في تقدير التعويض

 سلطة محكمة الموضوع في تقدير التعويض

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

لمحكمة الموضوع السلطة التقديرية في تقدير التعويض للخصم، بيد أن هذه السلطة ليست طليقة وإنما مقيدة بقيود عدة من أبرزها: مطالبة الخصم بالتعويض وإثباته لعناصر التعويض (الخطأ – السببية – الضرر) ، وفي ضوء ذلك تقوم محكمة الموضوع بتقدير التعويض ،حتى يكون لتقدير التعويض أساس في أوراق القضية وإلا فإن التعويض يكون جزافياً ، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 21-11-2013م في الطعن رقم (53450)، وقد ورد ضمن أسباب هذا الحكم : ((فالدائرة: لا توافق ما قضى به الحكم الاستئنافي بإلزام المستأنف ضده والمدخل بالتضامن والانفراد بدفع مليون ريالاً تعويضاً للمستأنف إضافة إلى ما قضى به الحكم الابتدائي من تعويض، لأن التعويض مبني على ثلاثة أركان وهي: الخطأ والضرر والسببية ، فيتم تقدير التعويض بحسب عناصر التعويض، اما ما ورد في أسباب الحكم الاستئنافي بأن المستأنف قد تكبد مبالغ باهظة فإن هذا القضاء جزافي دون إثبات، مما يلزم معه إعادة القضية للشعبة لتقدير التعويض في ضوء ما سبق ذكره))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: عناصر التعويض أو اركان المسئولية التقصيرية التي يجب على الخصم إثبات تحققها أو وجودها أمام محكمة الموضوع:

تعني المسؤولية ان يتحمل الشخص نتائج فعله غير المشروع أو تركه غير المشروع لان ذلك أمر واجب على الانسان ، ويتحمل المخالف نتائج فعله أو تركه بحسب طبيعة هذا الواجب.

 وتعتبر المسؤولية المدنية من أهم المسؤوليات ، وتنقسم المسئولية المدنية إلى مسؤولية عقدية ومسؤولية تقصيرية، ويقصد بها مسؤولية الشخص عن الأخطاء التي تضر بالآخرين من خلال إلزام المخطئ بأداء التعويض للطرف المتضرر وبالقدر الذي يجبر ضرره وفقًا لما يراه القضاء.

و تقوم المسؤولية التقصيرية على الخطأ، ،فقد نصت المادة (304) من القانون المدني اليمني على أن (كل فعل أو ترك غير مشروع سواء كان ناشئا عن عمد أو شبه عمد أو خطأ اذا سبب للغير ضررا يلزم من ارتكبه بتعويض الغير عن الضرر الذي أصابه) ، فأساس قيام المسؤولية التقصيرية هو الخطأ الذي يتسبب بالضرر، بالإضافة إلى ضرورة إثبات علاقة الضرر بالخطا المسبب له، ويقع على عاتق الخصم المتضرر إثبات علاقة السببية بين الضرر والخطا لكي يستحق التعويض.

 وهناك ثلاثة عناصر للمسؤولية التقصيرية، وهي: الخطأ والضرر وعلاقة السببية، وبيان ذلك كما ياتي:

الركن الأول من أركان المسؤولية التقصيرية الخطأ: وقد عرفت المادة (304) من القانون المدني اليمني السابق ذكرها عرفت الخطأ بانه : (كل فعلً أو ترك غير مشروع سواء كان ناشئا عن عمد أو شبه عمد أو خطأ اذا سبب للغير ضررا)،وقد آخذ القانون هذا التعريف من الفقه الإسلامي، الذي يقرر ان الشخص يكون مسؤولًا عن أفعاله المسببة ضررا بالغير في أي وقت تصدر منه وهو مميز.

والخطأ التقصيري أنواع مثل الخطأ العمدي والخطأ غير العمدي والخطأ اليسير والخطأ الجسيم والخطأ الإيجابي والخطأ السلبي.

الركن الثاني من أركان المسؤولية التقصيرية الضرر : فلا تتحقق المسؤولية إلا بوجود الضرر الذي يلحق بالغير بسبب الفعل أو الترك غير المشروع.

والضرر التقصيري أنواع عدة ، ومن ذلك :الضرر المادي والضرر المعنوي ، فالضرر المعنوي هو يقع على سمعة الإنسان وعاطفته وشعوره ،وكذا الضرر المباشر والضرر غير المباشر.

والضرر المادي: هو إخلال بمصلحة للمضرور ذو قيمة مالية ويجب أن يكون هذا الإخلال محققاً، ولا يكفي أن يكون محتملاً قد يقع أو لا يقع .

 فللضرر المادي شرطان: 1- أن يكون هناك إخلال بمصلحة مالية للمضرور. 2- أن يكون محققاً، وقد قضت محكمة النقض المصرية : بأنه يجب بمقتضى القانون لصحة طلب المدعى الحكم له بتعويضات مدنية أن يكون الضرر المدعى به ثابتاً على وجه اليقين والتأكيد، واقعاً ولو في المستقبل، فمجرد الإدعاء باحتمال وقوع الضرر لا يكفي بالبداهة (نقض في 16 يونية سنة 1947 المحاماة 28 رقم 241 ص 746). "الوسيط في شرح القانون المدني، العلامة الدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، ط دار إحياء التراث العربي، ج1، ص855" .

  والضرر الأدبي: هو الضرر الذي لا يصيب الشخص في ماله، ولكن يصيب مصلحة غير مالية، ويجب في جميع الأحوال أن يكون الضرر الأدبي، كالضرر المادي، ضرراً محققاً غير احتمالي. "الوسيط في شرح القانون المدني، العلامة الدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، ط دار إحياء التراث العربي، ج1، ص865" .

  ومن المستقر عليه أيضًا: إن عبء إثبات الضرر ومداه، يقع على عاتق من يدعيه، وذلك وفقا لما تقضى به القاعدة العامة أن "المدعي هو المكلف بإثبات ما يدعيه والبينة على من ادعى" ... ولا يكتفى من المدعى بإثبات الضرر الذي أصابه وخطأ المدعى عليه، بل عليه أن يثبت أن الضرر الذي يدعيه، إنما هو ناشيء عن خطأ المدعى عليه، وبعبارة أخرى أن ثمة علاقة مباشرة بينهما، وتلك هي علاقة السببية. المسؤولية المدنية، المستشار / حسين عامر، ط2 دار المعارف 1979، ص351" .

  وأنه ولئن كان خطأ المدعى عليه ثابتا بموجب حجية الحكم الجنائي الذي أصبح نهائيا وباتا وفق الثابت بالأوراق "إلا أنه لا يشمل باقي أركان المسئولية المدنية، ذلك أن من اللازم لجواز الحكم بالتعويض عن أي خطأ يرتكب في حق طالب التعويض أن يتمكن الطالب من إثبات ما لحقه من ضرر، إذ لا يكفي مجرد إثبات الخطأ وحده، لأن قيام المسئولية المدنية يجب أن يرتكز على أركانها الثلاثة التي تشمل إلى جانب ركني الخطأ والضرر ركن علاقة السببية بينهما، تطبيقا لمقتضيات القانون المدني التي نصت على أن (كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض). (توافر الخطأ ليس كافٍ للحكم بالتعويض، ايهاب نايل، ص 1).

الركن الثالث من اركان المسئولية التقصيرية علاقة السببية بين الخطا والضرر: فوجود علاقة السببية شرط أساس لقيام المسئولية التقصيرية والحكم بالتعويض تبعًا لذلك، وتعني علاقة السببية أن يكون الخطأ متصلًا بالإصابة أو الوفاة اتصال السبب بالمسبب، فلا يتم تصور وقوع أحدهما بغير قيام الخطأ، فتنفى علاقة السببية في المسؤولية التقصيرية في حال أثبت المدين السبب الأجنبي أي السبب الناتج عن قوة قاهرة أو حادث مفاجئ أو خطأ الغير، أما عن خطأ المضرور نفسه إذا نشأ عن سبب أجنبي، لا يد له فيه مثل حادث مفاجئ أو خطأ من المضرور أو قوة قاهرة أو خطأ من الغير، يلزم بتعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص يشير إلى غير ذلك. (المسؤولية التقصيرية في القانون المدني المصري، محمد مناصير، ص2).

الوجه الثاني: دعوى التعويض الجادة وغير الجادة:

في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان المستأنف قد طلب التعويض أمام محكمة الاستئناف، ولكن طلب التعويض لم يتضمن عناصر التعويض أو اركان المسئولية التقصيرية المشار إليها في الوجه السابق (الخطأ والسببية والضرر)، وقد قضى الحكم محل تعليقنا بأن طلب التعويض في هذه الحالة غير مقبول لعدم جديته، فلو كان طلب التعويض جاداً لتضمن عناصر التعويض المقررة قانوناً.

فمن الشائع في اليمن أن يقدم الخصوم طلبات تعويض غير جادة، فلا تخلو مذكرة من مذكرات الخصوم المقدمة أمام القضاء سيما طلبات الخصوم لا تخلو من العبارة المشهورة في اليمن (نطلب تعويضنا التعويض العادل والمناسب عما لحقنا من ضرر محقق وما فاتنا من كسب) ، فطلب التعويض الذي يكون على هذه الشاكلة لا يكون جاداً، فهو طلب مجهول لا تستطيع المحكمة أن تقضي بالتعويض بموجب هذا الطلب، فلا يجوز للمحكمة أن تدرس وتبحث وتلتمس لطالب التعويض عناصر التعويض ، لأن ذلك يخل بحياد القاضي واستقلاليته.

فلا يكفي لجدية طلب التعويض أن يقرع سمع المحكمة وأن يكون طالب التعويض مصراً على طلبه حتى حجز القضية للحكم ، بل يجب أن يتضمن طلب التعويض عناصر التعويض المشار إليها حتى يكون الطلب جادا، إضافة إلى أنه يجب على طالب التعويض أن يقدم أمام محكمة الموضوع الأدلة التي تثبت تحقق عناصر التعويض بالفعل.

الوجه الثالث: حكم طلب التعويض أمام محكمة الاستئناف:

اشار الحكم محل تعليقنا بأن الحكم الاستئنافي قد قضى بتعويض المستأنف بمبلغ مليون ريالاً إضافة إلى مبلغ التعويض الذي قضى به الحكم الابتدائي.

وعلى هذا الأساس يحق للمستأنف أن يطالب أمام محكمة الاستئناف زيادة مبلغ التعويض المحكوم به بموجب الحكم الابتدائي ، لأن طلب زيادة التعويض أمام محكمة الاستئناف ليس طلبا إضافياً ، لأن طلب الزيادة يندرج في حدود ما فصل فيه حكم محكمة أول درجة ، وفقاً للمادة (288) مرافعات، لأن الاستئناف يعيد طرح النزاع بشأن مقدار التعويض أمام محكمة الاستئناف عملاً بمبدأ الأثر الناقل للاستئناف.

اما إذا تم إثارة طلب التعويض لأول مرة أمام محكمة الاستئناف ، فمن المعلوم أن ذلك لا يجوز بإعتبار الطلب في هذه الحالة طلباً إضافياً، لا يجوز تقديمه في مرحلة الاستئناف ، عملاً بالمادة (288) مرافعات، فضلاً عن أن إثارة هذا الطلب لأول مرة أمام محكمة الاستئناف يهدر مبدأ التقاضي على درجتين ويفوَّت على الخصوم درجة من درجات التقاضي.

الوجه الرابع: سلطة القاضي بين التعويض الكامل والتعويض العادل:

تقضي القواعد العامة في تقدير التعويض، بان يقدر التعويض بمقدار الضرر المباشر بحيث لا يزيد ولا ينقص عنه، وهذا ما يعرف بمبدأ التعادل بين التعويض والضرر، بينما يميل جانب من الفقه وخصوصاً في فرنسا الى تسميته بمبدأ التعويض الكامل للضرر، فمضمون هذا المبدأ يتحدد بان تقدير التعويض يجب ان يكون بقدر الضرر منظوراً إليه عبر المضرور، ويجب على القاضي النظر إليه من جميع الظروف الخاصة بالمضرور أو المتعلقة بالضرر الذي أصابه وبوجه خاص نتائج الضرر الماضية والحاضرة والمستقبلية على ان لا يأخذ بالحسبان أي عنصر خارجاً عن الضرر، لان في ذلك مخالفة لمبدأ التعويض الكامل للضرر.

 كما ان هنالك مبدأ آخر يخفف من حدة المبدأ المتقدم وهو مبدأ السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع، فالمبدأ أعلاه يجعل التعويض قادراً على تحقيق هدفه وهو إعادة المضرور الى حالته قبل وقوع الضرر، وعليه فالتعويض يجب ان لا يتجاوز قدر الضرر من ناحية، ويتعين ان لا يقل عنه من ناحية أخرى، وان المبدأ المتقدم يعد نتيجة مباشرة ومنطقية لانفصال المسؤولية الجنائية عن المسؤولية المدنية ، فقد صار التعويض المدني جزءً مستقلاً ومتميزاً عن العقوبة الجنائية ، فيهدف التعويض الى جبر الضرر ولا يتأثر بعوامل تقدير العقوبة.

 وقد أكد المبدأ المتقدم القانون المدني والقضاء ، فقد قضت احكام عدة بأن التعويض ينبغي ان يعادل الضرر، فقد ورد في قرار لمحكمة التمييز العراقية انه ((يجب ان يتناسب التعويض مع الضرر الحقيقي وهو فترة العلاج وفترة الانقطاع عن العمل فان كان التعويض مغالى فيه جاز لمحكمة التمييز تخفيضه)) وقضت محكمة التمييز في قرار آخر بانه ((لا يخل بصحة الحكم بالتعويض عدم تقديره من خبير ما دام تقدير المحكمة له متناسباً مع الضرر)).

وقضت في قرار اخر بانه ((لمحكمة التمييز تخفيض التعويض الأدبي إذا كان مغالى في تقديره وليس للخصم الاعتراض على انتخاب الخبير وما قدره من تعويض أمام محكمة التمييز ان لم يكن قد أبدى ذلك أمام محكمة الموضوع)). ان موقف القضاء العراقي من خلال الأحكام المشار إليها يشير الى ضرورة التناسب بين التعويض والضرر، إلا إن ذلك لايعد تمسكاً صارما بمبدأ التعادل بين التعويض والضرر، فالتناسب غير التعادل أو التساوي بين التعويض والضرر.

 ويذهب الدكتور العامري،الى ان القضاء رغم تأكيده على مبدأ التعويض الكامل إلا ان تلك التأكيدات تهدف الى تجنب نقض الأحكام من قبل محكمة التمييز، وبالتالي تبقى السلطة التقديرية للقاضي تخفف من حدة هذا المبدا، فقد اخذ هذا المبدأ بالانحسار في الوقت الحاضر ، بل ان التعويض في ذاته لم يعد معياره الوحيد الضرر الذي لحق الدائن وإنما يرتبط تقديره باعتبارات اجتماعية أو متعلقة بالعدالة.

 لذا فان بعض التشريعات قد أتجهت الى عدالة التعويض وليس بالضرورة ان يكون كاملاً، والبعض منها هجر مبدأ التعويض الكامل بنصوص صريحة كما هو الحال بقانون الالتزامات السويسري ، فقد أجاز إنقاص التعويض عدالة إذا كان الخطأ يسيراً أو كانت موارد المدين محدودة ، حيث نصت المادة (44/ ف2) منه ((إذا لم يكن الضرر ناشئاً من جراء فعل عمد أو إهمال جسيم أو رعونة بالغة فللقاضي ان ينقص التعويض عدالة متى كان استيفاءه يعرض المدين لضيق الحال)).

 وسنجد عند التعرض إلى القيود التي ترد على سلطة القاضي في تقدير التعويض ان مقتضيات العدالة في بعض الدول توجب على القاضي تخفيض مقدار التعويض عن المقدار الذي كان مفروضاً ان يحكم به.

  والتحول من مبدأ التعويض الكامل الى التعويض العادل جعل جانب من الفقه المؤيد لمبدأ التعويض العادل يذهب إلى أن التعويض العادل هو الأصل في التعويض خاصة في المسؤولية العقدية. إزاء كل ما تقدم قد يتبادر الى الذهن تساؤل: ما هو مدى سلطة القاضي في تقدير التعويض؟ بعد مراعاة حقيقة مهمة وهي ليس بالضرورة ان يكون التعويض كاملاً فيكفي ان يكون عادلاً. مما لا شك فيه ان إعطاء قاضي الموضوع سلطة تقديرية في حسم الدعاوى يعد من الأمور المسلم بها وخاصة في الوقت الحاضر نتيجة لتعدد القضايا وزحمة العمل القضائي اليومي، فمنح القاضي لتلك السلطة خير وسيلة تمكنه من حسم اكبر عدد ممكن من القضايا التي تتعلق بالتعويض، وإذا قيل ان تحكم القضاة يؤدي الى بعض المخاطر كالحكم بتعويضات متفاوتة تفاوتاً كبيراً في قضايا وحالات متشابهة ظاهرياً، فان علاج تلك المخاطر لا يكون بتحويل القضاة الى مجرد آلة لتطبيق النصوص القانونية التي يفترض انها قد توقعت كل شيء، وإذا كان القاضي يتمتع بسلطة تقديرية فان ذلك لا يعني وجوب إبداء رأيه في كل مسألة أو ناحية من النواحي قد تتطلب دراسة أو خبرة فنية من قبل أشخاص مؤهلين لذلك، فيجب عليه الاستعانة بالخبراء في الأمور الفنية البحتة ولا يعتمد على سلطته التقديرية،حسبما هو مقرر في قانون الاثبات، أما عن موقف القضاء العراقي فان محكمة التمييز العراقية في قرار لها نقضت حكماً لمحكمة بداءة كركوك لان هذه الأخيرة اكتفت بالبينة الشخصية ولم تستعن بالخبراء لإصدار حكمها وقد جاء فيه ((وجد ان الحكم المميز غير صحيح ومخالف للقانون حيث وجد ان المحكمة قد أسست قضاءها في تعيين الأضرار الناجمة في الحاصدة من جراء الاستعمال غير الاعتيادي باستماعها الى البينة الشخصية وحيث ان حصول الأضرار بالحاصدة من جراء الاستعمال غير الاعتيادي من عدمه هي مسألة فنية يقتضي الاستعانة برأي الخبير ليتحقق من ذلك)). ومما تجدر الإشارة إليه انه إذا قرر القاضي الاستعانة بأهل الخبرة فهو غير ملزم قانوناً بالاعتداد بما ورد في تقرير أهل الخبرة، فما يتوصل إليه الخبير من رأي ليس له حجة قانونية ملزمة، فالقاضي قد يأخذ بما توصل إليه الخبير أو قد يهمله إلا ان الغالب عملياً متى ما كان تقرير الخبير مفصلاً ويصلح سبباً للحكم فالقاضي لا يتردد في الأخذ به، وقد صرح قانون الاثبات اليمني بأن تقرير الخبير حجة كاملة يستطيع الحكم بالتعويض الاستناد إليه.

 ومن خلال ما تقدم يظهر ان القاضي يتمتع بسلطة تقديرية في تقدير التعويض ، اما بالنسبة للقضاء اليمني فان القاضي يتمتع بسلطة تقديرية مناسبة فيما يتعلق بتقدير التعويض حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا ولكن ترد عليها قيود مناسبة، اما القضاء المصري فنجد ان محكمة النقض المصرية تخول محاكم الموضوع حرية كافية في تقدير التعويض فقد ورد في قرار لها جاء فيه ((تقدير التعويض عن الضرر الذي يلحق بالعامل نتيجة فصله بغير مبرر هو من سلطة محكمة الموضوع))، و ورد في قرار آخر لها جاء فيه ((من المقرر ان تقدير التعويض من مسائل الواقع التي يستقل بتقديرها قاضي الموضوع))، وجاء في قرار آخر لها ((التعويض تقديره بمقدار الضرر المادي والأدبي المباشر الذي أحدثه الخطأ- استقلال محكمة الموضوع به ما دام قضاءها قد بني على أسباب سائغه تكفي لحمله)) وكذلك الحال بالنسبة لمحكمة التمييز العراقية فقد أكدت في قرار لها مبدأ السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع في تقدير التعويض فقد ورد في قرار لها جاء فيه ((تقدير الأضرار مسألة وقائع تستقل بها محكمة الموضوع بموجب سلطتها التقديرية))، ومن خلال يظهر ان السلطة التقديرية للقاضي فيما يتعلق بالتعويض في الدول الثلاث متشابهة، فضلا عن ان السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع في تقدير التعويض لا تعني ان محكمة الموضوع لا تخضع بشكل مطلق لرقابة المحكمة العليا بالنسبة للمسائل القانونية فتكييف الضرر أهو محقق أم احتمالي، مباشر أم غير مباشر كل تلك الأمور من المسائل الخاضعة لرقابة المحكمة العليا، وكذلك مسألة مراعاة عناصر التعويض في الحكم الصادر توصف بأنها من مسائل القانون التي يخضع فيها القاضي لرقابة المحكمة العليا وهذا ما اكده الحكم محل تعليقنا ، بخلاف تقدير التعويض الذي يعد من مسائل الواقع التي لا يخضع فيها القاضي لتلك الرقابة، وإذا كان هذا التمييز بين الواقع والقانون له أهميته في القانون المدني وأكده القضاء ،اذ أصدرت محكمة النقض المصرية عدة احكام تؤكد ذلك الاتجاه، فقد ورد في قرار لمحكمة النقض المصرية جاء فيه ((تعيين عناصر الضرر التي تدخل في حساب التعويض من مسائل القانون التي تخضع لرقابة محكمة النقض، تقدير الضرر وتحديد التعويض الجابر له من مسائل الواقع التي تستقل بها محكمة الموضوع متى ما لم يوجب القانون إتباع معايير معينة)). وكذلك جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية ورد فيه ((انه وان كان تقدير التعويض عن الضرر من المسائل الواقعية التي يستقل بها قاضي موضوع إلا ان تعيين عناصر الضرر التي يجب ان تدخل في حساب التعويض هو من المسائل القانونية التي يخضع فيها لرقابة محكمة النقض)) وكذا تكييف الدعوى فانه مسألة قانونية يخضع فيها القاضي لرقابة المحكمة العليا وان أي خطا فيها يعني الخطأ في تطبيق القانون، لذا فان الخطأ في فهم الوقائع يبرر الطعن في الحكم، وكذا عدم مراعاة عناصر التعويض يعد من قبيل الخطأ في تطبيق القانون الذي يعد سبباً كافياً للطعن بالنقض في الحكم، وليس على أساس ان المسألة هي مسألة واقع أم قانون.

ومع ذلك نجد ان محكمة التمييز العراقية قد تتدخل وتطلب في قراراتها من المحاكم ان يكون التعويض عادلاً ولا مغالاة فيه ولا إجحاف، أو ان تطلب تخفيض مقدار التعويض المحكوم به متى ما رأت انه مغالاً فيه فقد ورد في قرار لها جاء فيه ((يجب ان يقدر التعويض بحدود معقولة وان لا يغالى فيه لكي لا يكون وسيلة للإثراء والاستغلال إذ ان الحزن والألم لا يقومان بمال والغاية من التعويض منح المتضرر ترضية مناسبة تكافىء بقدر الإمكان ما أصابه من ألم وحزن)) والاتجاه الأخير هو الذي استقر عليه موقف محكمة التمييز العراقية فلها حق التدخل للنظر في مدى التعويض المقدر عن الضرر سواء كان أدبياً أم مالياً، على الرغم من ان المشرع العراقي لم يمنحها هذه الصلاحية إلا في مجال محدود تضمنته الفقرة الرابعة من قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 815 لسنة 1982 الخاص بتعويض الأضرار الجسمية (المادية والمعنوية) الناجمة عن حوادث السيارات حيث ورد فيه ان ((لمحكمة التمييز تصديق قرار اللجنة أو نقضه كلاً أو جزءاً أو تخفيض التعويض المقدر أو زيادته ويكون قرارها بهذا الشأن باتاً)) فموقف محكمة التمييز سواء أكان قبل صدور القرار السالف أم بعده قد استقر على التدخل في مقدار التعويض بالزيادة أو النقصان. نحن بدورنا نؤيد اتجاه محكمة التمييز المتقدم وذلك لان إخضاع نشاط قاضي الموضوع الى رقابة محكمة التمييز سيكون بمثابة الضابط الذي يجب على قاضي الموضوع ان يتقيد بأوامره. من كل ما تقدم تبين لنا ان مبدأ السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع في تقدير التعويض عن الضرر إذا كان قد استقر على النحو الذي رأيناه فان تلك السلطة ليست بالمطلقة بل هنالك قيود ترد على سلطة القاضي في تقدير التعويض حسبما سياتي بيانه. (التعويض عن الضرر الادبي في المسئولية العقدية، ميثاق طالب غركان، ص118-133).

الوجه الخامس: ضوابط سلطة محكمة الموضوع في تقدير التعويض:

من المقرر في القانون والفقه والقضاء أن لمحكمة الموضوع السلطة التقديرية في تقدير التعويض المناسب الذي يستحقه المضرور، ولكن هذه السلطة ليست طليقة من كل قيد، إذ ترد عليها قيود وضوابط عدة، ومن ذلك ما يأتي:

أن يطلب المضرور التعويض: فلا يحق لمحكمة الموضوع الحكم بالتعويض من غير طلب حتى لو ظهر لمحكمة الموضوع ان الخصم يستحق التعويض بموجب احكام القانون، فقانون المرافعات يصرح بأنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بما لم يطلبه الخصوم.

ولا يكفي مجرد طلب التعويض بل يجب أن يشتمل طلب التعويض على عناصر التعويض المقررة في الشريعة والقانون (الخطأ والسببية والضرر) ويجب أيضاً أن يقدم طالب التعويض الأدلة الكافية التي تدل على تحقق وجود عناصر التعويض المشار إليه.

التسبيب المقنع والسائغ عند زيادة أو نقصان التعويض: إذا تمكن طالب التعويض من إثبات عناصر التعويض وفي ضوء ذلك تم تقدير مبلغ التعويض بموجب تقرير خبير أو مستندات، فلا يحق عندئذٍ لمحكمة الموضوع أن تزيد مبلغ التعويض أو تنقصه إلا إذا كانت هناك أسباب موجبة لذلك، وعلى المحكمة في هذه الحالة أن تذكر في أسباب حكمها أسباب قضائها بزيادة أو نقصان مبلغ التعويض.

مناقشة عناصر التعويض في أسباب الحكم عند تقدير التعويض: لا يكفي أن تعرض محكمة الموضوع عناصر التعويض وأدلة الخصوم بشأنها، وإنما تكون محكمة الموضوع ملزمة بمناقشة عناصر التعويض للتحقق من وجودها أو عدم وجودها ، وكذا مدى مناسبة مقدار التعويض للضرر المحقق أو الكسب الفائت، ويجب أن تتم هذه المناقشة والموازنة في ضوء أقوال الخصوم وأدلتهم بشأن هذه المسألة، حتى يكون لهذه المناقشة أصل ثابت في أوراق القضية.

الخطأ المشترك : المقصود بالخطأ المشترك هو ان يشترك خطأ الدائن الى جانب خطا المضرور في إحداث الضرر فيكون للضرر سببان خطأ الدائن وخطأ المدين المضرور ، وفيه لا يتحمل المدين المسؤولية كاملة بل بقدر ما صدر عنه من خطأ أي تكون مسؤوليته مخففة، ويجب على القاضي ان يأخذ بنظر الاعتبار تلك الحالة ويراعيها، فهي من هذا المنطلق تعد قيداً يرد على سلطة القاضي في تقدير التعويض وخاصة بالنسبة للتشريعات التي توجب على القاضي إنقاص التعويض أو لا يحكم بأي تعويض إذا كان الدائن قد اشترك مع المدين في إحداث الضرر، لأننا لو رجعنا الى النصوص التشريعية التي تضمنت الأحكام الخاصة بالخطأ المشترك لوجدناها قد تباينت في مدى إلزام القاضي بإنقاص التعويض من عدمه، فلو رجعنا مثلاً الى نص المادة (210) من القانون المدني العراقي لوجدنا إنها أجازت للقاضي إنقاص التعويض في حالة الخطأ المشترك دون ان تلزمه في ذلك حيث نصت تلك المادة على ((يجوز للمحكمة ان تنقص مقدار التعويض أو لا تحكم بتعويض، ما إذا كان المتضرر قد اشترك بخطأه، في إحداث الضرر أو زاد فيه أو كان قد سوأ مركز المدين)) أما لو رجعنا الى تشريعات أخرى كالقانون اللبناني، والقانون المدني الروسي لوجدناهما قد الزما القاضي بإنقاص التعويض في حالة الخطأ المشترك، ففي قانون العقود والموجبات اللبناني مثلاً نصت المادة (135) منه على انه ((إذا كان المتضرر قد اقترف خطأ من شأنه ان يخفف الى حد ما تبعة خصمه لا ان يزيلها وجب عليه توزيع التبعة على وجه يؤدي الى تخفيف بدل العوض الذي يعطى للمتضرر))، لذا يعد الخطأ المشترك بالنسبة لهذه التشريعات قيداً على سلطة القاضي في تقدير التعويض ويجب مراعاته و إلا تعرض حكمه للنقض.

وقد أجازت المادة (210) من القانون المدني العراقي، اجازت إنقاص التعويض في حالة الخطأ المشترك، فمن مقتضيات عدالة التعويض إنقاصه إذا كان الدائن قد أسهم بخطأه في إحداث الضرر، لذا فان المشرع العراقي الزم القاضي بإنقاص التعويض في حالة الخطأ المشترك، فلا يجوز ان يكون التعويض مصدر إثراء للدائن على حساب المدين، إذ من العدل ان يتحمل الدائن جزءاً من الضرر إذا كان قد اشترك مع المدين في إحداثه، كذلك استقر القضاء المصري على توزيع المسؤولية بقدر جسامة الخطأ الذي صدر عن كل ممن اشترك في إحداث الضرر كمن يستقل سيارة وهو يعلم بان سائقها في حال سكر بين فان خطأه هذا يكون مشتركاً بينهما، وورد في قرار آخر لمحكمة النقض المصرية انه ((إذا كان المضرور قد ساهم بخطئه في إحداث الضرر فان ذلك يجب ان يراعى في تقدير التعويض المستحق له فلا يحكم على مرتكب الفعل الضار إلا بالقدر المناسب لخطأه))، ومن خلال ما تقدم يظهر ان الخطأ المشترك يعد قيداً يرد على سلطة القاضي في تقدير التعويض عن الضرر ويجب عليه مراعاته و إلا تعرض حكمه للنقض . (التعويض عن الضرر الادبي في المسئولية العقدية ، ميثاق طالب غركان، ص118-133)، والله أعلم.

سلطة محكمة الموضوع في تقدير التعويض
سلطة محكمة الموضوع في تقدير التعويض