العدول عن النكول عن اليمين

العدول عن النكول عن اليمين

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

إذا نكل أو امتنع الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه او ردها عليه  إذا امتنع عن اداء اليمين ،وتم إثبات النكول أو الامتناع في محضر جلسة المحاكمة ، فلا يصح للخصم  بعد ذلك أن يطلب تمكينه من أداء اليمين التي سبق له النكول أو الإمتناع عن أدائها، سواء أكانت اليمين حاسمة موجهة إلى المدعى عليه أو كان المدعى عليه قد ردها على المدعي، لأن الأصل ان يقع النكول ويثبت  فور توجيه اليمين أو ردها، كما أن  النكول يتعلق به حق ادمي وهو حق من وجه اليمين او ردها،  فلايجوز العدول عن  النكول لتعلقه بحق الغير .

  ويترتب على  النكول  اثره من وقت الامتناع عن اداء اليمين الا إذا كان الخصم الذي وجهت إليه اليمين أو ردت عليه غائبا أو كان حاضرا وطلب من المحكمة منحه فرصة قريبة لدراسة الامر وتقرير مايلزم في اقرب فرصة وإلا أعتبر ناكلا، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 13-2-2012م في الطعن رقم (47962)، وقد ورد ضمن أسباب ذلك الحكم أنه: ((وحيث أن الجدل بين الطاعن والمطعون ضده قد تم حسمه بمبادرة الطاعن إلى طلب اليمين الحاسمة من المطعون ضده وبالصيغة التي حددتها محكمة أول درجة التي لم يعترض الأطراف عليها، وكان الثابت من الأوراق أن المطعون ضده قد ردها على الطاعن، وهذا الأخير قد نكل عنها ثم بذلها أمام محكمة الاستئناف، وحيث أن المناعي الباقية كلها مرسلة، فأنه يتعين رفض الطعن))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: معنى النكول عن اليمين واثره في الفقه الاسلامي:

النكول عن اليمين هو امتناع الخصم الذي وجهت إليه اليمين أو ردت إليه اليمين عن اداء اليمين،  وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أن النكول هو الإمتناع ،فيقال: نكل عن اليمين أي امتنع عنها، والمقصود بالنكول هنا هو إمتناع من وجهت إليه اليمين عن حلفها في مجلس القضاء أي في جلسة المحكمة.

وقد عرَّف قانون الإثبات اليمني النكول عن اليمين في المادة (131) التي نصت على أن (النكول هو إمتناع الخصم الذي وجهت إليه اليمين عن حلفها الواجب عليه دون أن يردها على خصمه في الأحوال التي يجوز فيها الرد) ، وهذا التعريف لا يختلف عن التعريف اللغوي والفقهي السابق بيانه

وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: النكول لغة : الامتناع . يقال نكل عن اليمين أي امتنع عنها . وهو كذلك في الاصطلاح إذا كان في مجلس القضاء.

والنكول عند المالكية والشافعية وفي أحد رأيين عند الحنابلة لا يكون حجة يقضى بها على المدعى عليه ، بل إذا نكل في دعوى المال أو ما يئول إليه ردت اليمين على المدعي بطلب المدعى عليه ، فإن حلف المدعي قضي له بما طلب وإن نكل المدعي رفضت دعواه ، فقد أقاموا  نكول المدعى عليه مقام الشاهد , إذ عندهم أنه يقضى للمدعي بحقه إذا أقام شاهدا وحلف , فكذلك يقضى له بنكول المدعى عليه وحلف المدعي ، فالحق عندهم لا يثبت بسبب واحد , كما لا يثبت بشاهد واحد ، فإن حلف استحق به وإلا فلا شيء له .

ومذهب الحنفية (وجماعة من الزيدية), وأحد قولين للإمام أحمد , أنه إذا كانت للمدعي بينة صحيحة قضي له بها ، فإن لم تكن له بينة أصلا , أو كانت له بينة غير حاضرة , طلب يمين المدعى عليه , فإن حلف بعد عرض القاضي اليمين عليه رفضت دعوى المدعي , وإن نكل عن اليمين الموجهة إليه صراحة , كأن قال : لا أحلف , أو حكما كأن سكت بغير عذر ومن غير آفة ( كخرس وطرش ) يعتبر سكوته نكولا ويقضي عليه القاضي بنكوله إن كان المدعى مالا , أو المقصود منه المال , قضي عليه بنكوله , لكونه باذلا أو مقرا , إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين ليدفع الضرر عن نفسه ، ولا وجه لرد اليمين على المدعي لقوله ﷺ {ولكن اليمين على جانب المدعى عليه} وقوله {البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه}.

وإذا قال : لا أقر ولا أنكر لا يستحلف بل يحبس حتى يقر أو ينكر , وكذا لو لزم السكوت عند أبي يوسف . صاحب أبي حنيفة.

وقال المالكية : إذا سكت المدعى عليه أو قال : لا أخاصمه قال له القاضي : إما خاصمت وإما حلّفت هذا المدعي على دعواه وحكمت له . فإن تكلم وإلا يحكم عليه بنكوله بعد يمين المدعي . وقال محمد بن عبد الحكم , وهي رواية أشهب وجرى بها العمل : إن قال : لا أقر ولا أنكر لم يتركه حتى يقر أو ينكر . . فإن تمادى في امتناعه حكم عليه بغير يمين .

وذهب الشافعية إلى أنه إذا أصر المدعى عليه على السكوت عن جواب المدعي لغير دهشة أو غباوة جعل حكمه كمنكر للمدعى به ناكل عن اليمين , وحينئذ فترد اليمين على المدعي بعد أن يقول له القاضي : أجب عن دعواه وإلا جعلتك ناكلا , فإن كان سكوته لدهشة أو جهالة أو غباوة شرح له ثم حكم ; بعد ذلك عليه . وسكوت الأخرس عن الإشارة المفهمة للجواب كسكوت الناطق .

وعند الحنابلة في اعتبار سكوت المدعى عليه نكولا روايتان : الأولى : يحبسه الحاكم حتى يجيب , ولا يجعله بذلك ناكلا . والثانية : يقول له القاضي : احلف وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك .(الموسوعة الفقهية الكويتية،1/242).

الوجه الثاني: إثبات نكول الخصم عن حلف اليمين الموجهة إليه:

ذكرنا في الوجه السابق ان النكول عن اليمين هو: إمتناع الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه في مجلس القضاء أو جلسة المحاكمة إمتناعه عن حلف اليمين، وعلى ذلك فإن إثبات نكول الخصم عن أداء اليمين يتم بواسطة محضر جلسة المحكمة التي يطلب فيها الخصم توجيه اليمين إلى خصمه فيمتنع عن أداء اليمين أو يقوم الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه يقوم بردها على الخصم الذي قام بتوجيهها فيمتنع من ردت عليه عن حلف اليمين.

فمحضر جلسة المحكمة هو الوثيقة القانونية المعدة لإثبات أقوال الخصوم أو أدلتهم وأوجه دفاعهم وطلباتهم ومن ضمنها: طلبات توجيه اليمين وردها والنكول عنها .

وعلى هذا الأساس فأنه من الواجب أن يتم تقديم طلب اليمين أو ردها في جلسة المحكمة حتى يتم مواجهة الخصم بطلب اليمين أو ردها ، ومعرفة موقف الخصم من اليمين الموجهة إليه او التي تم ردها عليه واثبات  النكول فيها ، نظراً لما يترتب على طلب اليمين أو ردها أو النكول عنها من آثار بالغة الخطورة : وهي: أن الناكل عن اليمين يخسر الدعوى وأن الخصم الذي يؤدي اليمين يحكم له.

الوجه الثالث: النكول عن اليمين وكيفية  وقوعه في قانون الإثبات اليمني:

عرَّف قانون الإثبات النكول عن اليمين في المادة (131) التي نصت على أن (النكول هو إمتناع الخصم الذي وجهت إليه اليمين عن حلفها الواجب عليه دون أن يردها على خصمه في الأحوال التي يجوز فيها الرد) ، وهذا التعريف لا يختلف عن التعريف اللغوي والفقهي السابق بيانه ، اما المادة (144) إثبات فقد بينت كيفية النكول عن اليمين وانه قد يقع صريحا بتصريح الناكل بإمتناعه عن حلف اليمين، كما قد يكون النكول ضمنيا فإذا لم يقم الخصم  باداء اليمين عند توجيهها إليه او ردها عليه فانه يكون ناكلا ولو لم يصرح بذلك ، وفي هذا  المعنى نصت المادة (144) إثبات على أنه (يكون النكول صراحة بأن يقول: لا أحلف ويكون ضمناً بأن يمتنع عن أداء اليمين بعد توجيهها إليه أو ردها عليه).

الوجه الرابع: الوقت الذي يعتبر فيه الخصم ناكلاً عن اليمين وعدم جواز العدول عن النكول عن اليمين:

الأصل أن الخصم يكون ناكلاً عن اليمين بعد توجيهها إليه أو ردها عليه فورا مالم ينازع في جوازها أو تعلقها بالدعوى ، وفي هذا المعنى نصت المادة (149) إثبات على أنه (إذا لم ينازع من وجهت إليه اليمين لا في جوازها ولا في تعلقها بالدعوى وجب عليه إن كان حاضراً بنفسه أن يحلفها فوراً أو يردها على خصمه إذا كان ردها جائزاً وإلا اعتبر ناكلاً، ويجوز للمحكمة أن تعطيه ميعاداً للحلف إذا رأت لذلك وجهاً فإن لم يحضر ويحلف في الميعاد بغير عذر أو حضر وامتنع اعتبر ناكلاً). وفي حالة منازعة من وجهت إليه اليمين أو ردت عليه فإن المحكمة تفصل في المنازعة في الحال وعلى الخصوم تنفيذ ما تأمر به المحكمة ويحق للخصم التظلم امام محكمة الدرجة الأعلى ، حسبما هو مقرر في المادة (150) إثبات، ويفهم من هذا النص أن المحكمة تفصل في المنازعة في الحال أي في  الجلسة ذاتها التي ينازع فيها الخصم وان المحكمة اذا رفضت المنازعة تأمر من وجهت إليه اليمين أو ردت عليه ان  يحلفها فان لم يفعل اعتبر ناكلاً.

اما تحديد وقت النكول بالنسبة للغائب فقد بينته المادة (151) إثبات التي نصت على أنه (إذا كان من وجهت إليه اليمين غائباً كلفت المحكمة خصمه بإعلانه بصيغة اليمين التي اقرتها المحكمة وبالميعاد الجديد للحلف فإذا حضر وامتنع أو تخلف بغير عذر اعتبر ناكلاً).

ويترتب على النكول ثبوت حق ادمي أو نفيه أي ان النكول يتعلق به حق ادمي مثله  في ذلك مثل الاقرار إذا تعلق به حق ادمي فلايجوز الرجوع أو العدول عنه ،فكذلك الحال بالنسبة للنكول عن اليمين، وعلى ذلك فانه  بعد نكول الخصم وإمتناعه عن اداء اليمين لا يحق له التراجع عن هذا الموقف أو العدول عنه، لأن توجيه اليمين أو ردها يعني أن الخصم الذي وجه اليمين أو ردها قد احتكم إلى ضمير خصمه  الذي ينبغي عليه أن يحدد موقفه فور توجيه اليمين اليه أو ردها عليه  حتى يتم الحكم والقضاء بموجب الموقف الذي يتخذه  الخصم الذي  وجهت إليه اليمين أو ردت إليه فإن مضى في اليمين خسر الخصم الذي وجه اليمين دعواه وإن نكل صحت دعوى الخصم الذي وجه اليمين، فالنكول مثله مثل المضي في اليمين يجب أن يكون له وقتاً محدداً وهو وقت توجيه اليمين أو فور رد اليمين حسبما ورد في المادة (149) إثبات السابق ذكرها إلا أنه قد يكون هناك عذر مقبول يجعل الخصم يتريث وعندئذٍ يجوز للمحكمة أن تمنحه أجلاً قريباً لبيان موقفه من اليمين الموجهة إليه أو المردودة عليه، ولذلك ورد في المادة (149) إثبات أنه يجوز للمحكمة أن تمنح الخصم ميعاداً للحلف، فإذا حلف اليمين في الميعاد وإلا فأنه يعد ناكلاً،وبعد النكول يتعلق حق الخصم الذي وجه اليمين او ردها يتعلق حقه بالنكول، فلايجوز للناكل التراجع أو العدول عن النكول.

الوجه الخامس: آثار النكول عن اليمين:

إذا نكل الخصم عن أداء اليمين أو تم إعتباره ناكلاً عن اليمين فإن كان الناكل هو المدعي خسر دعواه وإن كان الناكل المدعى عليه فيترتب على ذلك صحة وثبوت دعوى المدعي، فيحكم القاضي بموجب ذلك النكول ، لأن الخصم حينما يوجه اليمين أو يردها يكون قد احتكم إلى ضمير خصمه وليس الى عقيدة القاضي، ولذلك فإن حكم القاضي يكون بحسب موقف الخصم الذي تم توجيه اليمين إليه أو ردها عليه، وفي هذا المعنى نصت المادة (143) إثبات على أنه (كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها دون أن يردها على خصمه وكل من ردت عليه اليمين فنكل عنها خسر الدعوى فإن كان المدعى عليه حكم للمدعي بطلباته وإن كان المدعي حكم برفض دعواه).

ويترتب أثر النكول من وقت تحققه، ولذلك لا يجوز للخصم التراجع عن النكول  وحلف اليمين، فقد نصت  المادة (139)إثبات على أنه (للمدعي ان يوجه اليمين  الحاسمة إلى المدعى عليه  وللمدعى عليه ان يردها على المدعي  ولايجوز لمن وجه اليمين او ردها ان يرجع في ذلك  متى قبل خصمه الحلف).

الوجه السادس: مدى جواز العدول عن النكول في مرحلة الاستئناف:

كان الطاعن في الحكم محل تعليقنا كان يجادل في طعنه بالنقض بأنه قد طلب من محكمة الاستئناف ان يمضي في اليمين بعد أن نكل عنها  أمام المحكمة الابتدائية وبموجب نكوله قضى الحكم الابتدائي بصحة الدعوى المرفوعة عليه من خصمه، إلا أن الحكم الابتدائي وحكم المحكمة العليا رفضا طلب الطاعن أداء اليمين بعد نكوله عنها، لأن النكول  يتعلق به حق من حقوق العباد فلايسقط بعدول الناكل ،كما ان الحكم الابتدائي قد استند واعتمد على نكول الطاعن امام المحكمة الابتدائية، إضافة إلى أنه لا يجوز الطعن في الحكم الابتدائي، لانه قد استند  إلى نكول الطاعن ، ومن المقرر عدم جواز  الطعن في الحكم الذي يبنى على اليمين الحاسمة أو المردودة أو النكول  عنهما ، لأن القاضي في الحقيقة لم يحكم على الناكل وإنما الناكل هو الذي حكم على نفسه عندما امتنع عن أداء اليمين فأثبت أن خصمه الذي وجه إليه اليمين أو ردها محق أو على حق، والله اعلم.

العدول عن النكول عن اليمين
العدول عن النكول عن اليمين