إثبات المدين تخلصه من الدين في القانون اليمني
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
الأصل
أن المدعي بالدين او الحق هو الذي يقع عليه عاتقه عبء إثبات إنشغال ذمة المدين
بالدين او الحق المدعى به، لكن إذا رد المدعى عليه على الدعوى بقوله: انه قد سدد
الدين او دفع الحق فان ذلك إقرار منه بالحق المدعى به وفي الوقت ذاته فان قول المدعى عليه بانه قد أدئ
الحق
أو سدد الدين يعد ذلك القول دعوى من المدعى عليه بأداء الحق أو الدين ، فيلزم
المدعى عليه في هذه الحالة ان يثبت اداءه
للحق أو تخلصه من الدين، بحسب تعبير قانون الإثبات اليمني وحسبما قضى الحكم الصادر
عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 25-2-2012م في
الطعن رقم (47958)، وقد ورد ضمن أسباب ذلك الحكم: ((وحيث أن هذا النعي غير سديد،
لأن الثابت في الأوراق وخاصة عريضة الرد على الدعوى إقرار الطاعنة بشراء الأثاث ومقدار
قيمته وإنما أدعت الطاعنة الوفاء بقيمة الأثاث وعجزت عن إثبات دعوى وفائها بالمبلغ
المدعى به المتبقي من قيمة الأثاث وفقاً لأحكام المادة (2) إثبات ، مما يستوجب رفض
هذا السبب من الطعن))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه
الآتية:
الوجه الأول: نطاق تطبيق قاعدة البينة على المدعي وشمولها للمدعى عليه حينما يدعي اداء الحق أو سداد الدين:
أصل
هذه القاعدة الجليلة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال : (لو يُعطى الناس بدعواهم ، لادّعى رجالٌ
أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ) (حديث
حسن رواه البيهقي وغيره هكذا ، وبعضه في الصحيحين)، ومعنى هذا الحديث الشريف إن كل من قال أو طلب أو أدعى بشيء
خفي أو خلاف الظاهر فأنه يجب عليه إثبات ما قاله او ادعاه بصرف النظر عن مركزه في
الخصومة، فقد يكون المدعي الأصلي الذي افتتح الخصومة بدعواه وقد يكون المدعى عليه، فكل من يدعي أو يقول أو
يطلب شيئا خفيا خلاف الظاهر أمام القضاء أو
امام المحكم فأنه يلزمه إثبات ما يقوله أو يدعيه سواءً جاء هذا القول أو الدعوى في
سياق الإدعاء أو الدفاع أي سواء جاء في الدعوى أو في الرد على الدعوى، فكل من يدعي
بشئ يلزمه البينة لأن الأصل براءة ذمة المدعى عليه، فلا يقتصر تطبيق هذه القاعدة على
المدعي الاصلي الذي يفتتح الدعوى أمام المحكمة وإنما تشمل هذه القاعدة المدعى عليه
حينما يضمن رده على الدعوى الأصلية إدعاءات بالسداد أو إنقضاء الحق، وتطبيقاً لهذه
القاعدة فقد قضى الحكم محل تعليقنا بأنه يلزم المدعى عليه أن يثبت قوله: بأنه قد دفع قيمة البضاعة، لأن قوله في سياق رده
على الدعوى بانه قد سدد قيمة البضاعة إقرار بانه قد استلم البضاعة
من المدعي البائع كما أن قول المدعى
عليه بانه قد سدد قيمة البضاعة دعوى منه فيلزمه أن يقدم البينة على دعواه بسداد قيمة البضاعة، فرده على الدعوى
بالسداد إقرار بصحة الدعوى الأصلية الموجهة إليه المتضمنة مطالبته بسداد قيمة
البضاعة، ورده على الدعوى بأنه قد سدد قيمة البضاعة دعوى تعوزها البينة فيجب عليه
أن يثبت قوله أو دعواه بالسداد حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
الوجه الثاني: مفهوم المدعي عند تطبيق قاعدة (على المدعي البينة):
عرّفت
المادة (3) من قانون الإثبات اليمني عرّفت المدعي بأنه (من معه أخفى الأمرين وهو
من يدعي خلاف الظاهر، والمدعى عليه هو من معه أظهر الأمرين)، فالمدعي
وفقاً لهذا النص هو الذي يدعي أو يطلب أو
يقول شيئاً خفياً لا يؤيده الظاهر، وبسبب هذا الخفاء فان الدعوى لاتقبل الا إذا
قدم المدعي بينة تبين دعواه أي تظهرها وتزيل
عنها الخفاء حتى يحكم القاضي على
الظاهر وليس الخفي، ولذلك ورد في الحديث
الشريف السابق ذكره مصطلح البينة على المدعى وكذلك تطلق بعض الدول على قانون
الاثبات تسمية قانون البينات، كما تطلق على
الأدلة تسمية (البينة أو البينات) ،لأنها تبين الحقوق والأشياء الخفية المدعى بها.
فمفهوم المدعي في الحديث الشريف وفي الشريعة
الإسلامية وفي النص القانوني السابق لا ينحصر على من يقدم صحيفة إفتتاح الدعوى
وإنما مفهوم المدعي يشمل كل من يدعي بشيء خفي أو يقول بقول خفي على خلاف الظاهر
ولو كان القائل أو الطالب في مركز المدعى
عليه ولو كان قد ساق إدعاءاته أو أقواله في سياق رده على دعوى أو في سياق دفاعه في مواجهة الدعوى
المرفوعة عليه.
فأي مدع يتحمل عبء الاثبات ؛ لانه المكلف باقامة البينة لان
كل خبراو قول دعوى تحتمل الصدق والكذب، والادعاء المجرد لا يخرج عن كونه خبراً لا
يكون صادقاً ما لم يستند بالحجة الراجحة الواضحة.
والمقصد في جعل البينة في جانب المدعي هي ان
جانبه ضعيف؛ لانه يدعي خلاف الظاهر اصلاً، ولاظهار قوته وكشف ما استتر واثبات عكس
الظاهر الذي يبدو معهوداً للكافة ليس على حقيقته، يستلزم الامر منه البينة،اما
المدعي عليه فلا يكلف باقامة البينة؛ لان قوله مؤيد بالظاهر، لكن اذا اقام الطرف
الاول في الدعوى البينة الواضحة الصريحة الراجحة ولو كانت ظنية راجحة، وجب الامر
على القاضي ان يفصل في الدعوى بالحكم لصالح المدعي ما دامت كافية لاثبات الحق
ومخالفة الظاهر وليس للمدعي عليه في هذه الحالة الحق في طلب تحليف المدعي على صحة
البينة او على استحقاقه المدعي به؛ لان ذلك يشكل اخلالا كبيرا لهذه القاعدة
ولتعطلت مصالح الناس بعد ان اشترط المشرع البينة على المدعي، ولهذا يفترض صدق بينة
المدعي، ولا يملك المدعي عليه الحق في تحليفه اليمين على صدق بينته. (الواضح في
شرح وسائل الاثبات وتطبيقاتها القضائية حسب
نظام المرافعات الشرعية،.د. منذر عبد الكريم القضاة، ص124).
الوجه الثالث: المقصود بإثبات تخلص المدين من الدين:
قضى الحكم محل تعليقنا بأنه من الواجب على المدين أن يثبت تخلصه من الدين المدعى به عليه إذا أقر في رده على الدعوى بقوله: أنه قد سدد أو دفع الدين للدائن، فقوله هذا إقرار بوجود الدين بذمته كما أن قوله هذا يتضمن دعوى جديدة مفادها: أنه قد سدد الدين للدائن، وهذه الدعوى تعوزها البينة لإثباتها حتى يتخلص المدين من المدين المدعى به، وهذا هو المقصود بإثبات تخلص المدين من الدين حسبما هو مقرر في المادة (2) من قانون الإثبات التي استند إليها الحكم محل تعليقنا التي نصت على أنه (على الدائن إثبات الحق وعلى المدين إثبات التخلص منه ، وتكون البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، ولا ريب أن المدعي الاصلي في هذا النص القانوني هو الذي يجب عليه أولاً إثبات دعواه فإن أفلح في ذلك ثبت حقه إلا إذا تمكن المدعى عليه من إثبات تخلصه من الحق أو الدين، وتطبيقاً لذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنا بثبوت حق المدعي بذمة المدعى عليه الذي قال في رده على الدعوى بانه: قد سدد قيمة البضاعة المشتراة من المدعي، فقول المدعى عليه قد تضمن الإقرار بإستلامه للبضاعة من المدعي، لكن قول المدعى عليه بسداد قيمة البضاعة إلى المدعي يحتاج إلى بينة ، لان ذلك بمثابة دعوى فالمدعى عليه وإن كان في هذا المركز إلا أنه يلزمه إثبات تخلصه من الدين الذي ثبت للمدعي بإقرار المدعي عليه ، فإن عجز المدعى عليه عن تقديم البينة لزمه أداء الحق أو الدين مثلما قضى الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.
![]() |
إثبات المدين تخلصه من الدين في القانون اليمني |