التطوع في ضمان رأس مال المضاربة في القانون والقضاء اليمني
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
من
المعلوم أن طرفي عقد المضاربة هما طرفان; الطرف الأول صاحب المال الذي يدفع ماله إلى العامل الذي يقوم بتشغيل المال نظراً لخبرته
ومهارته، والطرف الثاني هو العامل صاحب
الخبرة والمهارة الذي يتولى استثمار المال المسلم له من صاحب المال، ومن المتفق
عليه في الفقه الإسلامي والقانون المدني اليمني أنه لا يجوز لصاحب المال أن يشترط عند التعاقد على العامل أن يضمن له رأس المال أو
المال الذي دفعه صاحب المال إلى العامل، بيد أنه يجوز للعامل من تلقاء نفسه أن ان
يتبرع أو يتطوع لضمان رأس المال، حسبما هو مقرر في المادة (849) من القانون المدني
اليمني، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 29-10-2014م في الطعن رقم (55228)، وقد ورد في منطوق الحكم:
((قبول الطعن جزئياً في مسألة تطوع المطعون ضده لضمان رأس مال المضارب وإلغاء شرط
تحديد الربح مثل أرباح البنوك ورفض الطعن فيما عدا ذلك))، وورد ضمن أسباب الحكم:
((أن التطوع بضمان رأس المضارب جائز وفقاً لنص المادة (849) مدني، أما شرط أن تكون
أرباح مبلغ المضاربة مثل أرباح البنوك ففيه جهالة تفضي إلى النزاع، ولذلك يعتبر
هذا الشرط فاسد)) ، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول: ماهية المضاربة وانواعها:
المُضارَبةُ لُغةً: مُفاعَلةٌ مِن ضَرَبَ في
الأرْضِ: خَرَجَ فيها تاجِرًا أو غازِيًا، يُقالُ: ضَرَبَ في الأرْضِ: إذا سارَ
فيها مُسافِرًا؛ قالَ اللهُ تَعالى: (وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْض).
اما في اصْطِلاحً الفقهاء فشَرِكةُ
المُضارَبةِ: هي أن يَدفَعَ شَخْصٌ مالَه إلى آخَرَ يَتَّجِرُ له فيه، على
أنَّ ما حَصَلَ مِن الرِّبْحِ يكونُ بَيْنَهما حسَبَ ما يَتَّفِقانِ عليه.
وهناك من
يذهب إلى أن شركة المضاربة هي :” أن يدفع الرجل مالًا إلى غيره ليتجر فيه ويشتري
ويبيع ويبتغي من فضل الله تعالى ويكون الربح بينهما يقدر معين يتفقان عليه من سواء اكان قليلا أم كثيرا، ويذهب آخرون إلى أن المضاربة هي : مشاركة
بين العمل والمال، يكون المال من طرف يسمى
صاحب للمال والعمل والخبرة تكون من الطرف الثاني الذي يسمى العامل، على أن
يكون الربح بينهما حسب الاتفاق، وصاحب المال في المضاربة ليس له الحق في التدخل
ولكن له الحق في فرض شروط ملائمة أو مناسبة للعقد، فالمضاربة عقدٌ شركة بمالٍ من
أحد الجانبين والعمل من جانب آخر، والعمل يكون بالتجارة، والربح بينهما.
وقد عرف القانون المدني اليمني المضاربة في
المادة (841) بأن (المضاربة (القراض) هي أن يدفع شخص هو رب المال أو من يمثله إلى
شخص آخر مالاً معلوم القدر والصفة مقابل جزء من الربح معلوم النسبة أو بحسب
العرف).
والتعاريف السابق ذكرها للمضاربة متقاربة، ومن
خلال هذه التعاريف يظهر أن المضاربة عقد بين
جهتين:- الجهة الاولى وهي الجهة التي تدفع
المال، وتسمى صاحب المال، وقد تكون فردا أو شركة أو بنكا وهكذا، والجهة الثانية: هي الجهة التي تقوم بالعمل وتسمى
المضاربة أو العامل، وقد تكون فردا أو شركة أو بنكا، ثم تشترك الجهتان في الربح
دون رأس المال حسبما اتفقتا عليه.
والقراض والمضاربة لفظان مترادفان لمعنى واحد،
فالقراض اصطلاح أهل الحجاز، والمضاربة اصطلاح أهل العراق، فالمضاربة تسمّى شركة
القراض بلغة أهل الحجاز، لأنّها من القرض من صاحب رأس المال، وتسمّى شركة المضاربة
بلغة أهل العراق، لأنّ المضارب يستحقّ الربح بعمله وسعيه، ويطلق عليها أيضاً شركة
المعاملة، لأنّ فيها عمل الشريك الآخر.
والمضاربة نوعان:
النوع الأول: المضاربة المطلقة أو العامة:
المضاربة المطلقة أو العامة هي التي تكون فيها
حرية التصرف للمضارب في البيع والشراء، ولا تتقيد المضاربة فيها بزمان ولا مكان اونوعية
العمل وصفته،اذ يكون فيها المضارب طليقا في عمله، وربما لا يعود
المضارب إلى رب المال إلا عند انتهاء المضاربة.” وقد قسم الفقهاء العمل في المضاربة
المطلقة إلى الأقسام التالية :
1 – ما يجوز للمضارب أن يعمله بمقتضى عقد
المضاربة من غير حاجة إلى النص عليه من رب المال، ومن ذلك البيع والشراء بنقد
البلد وثمن المثل في جميع أنواع التجارة وفي شتى الأمكنة ومع جميع الناس …”
2 – ما لايجوز للمضارب أن يعمله إذا قال له رب
المال: اعمل برأيك، ومن ذلك مشاركة غيره في مال المضاربة شركة عنان، لأنها أعم من
المضاربة، ولأن الخلط يوجب في مال الغير حقاً فلا يجوز إلا بإذن من المالك.
3 – ما لا يجوز للمضارب عمله إلا بالنص عليه من
رب المال، والإذن منه، ومن ذلك الاستدانة أو الرهن، فليس للمضارب أن يستدين على
مال المضاربة والإقراض من المال.
4 – ما لا يجوز للعامل أن يعمله أصلاً، ومن ذلك
شراء ما كان محرماً كالميتة والخمر والدم ولحم الخنزير لقوله تعالى:{حرمت عليكم
الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3].
النوع الثاني من أنواع المضاربة هو : المضاربة
المقيدة أو الخاصة:
هي عبارة
عن شروط يشترطها صاحب المال على المضارب لضمان ماله، إذا يكون المضارب مقيدا في على وفق الشروط التي عينها صاحب المال، والأصل في الوفاء بالشروط قوله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:01] والمضاربة المقيدة على ثلاثة اضرب:
أحدها: أن يخصه ببلد، فيقول: على أن تعمل بصنعاء أو
عدن .
والثاني: أن يخصه بشخص بعينه، بأن يقول: على أن
تبيع من فلان وتشتري منه، فلا يجوز التصرف مع غيره لأنه قيد مفيد، لجواز وثوقه به
في المعاملات.
والثالث: أن يخصه بنوع من أنواع التجارات بأن
يقول له: على أن تعمل به مضاربة في البن أو القماش أو في الطعام أو الصرف ونحوه.
وفي كل ذلك يجب على المضارب ان يتقيد بالشروط
المعينة التي اشترطها صاحب المال، فلا يجوز له مخالفتها لأنه مقيد.”
وتقسيم المضاربة إلى مضاربة مطلقة ومضاربة مقيدة في
فقه الحنفية اصطلحتا أما جمهور الفقهاء فقد ورد في الموسوعة الفقهية
الكويتية: … لم يقسم جمهور الفقهاء المضاربة إلى مطلقة ومقيدة أو عامة وخاصة – كما
فعل الحنفية – ولكنهم أوردوا ما شمله تقسيم الحنفية في أركان المضاربة وشروطها أو
في مسائل أخرى، وخالفوا الحنفية أو وافقوهم،وتقسيم الأحناف للمضاربة إنما هو من
باب التقسيم المدرسي. (الموسوعة الفقهية الكويتية، كتاب الشركة، الباب
الثالث: شركة المضاربة).
الوجه الثاني: الحكم الشرعي للمضاربة:
المضاربة بذْلُ نفْع بنفْع، فإلمضارب بذلَ نفْع
بدنه وصاحب المال بذلَ نفْع ماله، فالمضاربة
عقد معونة ،فهي نوع من التعاون بين صاحب
المال وصاحب العمل ، ولذلك فالمضاربة جائزة بين المتعاقدين ما أقاما عليه مختارين
وليس بلازم لهما، ويجوز فسخه لمن شاء منهما، ومع انه ليس هناك لمشروعية المضاربة دليل صريح
من القرآن أو السنة ، ولكن مع ذلك
فقد ورد في جواز المضاربة الإجماع الصحيح، فقد قال ابن حزم:” ” كل أبواب الفقه ليس
منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة نعلمه ولله الحمد، حاشا القراض، فما وجدنا
له أصلا فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد والذي نقطع عليه أنه كان في عصر النبي
ﷺ وعلمه وعلمه فأقره ”
والمقرر أن الإجماع يستمد أصله دائما من الكتاب
أو من السنة، وإن لم يبلغه علمنا، علاوة على أن هناك آثارا مروية عن الصحابة
وغيرهم من سلف الأمة تثبت مشروعية المضاربة، ومن ذلك ما جاء عن حميد بن عبد الله،
عن أبيه، عن جده، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في
العراق.
فالمضاربة التي توفرت فيها أركانها من إيجاب وقبول
وعاقدين، ومعقود عليه، وما يتبعها من الشروط، هي التي يجوز التعامل بها، وتعد شركة
المضاربة من محاسن الإسلام، من حيث رفع الحرج والتيسير على الناس في طلب الكسب
الحلال، إذ ليس كل من ملك المال ملك خبرة التجارة وكذا العكس، فالمضاربة هي السبيل
الذي يجعل كل واحد من الطرفين – صاحب المال والمضارب- في الحركة المباحة المستمرة
لجلب الرزق واستثمار المال واكتساب
الخبرات وتنمية المجتمع.
وعلى هذا الأساس فإن شركة المضاربة جائزة بإجماع
العلماء، وقد نقل هذا الإجماع كثير من الفقهاء، فقد قال ابن رشد الحفيد: “ولا خلاف
بين المسلمين في جواز القراض، وأنّه ممّا كان في الجاهلية فأقرّه الإسلام”.
وقال الكاساني: “وأمّا الإجماع فإنّه روي عن
جماعة من الصحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربة، منهم سيّدنا عليّ وسيدنا عمر
وسيّدنا عثمان وابن مسعود… ولم ينقل أنّه
أنكر عليهم من أقرانهم أحد، ومثله يكون إجماعا. (الموسوعة
الفقهية الكويتية، كتاب الشركة، الباب الثالث: شركة المضاربة)
قال الإمام الماوردي: [والأصل في القراض وإباحته عموم قول الله عز
وجل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ) سورة البقرة الآية ١٩٨، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء] الحاوي
الكبير ٧/٣٠٥.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه
قال: (خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما
قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر
لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد
أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم
تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا:
وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فأربحا
فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما
أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين
فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك
يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد
الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً
فقال عمر: قد جعلته قراضاً فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله
ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني أيضاً، قال الحافظ ابن
حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار ٥/٣٠٠ وانظر الاستذكار ٢١/١٢٠. وقد وردت آثار أخرى
عن الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم
أجمعين، قال الشوكاني: [فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة
يتعاملون بها من غير نكير إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار ٥/٣٠٠-٣٠١.
الوجه الثالث: عدم جواز ضمان رأس المضارب في الفقه الإسلامي:
اتفق الفقهاء على انه لا يصح في شركة المضاربة
ضمان رأس المال، فضلا عن ضمان زيادة معلومة متفق عليه.
وروي عن
أحمد أن العقد يفسد به، وحكي ذلك عن الشافعي؛ لأنه شرط فاسد، فأفسد المضاربة، كما
لو شرط لأحدهما فضل دراهم، والمختار هو المذهب الأول. لان شرط ضمان المضارب لراس المال لا يؤثر في جهالة
الربح، فلم يفسد به، كما لو شرط لزوم المضاربة، ويفارق شرط الدراهم؛ لأنه إذا فسد
الشرط ثبتت حصة كل واحد منهما في الربح مجهولة. اهـ.
فإذا اشترط
في عقد المضاربة أن ضمان رأس المال على المضارب فالعقد فاسد لا يصح قال ابن رشد
المالكي عند حديثه عن الشروط الفاسدة في القراض (المضاربة) [ومنها إذا
شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد،
وبه قال الشافعي ... وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد ...
] بداية المجتهد ونهاية المقتصد ٢/١٩٩. وانظر المغني ٥/٥٣.
وقرر مجمع الفقه الإسلامي ذلك كما ورد في القرار
رقم ٥ من الدورة الرابعة [لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة
على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال،
فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمناً بَطَلَ شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة
المثل.]
فقد اكد
مجمع الفقه الاسلامي على تحريم ان يشترط صاحب المال على المضارب ان يضمن له
راس المال ، حسبما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدورة الرابعة رقم (٥) الذي نص على انه:
٢ يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك
وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية
٣ لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك
المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى
رأس المال , فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا بطل شرط الضمان واستحق المضارب
ربح مضاربة المثل.
وقد صدرت فتاوى عدة من جهات كثيرة نصت على عدم
جواز شرط ضمان رأس مال المضاربة ،من ذلك
الفتاوى الصادرة من ندوات البركة: ندوة البركة الخامسة, الفتوى رقم (٢) التي نصت على انه:.بعد استعراض البحوث المقدمة
للندوة , وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت بشأنها , قررت اللجنة أن شرط ضمان
العامل لرأس المال ينافي مقتضى العقد فلا يجوز، لان المضارب أمين لا يضمن رأس المال
إلا بالتعدي أو التقصير.
وكذا فتوى من هيئة الرقابة الشرعية في بنك دبي
الإسلامي وهي الفتوى رقم ٠٦ / ٠٥ التي
نصت على انه: بحثت الهيئة
مسألة ضمان أموال الأيتام المستثمرة ورأت أنه لا يجوز شرعا ضمان المال المستثمر
بقصد الربح لأن الاستثمار في الإسلام يقوم على أساس الغرم بالغنم , الضمان المطلوب
بهذه الصورة لا أساس له شرعا، وإنما يجب اتخاذ الحيطة والحذر لذلك باختيار المضارب
الثقة الأمين المتمسك بدينه, مع الأخذ بالأساليب العلمية في الاستثمار من دراسة
السوق, ودراسة الجدوى الاقتصادية, والمتابعة والتقييم لكل الخطوات التنفيذية,
وغير ذلك مما تتطلبه أساليب الاستثمار السليم.
وهناك من
الفقهاء.من يذهب إلى أن للمضارب يضمن رأس المال المدفوع له من غير ان يشترط عليه
ذلك صاحب المال ، فقد روي عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه واله سلم: (أنه
كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد
رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت
مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما ذكر الشوكاني في نيل
الأوطار ٥/٣٠٠.
الوجه الرابع: تبرع المضارب بضمان رأس مال المضاربة;
الفقهاء متفقون على أن يد المضارب يد أمانة
وبناءً على ذلك قرر الفقهاء أنه لا يجوز أن يضمن المضارب رأس المال إلا إذا تعدى
أو قصر، فحينئذ يكون ضامناً قال ابن قدامة المقدسي [إذا تعدى المضارب وفعل ما
ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم
روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي
والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولنا أنه متصرف في مال غيره
بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب..] المغني ٥/٣٩.
وأما إذا حصلت خسارة بدون تعدٍ أو تقصير من
المضارب فلا شيء عليه ولا يجوز شرعاً تضمينه رأس المال ويكون المضارب قد خسر جهده
وتعبه.
اما إذا تبرع المضارب بتحمل الخسارة بدون أن
يكون هذا شرطاً مكتوباً أو ملحوظاً عند الاتفاق فلامانع شرعي من جوازه ،فإذا تم
العقد مع خلوه من شرط ضمان رأس المال ملفوظاً أو ملحوظاً واشتغل المضارب بالمال
وعند تصفية الشركة تبين حصول خسارة فتبرع المضارب بتحملها فالقول بجواز ذلك له وجه
،لأن هذا التبرع تم بدون إلزام أو شرط مسبق، فالمفسد لعقد المضاربة عند الفقهاء أن
يشترط صاحب المال على المضارب ضمان رأس
المال عند العقد، اما إذا لم يشرط ذلك عند العقد وإنما تبرع هو بالضمان
بعد أن تحققت الخسارة فلا مانع شرعي من ذلك ، فقد قال بجواز ذلك جماعة من فقهاء
المالكية. انظر المضاربة الشرعية ص ١٢٧. فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة
الجزء ٢ الفتوى رقم ١٠٧.
وهذا القول أخذت به بعض المؤسسات المالية التي
تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فقد جاء في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة
البركة الجزء ١ الفتوى رقم ٤٤ [ ... على أنه لا مانع من أن تكون هناك مبادرة من
العميل بتحمل ما قد يقع من خسارة في حينها - لا عند التعاقد لأن ذلك من قبيل الهبة
والتصرف من صاحب الحق في حقه , دون تغيير لمقتضى العقد شرعاً. فحين وقوع الخسارة
دون تعدٍ أو تقصيرٍ يطبق المبدأ الشرعي بتحميلها لرب المال (البنك
هنا) إلا أن يبادر العميل لتحملها ودون مقاضاته أو إلزامه, لأنه قد يقدم على
هذه المبادرة انسجاماً مع اعتبار نفسه مقصراً في الواقع ولو لم تستكمل صورة
التقصير في الظاهر بما يحيل الضمان عليه. والقاعدة الشرعية أن المرء بسبيل من
التصرف في ماله] .
ومع ذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي ضمان رأس
مال المضاربة من طرف ثالث عل سبيل التبرع كما ورد في القرار رقم ٥ من الدورة
الرابعة [ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة
على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل
بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد
المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه
عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان
المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء
بما تبرع به، بحجة أنَّ هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد]
وخلاصة ماورد
في هذا الوجه أن الأصل في عقد المضاربة أنه لا يجوز ضمان رأس مال المضاربة
من المضارب إلا إذا تعدى أو قصر ويجوز أن يتبرع المضارب بضمان ما يلحق صاحب المال
من خسارة عند وقوعها فعلاً وليس عند انعقاد العقد على أن لا يكون التبرع بتحمل
الخسارة شرطاً ملفوظاً أو ملحوظاً عند العقد. الشركات للخياط ٢/٥٣.
الوجه الخامس: تطوع العامل بضمان رأس مال المضارب في القانون المدني اليمني:
استند الحكم محل تعليقنا في قضائه بجواز تطوع العامل بضمان رأس مال صاحب المال في المضاربة، استند في ذلك إلى المادة (849) من القانون المدني اليمني التي نصت على أنه (يجوز للعامل أن يتطوع لضمان رأس المال دون شرط، ويجوز لرب المال أن يشترط على العامل أن يأتيه بمن يضمنه فيما يترتب على تعديه)، فهذا النص صريح في جواز قيام العامل يتولى تشغيل المال يجوز له من تلقاء نفسه أن يتطوع لضمان رأس المال المدفوع من صاحب المال من غير أن يشترط صاحب المال عند العقد على العامل أن يضمن ذلك، ومع ذلك فقد اجاز النص لصاحب المال أن يشترط على العامل أن يقدم كفالة أو ضمانة على أي فعل من أفعال التعدي على رأس المال التي قد تصدر من العامل مستقبلاً، وقد سبق القول بأن مجمع الفقه الاسلامي قد اجاز ذلك، والله أعلم.