لا يجوز التحكيم في دعاوى التزوير

 لا يجوز التحكيم في دعاوى التزوير

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

التزوير جريمة يترتب عليها الإخلال بالثقة العامة في المستندات والمحررات المتداولة في المجتمع، فالتزوير لا يمس المجني عليه فقط وإنما يتعداه إلى المجتمع الذي تستند معاملاته إلى المستندات، ووفقا لقانون الإجراءات الجزائية لايجوز الصلح أو التصالح إلا في مسائل القصاص والديات والارش  وكذا في جرائم الشكوى كالسب والتهديد...الخ ،وقد نص قانون التحكيم في المادة (5) إلى أنه لا يجوز التحكيم في المسائل التي لايجوز فيها الصلح وكذا المسائل المتعلقة بالنظام العام، وتندرج ضمن هذا المفهوم مسائل التزوير في المحررات، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 8-1-2014م في الطعن رقم (53696)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فقد تبين: أن الشعبة قد سببت لحكمها بأن المدعي كان قد أدعى أمام المحكم على المدعى عليه بأنه قام بتزوير بطاقته الضريبية وتزوير شيكات، وقد قضى حكم المحكم ببراءة المدعى عليه من تلك التهم، وذلك يخالف المادة (5) تحكيم التي نصت على أنه (لا يجوز التحكيم في سائر المسائل التي لا يجوز فيها الصلح وكل ما يتعلق بالنظام العام)، ويترتب على مخالفة ذلك البطلان، ولما كان الحكم المطعون فيه قد بني على أسباب سائغة وكافية فأنه جدير بالإقرار، لأنه جاء موافقاً لقانون التحكيم))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الاول: المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ولايجوز التحكيم فيها:

استند الحكم محل تعليقنا في قضائه إلى  المادة (5) تحكيم التي نصت على عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يجوز الصلح فيها، فقد نصت المادة (5) من قانون التحكيم اليمني على أنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي: -د- سائر المسائل التي لا يجوز فيها الصلح)، وهذا يقتضي الإشارة إلى المسائل التي لا يجوز الصلح فيها وهي في الوقت ذاته  التي لا يجوز التحكيم فيها، وهذا الأمر يستدعي الرجوع إلى قانون الإجراءات الجزائية الذي اجاز الصلح في مسائل القصاص والدية والأرش، وبناءً على ذلك يجوز التحكيم في مسائل القصاص والجرح والديات والأرش لجواز الصلح فيها، إذا يجوز لأولياء الدم أو المجني عليه التنازل فيها والتصالح عليها، وكذا حدد قانون الإجراءات الجزائية جرائم الشكوى التي لا تحرك النيابة العامة  الدعوى الجزائية فيها إلا بموجب شكوى من المجني عليه، ومفهوم ذلك أنه يجوز الصلح أو التصالح بشأنها أو تنازل المجني عليه فيها، ومؤدى ذلك جواز التحكيم في جرائم الشكوى وهي الجرائم المنصوص عليها في المادة (27) من قانون الإجراءات الجزائية وهي: -1- جرائم القذف والسب وإفشاء الأسرار الخاصة والإهانة والتهديد بالقول أو الفعل أو الإيذاء الجسماني البسيط مالم تكن تلك الجرائم وقعت على مكلف بخدمة عامة أثناء قيامه بواجبه أو بسببه، -2-  الجرائم التي تقع على الأموال فيما بين الأصول والفروع والزوجين والأخوة والأخوات -3-  جرائم الشيكات -4-  جرائم التخريب والتعييب وإتلاف الأموال الخاصة وقتل الحيوانات بدون مقتضى أو الحريق غير العمدي وإنتهاك حرمة ملك الغير وكذلك في الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون.

ومن خلال ما تقدم فأنه يظهر أن جريمة التزوير ليست من جرائم القصاص أو الدية أو الأرش أو جرائم الشكوى السابق ذكرها، وبناءً على ذلك فأنه من الثابت عدم جواز التصالح في جرائم التزوير، وتبعاً لذلك عدم  جواز التحكيم فيها، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.

ولمعرفة بقية المسائل التي لا يجوز الصلح فيها فأنه ينبغي الرجوع أيضا إلى القانون المدني اليمني الذي نظم عقد الصلح، وحدد المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وقد منع القانون المدني اليمني  في المادة (671) منع ولي الصغير والمجنون وناظر الوقف من الصلح إلا في حالتين؛ الأولى: إنعدام البينة لدى ولي المجنون أو الصغير أو الوقف إذا كان الولي مدعياً ،والحالة الثانية: إذا كان ولي الوقف أو المجنون أو الصغير مدعى عليه وتوفرت لدى المدعي البينة اللازمة، ففي هاتين الحالتين فقط يجوز لولي المجنون أو الوقف التصالح نيابة عن المجنون والصغير والوقف، أما في غير هاتين الحالتين فلا يجوز الصلح، وتبعاً لذلك لا يجوز لولي المجنون والصبي والوقف التحكيم نيابة عن الوقف أو المجنون أو الصبي في كل الأحوال عدا الحالتين المشار إليهما.

الوجه الثاني: مسائل النظام العام التي لا يجوز التحكيم فيها:

اشار الحكم محل تعليقنا إلى أنه لا يجوز التحكيم في سائر المسائل المتعلقة بالنظام العام ،وفي هذا الشأن نصت المادة (5) تحكيم على أنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي: -هـ- كل ما يتعلق بالنظام العام)، والحقيقة أن مفهوم النظام العام مفهوم واسع وهلامي كونه عصياً عن التعريف حسبما يذكر شراح القانون.

وتثار فكرة النظام العام سواء لدى الفقه أو القضاء أثناء نظر الدعاوى القضائية, ورغم كثرة تداول فكرة النظام العام إلا أن الفقه والقضاء لم يتفقا على تعريف جامع.
فهناك من يعرف النظام العام بانه : مجموعة القواعد القانونية التى يقوم عليها كيان وأساس المجتمع، والتى يترتب على تخلفها الضرر بالمجتمع ، ومن أمثلة تلك القواعد المتعلقة بنظام القضاء والتقاضي والقواعد المتعلقة بحقوق وحريات الأفراد في المجتمع، وكذا القواعد المتعلقة بالكيان السياسى للدولة كنظام الحكم في الدولة وشكله، والقواعد االقانونية المتعلقة بتكوين السلطات في الدولة وتحديد الإختصاص لكل سلطة كالسلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، كما يعد أيضا من النظام العام النظام الإقتصادى للدولة والأسس الإجتماعية فيها كنظام الأسرة ونظام العمل .
و تختلف فكرة النظام العام بإختلاف المكان والزمان ،فمثلا مفهوم النظام العام في الدول الاوربية يختلف عنه في الدول الإسلامية ، كذلك في المجتمع الواحد يختلف مفهومه في زمن معين عنه في زمن آخر كما هو الحال بشأن تغيير النظام الاقتصادى للدولة من رأسمالى إلى اشتراكى . (مفهوم النظام العام من الناحية القانونية ، رياض مصطفى البرلسى ،ص 2).
إن ارتباط فكرة النظام العام بالقواعد القانونية يرجع الى تقسيم القاعدة القانونية الى قاعدة آمرة وأخرى مكملة : فالقاعدة الآمرة : هى القاعدة التى ينعدم سلطان إرادة الأفراد بشأنها ، بمعنى أنه لا يجوز للأفراد الإتفاق على ما يخالفها،اما القاعدة المكملة فهي: القاعدة التى يجوز للأفراد الإتفاق على ما يخالفها،وبناء على ذلك فالنظام العام متعلق بالقواعد الامرة التي لايجوز الأنفاق على مخالفتها، والقانون اليمني يربط بين فكرة النظام العام والقاعدة القانونية الأمرة .
وتترتب على ارتباط القاعدة القانونية بالنظام العام ان قرر القانون حماية خاصة للقواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام لأهمية النظام العام ودوره في قيام كيان المجتمع .
فقد قرر القانون بطلان كل اتفاق أو إجراء يخالف النظام العام وجعل لكل ذى مصلحة حق التمسك به ,كما يجوز للمحكمة أن تقضى به من تلقاء ذاتها، ويجوز الدفع ببطلان الاجراء او بطلان الاتفاق على مخالفة النظام العام في أى مرحلة تكون عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام المحكمة العليا.
ونخلص من هذا الوجه الى القول بأن مسائل النظام العام التي لايجوز التحكيم فيها هي تلك المسائل التي نظمها القانون بقواعد قانونية امرة صرحت بأن الاختصاص بنظر النزاعات أو الدعاوى المتعلقة بها يكون معقوداً بالقضاء وحده دون التحكيم، لأن القانون قد قدر بأن قصر الاختصاص على القضاء بنظر تلك المسائل يحقق المصالح العامة، ولذلك لايجوز للافراد الاتفاق على التحكيم في هذه المسائل خارج نطاق اختصاص القضاء، وتطبيقا لذلك فقد حددت النصوص القانونية الأمرة في قانون الجرائم والعقوبات وقانون الإجراءات الجزائية ان النيابة العامة هي المختصة بالتحقيق وتحريك الدعوى الجزائية في الجرائم، وان القضاء الجزائي هو المختص بالفصل في الدعوى الجزائية في الجرائم كافة، ولا تستثنى من ذلك الا بعض الجرائم التي يجوز الصلح والتحكيم فيها، وهي التي سبق ذكرها في الوجه الأول من هذا التعليق، والله أعلم.
لا يجوز التحكيم في دعاوى التزوير
لا يجوز التحكيم في دعاوى التزوير