جواز التحكيم بشأن منفعة الوقف
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
من
المقرر في الفقه والقانون أنه لا يجوز التحكيم على ملكية العين الموقوفة، فالمادة
(5) من قانون التحكيم قد نصت صراحة على أنه لايجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها
الصلح، ويندرج الوقف ضمن هذا المفهوم، لأنه من المعلوم أن القانون المدني يمنع
الصلح على مال الوقف إلا في حالتين استثنائيتين هما الأولى : اذا
كان الوقف هو المدعى عليه ولدى المدعي بينة وحكم له على الوقف، والحالة الثانية : اذا
كان الوقف هو المدعي والمدعى عليه منكر وليس لدى الوقف بينة، غير أنه يجوز التحكيم على حق
الإنتفاع بالعين الموقوفة إذا حدث خلاف بشأن الإنتفاع بالعين الموقوفة، حسبما قضى
الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
1-8-2016م في الطعن رقم (58066)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فقد وجدت الدائرة: أن
الطعن مؤثر، ذلك أن محكمة الاستئناف قد اسست حكمها على ما استندت إليه، وهو المادة
(5/ ف 2) من قانون التحكيم التي نصت على عدم جواز التحكيم في ملكية الوقف...إلخ،
والظاهر للدائرة أنه لا خلاف بين طرفي النزاع على أن ملكية رقبة العين محل النزاع
أنها للوقف، لكن الثابت أن النزاع بين الطاعن والمطعون ضده على الإنتفاع بالعين
الموقوفة محل النزاع، فكل واحد منهما يدعي استحقاقه للمنفعة، في حين أن الحظر
الوارد في نص المادة (5/ ف 2) متعلق بما يمس رقبة الوقف اوملكيته ،
ولذلك فقد كان من الواجب على محكمة الاستئناف أن تنظر في دعوى البطلان، مما يتعين
معه قبول الطعن ونقض الحكم الاستئنافي))،وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو
مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: عدم جواز التحكيم في ملكية أو رقبة الوقف :
اشار قانون التحكيم الى منع التحكيم في مال الوقف، فقد بينت المادة (5) تحكيم المسائل التي لا يجوز التحكيم فيها ؛ فنصت هذه المادة على انه لا يجوز التحكيم في الحدود واللعان وفسخ الزواج ورد القضاة ومخاصمتهم ومنازعات التنفيذ والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح وكل ما يتعلق بالنظام العام، ومن خلال إستقراء هذا النص القانوني نجد انه قد قرر عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ، والفقه الإسلامي يجمع على عدم جواز الصلح على مال الوقف، لان الصلح يتضمن إسقاط اتنازل، والاسقاط والتنازل لا يصدر الا من مالك المال، ومتولي الوقف ليس مالكا للمال الموقوف فلا يحق له إسقاط الوقف اوبعضه أو التنازل عنه، لان صلاحية متولي الوقف قاصرة على إدارة الوقف ورعايته وحمايته والمحافظة عليه وليس إسقاطه أو التنازل عنه.
فقانون التحكيم صرح في المادة (5) فقرة (د) بعدم جواز التحكيم
في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح، وتصرح المادة (671) مدني بانه (لا يصح الصلح
ممن لا يملك التبرع كالصبي المأذون له وولي الصغير وناظر الوقف إلا اذا كان مدعى
عليه ولدى المدعي بينة وحكم له أو اذا كان الناظر مدعي والمدعى عليه منكر وليس لدى
المدعي بينة)، وبما انه لا يجوز الصلح في ملكية الوقف حسبما ورد في هذا النص فانه
لا يجوز التحكيم في أصل مال الوقف أو ملكبة الرقبة حسبما ورد في المادة (5) فقرة
(د) من قانون التحكيم ، ويرجع عدم جواز الصلح في مال الوقف إلى أن ناظر الوقف ليس
مالكا للوقف فعمله يقتصر على ادارة مال الوقف وحمايته والمحافظة عليه، لان المالك
للوقف حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز التصرف الناقل لملكية الوقف التي تستمر
لله سبحانه وتعالى حتى يرث الله الأرض ومن عليها حسبما يرد في الوقفيات، فلا يجوز
لمتولي الوقف أو ناظر الوقف الصلح على رقبة الوقف، لان في الصلح اسقاط لبعض مال
الوقف وذلك غير جائز، والتحكيم وان كان لا يتضمن الاسقاط، لان المحكم كالقاضي يحكم
بالحق فلا يسقط منه إلا أن التحكيم مثل الصلح من حيث قلة الضمانات التي تحفظ مال
الوقف اذا تم التحكيم بشأنه بخلاف القضاء.
الوجه الثاني: حق الإنتفاع بمال الوقف:
المالك
رقبة اموال الوقف هو الله تعالى، ولذلك لا يجوز التصرف في مال الوقف بأي من
التصرفات الناقلة للملكية كالبيع والهبة والنذر أو الوصية...إلخ، إلا أنه يجوز
تأجير مال الوقف، وبموجب عقد الإيجار فأنه يتقرر حق المستأجر للعين الموقوفة في الإنتفاع بمال الوقف المؤجر في الغرض المخصص
له مال الوقف، ووفقا لأحكام عقد الايجار
في الشريعة والقانون فأن موت المستأجر لاينهي عقد الإيجار، إذ ينتقل الحق في
الانتفاع بالعين المؤجرة إلى ورثة المستأجر، كما أنه اذا كان المستأجر قد قام
بالبناء أو الغرس أو الإصلاح في العين المؤجرة بإذن من الجهة صاحبة الولاية على
الوقف، فعندئذ يتقرر للمستأجر حق العناء الظاهر أو حق اليد العرفية أو الشقية.
فحق الإنتفاع بالوقف حق مالي له مقابل نقدي أو عوض، اما حق
اليد أو الشقية (العناء) فهو حق يضاف إلى حق الإنتفاع، إذا كان المستأجر لأموال
الوقف قد قام بالبناء أو الغرس في أموال الوقف المؤجرة منه أو قام بإصلاحها، فإذا
كان الغرس والبناء والإصلاح قد تم بموافقة مكتب الأوقاف العامة أو ناظر الأوقاف
الخاصة، فعندئذ يتقرر الحق في العناء،
وفي هذا الشأن نصت المادة (86) من قانون الوقف على أنه (ليس لمستأجر عين الوقف أو
أملاكه حق اليد إلا في العناء الظاهر كالغرس والبناء والإصلاح إذا كان ذلك بأمر
المتولي على أن يقرر ذلك الحاكم بإحالة من الجهة المختصة).
كما أن حق الإنتفاع بالعين الموقوفة قد يتقرر بموجب
وقفية الواقف الذي يحدد في الوقفية الموقوف عليهم الذين يحق لهم الإنتفاع بالعين
الموقوفة.
الوجه الثالث: جواز التحكيم في الخلاف على حق الإنتفاع بمال الوقف:
سبق القول في الوجه الثاني أن حق الإنتفاع بمال
الوقف يتقرر بموجب وقفية الواقف الذي يحدد الأشخاص الذين يحق لهم الإنتفاع
بالأعيان التي يوقفها الواقف، فالواقف يحدد في وقفيته الأشخاص الموقوف عليهم الذين
يحق لهم الإنتفاع بالأعيان الموقوفة، كما أن حق الإنتفاع بالأموال الموقوفة قد
يتقرر بموجب عقد إيجار العين الموقوفة فيما بين ولي الوقف والمستأجر للوقف، فيترتب
على عقد الإيجار حق الإنتفاع بالعين الموقوفة المؤجرة، لأن عقد الإيجار في الفقه
هو (عقد يفيد تمليك منفعة)، ونخلص من هذا إلى
القول بأن الإنتفاع بالعين الموقوفة حق معتبر في الشريعة والقانون، وعلى هذا
الأساس فأنه يجوز للأشخاص المتنازعين بشأن الإنتفاع بالوقف اللجوء إلى وسيلة
التحكيم لحسم خلافاتهم بشأن الإنتفاع بالوقف، لأن هذا النوع من التحكيم لا يمس حق
ملكية الرقبة في العين الموقوفة فهي حق لله تبارك وتعالى، فلا يتناول التحكيم بشأن
الإنتفاع ولا يمس ملكية العين الموقوفة حسبما قضى الحكم محل تعليقنا.
وقد اجاز الحكم محل تعليقنا التحكيم في الحق في الانتفاع بمال الوقف (حق اليد) على أساس ان هذا التحكيم لا ينصرف إلى ملكية الرقبة أو اصل مال الوقف، لان البائع والمشتري أو المنتفع المحتكم في منفعة الوقف مقر ومعترف بان أصل الأرض أو ملكية رقبتها هي للأوقاف وليس له فيها الا حق الانتفاع ،فمحل التحكيم وموضوعه في هذه الحالة ليس ملكية الرقبة في مال الوقف وإنما حق الانتفاع في تلك الأرض، وطالما ان حق الانتفاع في أرض الوقف حق قابل للانتقال والتصرف فهو قابل للتحكيم ، لأن المحتكم يملك التصرف في حقه في الإنتفاع بالعين الموقوفة، ولذلك يجوز لصاحب الحق في الإنتفاع بمال الوقف التصالح اوالتحكيم في حق الإنتفاع، حسبما قضى الحكم محل تعليقنا، والله اعلم.
![]() |
جواز التحكيم بشأن منفعة الوقف |