تنحي المحكم
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
أشار
قانون التحكيم مجرد إشارة إلى تنحي المحكم غير أن قانون التحكيم لم يبين إجراءات
تنحي المحكم وكيفية ذلك، إلا أن قانون التحكيم قد اشار أيضا إلى أنه ينبغي إتباع
الإجراءات المقررة في قانون المرافعات عندما لا يرد تنظيم لها في إتفاق التحكيم أو في
قانون التحكيم، وبما إن إجراءات تنحي المحكم لم يتناولها قانون التحكيم ولم يتفق المحتكمون
بشانها، لذلك ينبغي أن تتم إجراءات تنحي المحكم على غرار إجراءات تنحي القاضي
المقررة في قانون المرافعات، وعلى هذا الأساس فلا يقبل قول الخصم بأن المحكم قد
تنحى عن نظر الخصومة التحكيمية وأنه قد قام بإصدار حكم التحكيم بعد تنحيه وأن حكمه
منعدم مالم يثبت المدعي بالتنحي وقوع التنحي فعلا، فإذا ادعى الخصم المحتكم تنحي
المحكم فأنه يجب على محكمة الموضوع عندئذٍ أن تبحث هذه الواقعة المدعى بها وتناقشها
وأن تفصل فيها، فإذا لم تفعل محكمة الموضوع ذلك فإن حكمها يكون معيبا، حسبما قضى
الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
12-10-2015م في الطعن رقم (57104)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فقد تبين: أن الطاعن قد
نعى على الحكم الاستئنافي أنه قد خالف القانون حينما تجاهل الدفع المقدم منه
المتضمن أن المحكم قد عزل نفسه وانتهت ولايته في نظر القضية مع خصمه وأنه لا يوجد
في قانون التحكيم ما يمنع المحكم من أن يعتزل التحكيم أو يتنحى عن ذلك، وبتأمل
الدائرة لأوراق القضية فقد تبين لها: أن ما ذهبت إليه محكمتا الموضوع بشأن سبق
الفصل في الدعوى بحكم تحكيم، وأنه لايوجد قرار عزل للمحكم حسبما أشارت إليه الشعبة في حكمها، والدائرة
تجد: أن نعي الطاعن وجيه، فالمحكمتان لم تبحثا في واقعة تنحي المحكم قبل صدور حكمه،
مع أن الطاعن أثار ذلك أمام المحكمة الابتدائية عندما ابرز خصمه حكم التحكيم في
مواجهة دعوى الطاعن دافعاً بعدم قبول دعوى الطاعن لسبق الفصل فيها بحكم التحكيم، غير
أن المحكمة الابتدائية لم تبحث دعوى الطاعن بتنحي المحكم قبل قيامه بإصدار حكمه،
وكذا أثار الطاعن ذلك أمام الشعبة الاستئنافية ولم تفصل في ذلك، مع أن الطاعن كان
قد تقدم أمام المحكمتين بشهود يستدل بشهادتهم على واقعة تنحي المحكم قبل قيامه
بإصدار حكم التحكيم، وقد تجنبت الشعبة بحث هذه الواقعة وبدلاً من ذلك بحثت في
مسألة مدى وجود قرار العزل من عدمه، ولذلك لزم الإرجاع لمحكمة أول درجة لبحث دعوى
تنحي المحكم قبل صدور حكمه، ليتم على ضوء ذلك الفصل في القضية))، وسيكون تعليقنا
على هذا الحكم، حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:
الوجه الأول: ماهية تنحي المحكم:
أكتفى
قانون التحكيم اليمني بالإشارة إلى تنحي المحكم، وذلك في المادة (26) التي نصت على
أنه (يتم تعيين بدل المحكم الذي انتهت مهمته بالرد أو العزل أو التنحي أو بأي سبب
آخر، وفقاً للإجراءات التي يتم بها تعيين المحكم الذي انتهت مهمته) فقد اشارت هذه
المادة إلى تنحي المحكم دون بيان ماهية تنحي المحكم وإجراءات ذلك، وبما أن قانون
التحكيم لم يحدد ماهية تنحي المحكم فأنه
يتم الرجوع إلى قانون المرافعات لمعرفة ماهية تنحي المحكم عملا بالمادة (32) تحكيم
التي اشارت إلى ضرورة التزام المحكم أو هيئة التحكيم بأحكام قانون المرافعات التي
تعتبر من النظام العام، وقد نظم قانون المرافعات تنحي القضاة بمسمى الإمتناع
الوجوبي وذلك في المواد من (128) وحتى المادة (131)، والظاهر مما ورد في المادة
(128) مرافعات أن معنى التنحي هو: إمتناع القاضي وتوقفه عن نظر القضية من تلقاء
نفسه ولو لم يطلب الخصوم منه ذلك إذا تحققت إحدى الحالات الموجبة لتنحي القاضي،
وقد حدد قانون المرافعات حالات التنحي في المادة (128) مثل القرابة والمصاهرة أو الخصومة
بين القاضي أو زوجته أو أولاده مع أحد
الخصوم...إلخ، وعلى هذا الأساس فإن معنى تنحي المحكم هو: إمتناع المحكم عن نظر
الخصومة التحكيمية لوجود قرابة أو خصومة فيما بينه أو زوجته أو أولاده مع أحد
الخصوم، بيد أن مفهوم تنحي المحكم أوسع من مفهوم تنحي القاضي، فالمحكم يستطيع
التنحي عن نظر الخصومة التحكيمية من غير سبب ومن غير أن تكون هناك حالة من حالات
التنحي الوجوبي، لأن المحكم لا يكون منكراً للعدالة إذا امتنع عن نظر الخصومة التحكيمية
من غير سبب بخلاف القاضي فأنه إذا امتنع عن نظر القضية من غير سبب قانوني يكون منكرا للعدالة. (التحكيم الإختياري
والإجباري لأستاذنا المرحوم الدكتور أحمد أبو الوفاء، ص172).
الوجه الثاني: إجراءات تنحي المحكم:
كان
أغلب النقاش في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان يدور بشأن إثبات تنحي
المحكم وما إذا كان من اللازم صدور قرار بتنحي المحكم من قبل المحكمة المختصة،
فقد كان الحكمان الابتدائي والاستئنافي مصران
على ان تنحي المحكم يكون بقرار تصدره المحكمة المختصة، فتنحي المحكم يستلزم إثباته عن طريق قرار صادر
من المحكمة بتنحي المحكم.
في
حين كان حكم المحكمة العليا محل تعليقنا قد نقض الحكم الاستئنافي، لأنه ومن قبله
الحكم الابتدائي لم يناقشا الواقعة التي ادعى بها الطاعن، وهي واقعة تنحي المحكم
من تلقاء نفسه عن نظر الخصومة التحكيمية بحضور شهود صرح أمامهم المحكم انه قد تنحى
عن نظر الخصومة، مع أن الطاعن كان قد استشهد أمام محكمتي الموضوع بشهود عدة شهدوا
أن المحكم قد صرح بأنه قد تنحى عن نظر الخصومة، وقد كان تصريح المحكم بالتنحي قبل
أن يقوم بإصدار حكم التحكيم، وقد ألمح الحكم محل تعليقنا إلى انه لا يلزم لاثبات تنحي
المحكم صدور قرار من المحكمة بتنحي المحكم، وإنما يكفي إثبات إتصال علم المحكمة بطلب
التنحي أو موافقتها أو تأشيرتها على طلب التنحي الذي يقدمه إليها المحكم.
وقد حدد قانون المرافعات إجراءات تقديم طلب التنحي بالنسبة للقضاة، وقد ذكرنا أن قانون
التحكيم لم يتضمن إجراءات تنحي المحكم وأن المرجع في ذلك هو قانون المرافعات الذي
حدد إجراءات التنحي في المادة (130)، فوفقا لهذه المادة يتم التنحي عن طريق قيام القاضي المتنحي بإبلاغ رئيس
المحكمة التي يتبعها القاضي طالب التنحي حتى تقوم المحكمة بتكليف من ينظر الدعوى
التي تنحى عن نظرها، وبناءً على هذا النص فإن الغرض من تقديم القاضي لطلب تنحيه
إلى رئيس المحكمة هو قيام رئيس المحكمة بتكليف قاضي آخر ليقوم بنظر القضية بدلاً عن القاضي المتنحي،
وعلى هذا الأساس لا يلزم صدور قرار بتنحي القاضي، وهذه الإجراءات هي الواجب
إتباعها بالنسبة لتنحي المحكم، إذ ينبغي عليه إذا ما أراد التنحي من تلقاء نفسه
لأي سبب أن يقدم طلباً بذلك إلى رئيس المحكمة، فلا يستلزم الأمر أن يصدر رئيس
المحكمة قرارا بتنحي المحكم.
علماً بأن ولاية المحكم تستند إلى إتفاق التحكيم الذي تم بموجبه تعيين المحكم وتحديد موضوع التحكيم الذي يتولى الفصل فيه، وإتفاق التحكيم يفترض أن المحكم قد وافق أو قبل بتعيينه محكماً، ومؤدى ذلك أن المحكم قد يتنحى من غير سبب، وأنه ينبغي عليه إخطار الخصوم المحتكمين الذين اختاروه الموقعين على إتفاق التحكيم ، والله اعلم.
![]() |
تنحي المحكم |