نهائية القرار الإداري

 

نهائية القرار الإداري

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

المذكرات والتقارير والتوصيات والمقترحات السابقة للقرار الإداري لا ينطبق عليها مفهوم القرار الإداري الذي يجب أن يكون نهائياً أي أن تكون جهة الإدارة قد اصدرته بالفعل وأنه صالح للتنفيذ ، وعلى هذا الأساس لا يجوز الطعن أو المطالبة بإلغاء المذكرات والتوصيات والمقترحات السابقة لصدور القرار الإداري ، لان مفهوم القرار الإداري لاينطبق عليها، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة الإدارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26-4-2016م في الطعن رقم (57488)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((فقد وجدت الدائرة: أن مناعي الطاعن غير سديدة، إذ أنه بعودة الدائرة الإدارية إلى مدونة الحكم محل الطعن تبين أن الحكم قد بني على أسباب جلية واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهي أن دعوى الإلغاء قد انصبت على مذكرات إدارية لا تكتسب صفة القرار الإداري الذي يشترط لكي يصير محلاً لدعوى الإلغاء أن يكون صادراً بصورة انتهائية تنفيذية))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية:

الوجه الأول: مفهوم القرار الإداري:

عرف الفقه الفرنسي القرار الإداري بعدة من تعريفات لعل أهمها ما ذهب إليه الفقيه Maurice Hauriou حيث عرفه بأنه " إعلان للإدارة بقصد إحداث أثر قانوني إزاء  الأفراد، يصدر عن سلطة إدارية في صورة تنفيذية أي في صورة تؤدي إلى التنفيذ المباشر". إلا أن هذا التعريف وإن أشار فيه بوضوح إلى أبرز خاصية في القرار الإداري كونه يتمتع بالطابع التنفيذي، إلا أنه جاء خاليا من الإشارة إلى الخاصية الانفرادية أي  أنه يصدر بصفة انفرادية عن الإدارة، إضافة إلى أن هذا التعريف يقصر خطاب القرار الإداري و يحصره في مواجهة الأفراد فقط دون الإدارة العمومية والمؤسسات الأخرى.

أما Léon Duguit فقد عرف القرار الإداري على أنه " التصرف الإداري الذي يصدر بقصد تعديل الاوضاع القانونية"، وهو تعريف غير دقيق كون تصرفات الإدارة متعددة فمنها  ما هو انفرادي أي تتخذه بصفة انفرادية ومنها ما تتخذه بتلاقي إرادتين كالعقود الإدارية، إضافة إلى كون أثر القرار الإداري لا يقتصر فقط على تعديل المراكز القانونية بل يتعدى  ذلك إلى إنشاء مراكز قانونية جديدة، كما قد يكون ملغي للمراكز قانونية القائمة.

أما الفقه العربي فقد عرف سليمان الطماوي القرار الإداري: " إن القرار هو أبرز مظهر يتجسد فيه سلطان الإدارة و أهم مظهر لاتصال الإدارة بالأفراد". وعرفه فؤاد مهنا أنه: "عمل قانوني من جانب واحد يصدر بإرادة أحد السلطات ا لإدارية في الدولة ويحدث أثارا قانونية بإنشاء وضع قانوني جديد أو تعديل أو إلغاء وضع قانوني قائم". ويبدوا أن هذا التعريف قد استفاد من الانتقادات الموجهة للتعريفات الفقهية السابقة للقرار الإداري ، وهو ما دفع  الفقهاء إلى الالتفاف حول هذا التعريف وتزكيته، وفي الجزائر لم يضع التشريع أي تعريف محدد للقرار الإداري، إلا أنه إكتفى بالنص عليه في بعض النصوص، لتبرز بعض الاجتهادات التي حاولت وضع تعريف محدد يبرز موقفه من الجدل الفقهي المقارن، فعرف الأستاذ عمار عوابد القرار الإداري أنه: "كل عمل قانوني انفرادي، يصدر بإرادة إحدى الجهات الإدارية المختصة، وتحدث أثار قانونية بإنشاء مركز قانوني جديد أو تعديل أ و إلغاء مركز قانوني قائم". وهو تعريف يشمل كافة عناصر القرار الإداري مما يجعله مكملا لما توصل إليه الفقه المقارن.

الوجه الثاني: معنى نهائية القرار الإداري:

لايُحدث القرار الإداريّ أي أثر قانوني في المحيط الخارجي إلا إذا توافرت له الصفة النهائية أو النافذة أو التنفيذية، وقد تعددت مصطلحات القرار الإداريّ النهائي في كل من الاتجاهات الفقهيّة والاجتهادات القضائيّة، فمن خلال مطالعة الاجتهاد والفقه الإداريّ  نجد تعابير عدّة لوصف القرار الإداريّ؛ فقد استخدم بعضهم مصطلح القرار النافذ أو التنفيذي، واستخدم بعضهم الآخر مصطلح القرار النهائي. وعلى الرغم من اختلاف المصطلحات فإنّه يجمعها قاسم مشترك واحد هو أن القرار الإداريّ النهائي أو التنفيذي يقصد به صدوره عن السلطة المختصة قانونًا، التي تملك حق إصداره على نحوٍ نهائي من دون حاجة إلى تصديق أو اعتماد أو تعقيب من سلطة أخرى ويكون له تأثير في المركز القانونيّ للمخاطب به الذي استهدفه القرار بأن ينشئ وضعًا قانونيًا جديدًا أو تعديلًا أو إلغاءً لوضع قانوني قائم.

وأول مشكلة يعالجها القاضي عندما يعرض النزاع عليه هي تحديد طبيعة العمل الإداريّ محلّ الطعن؛ إذ في حالات كثيرة يتوقف الفصل في النزاع المطروح أمامه على تحديد طبيعة القرار، إذ تطرح إشكالية ما إذا كان التصرف المطعون فيه أمام القاضي هو قرار إداريّ أم لا، ومعرفة ما إذا القرار المطعون فيه ذي أثر على مركز الطاعن ويلحق ضررًا بحقوقه ومصالحه أم لا، بحسبان أن دعوى الإلغاء لا تقبل إلا ضد القرارات الإداريّة النهائية التي استكملت مراحلها الإداريّة اللازمة المنصوص عليها في القوانين والأنظمة والمولدة بذاتها الآثار القانونية.

 فقد سبق القول في الوجه الأول أن القرار الإداري هو إفصاح الإدارة في الشكل الذي يتطلبه القانون عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطة بمقتضى القوانين واللوائح؛ وذلك بقصد إحداث أثر قانوني معيّن متى كان ممكناً وجائزاً قانوناً، وكان الدافع إليه ابتغاء مصلحة عامة، فمن هذا التعريف يمكن تلخيص عناصر القرار الإداري كما يأتي :

1ـ القرار الإداري هو عمل قانوني: أي إنه تعبير عن الإرادة بقصد ترتيب أثر قانوني، هذا الأثر قد يكون إنشاء لمركز قانوني أو تعديلاً له أو إلغاءه، وعليه  فإنه يخرج من نطاق القرار الإداري الأعمال الأتية :

أ ـ الأعمال المادية الصادرة عن الإدارة سواء أكانت إرادية كما هو الشأن بالنسبة إلى البيانات التي تثبتها جهة الإدارة في الدفاتر، أم غير إرادية نتيجة الإهمال أو الخطأ من جانب أفراد السلطة الإدارية كحوادث السيارات.

ب ـ الأعمال والإجراءات التحضيرية والتمهيدية التي تسبق القرار الإداري، وتمهد له دون أن ترتب بذاتها أثراً، كما هو الحال بالنسبة إلى التحقيقات التي تقوم بها الإدارة مع الموظف تمهيداً لتوقيع الجزاء التأديبي عليه، والاقتراحات والتوصيات والفتاوى التي تصدرها لجنة استشارية أو فنية، ومن ذلك أيضاً الأعمال المتعلقة بالمعاينة وإثبات الحالة، وأيضاً تبادل المعلومات بين الإدارات والفروع المختلفة.

ج ـ الأعمال والإجراءات اللاحقة على اتخاذ القرار الإداري، والتي تستهدف وضعه موضع التنفيذ أو تسهيل تطبيقه، ومن أمثلتها الأعمال المتعلقة بنشر القرار أو إعلانه إلى ذوي الشأن، وكذلك ما تصدره الإدارة من أعمال تؤكد بها ما سبق أن أصدرته من قرارات ما دامت لم تضف جديداً إلى القرار الأصلي.

د ـ الإجراءات التنظيمية الداخلية مثل المنشورات والتعليمات الإدارية والمصلحية التي توجهها السلطات الرئاسية في الإدارات والمصالح إلى مرؤوسيها.

هـ ـ المنشورات أو القرارات التفسيرية التي تتضمن فقط شرح النصوص القانونية واللائحية أو توضيحها.

و ـ الإجراءات التي تتخذها الإدارة تنفيذاً لما تقضي به القوانين دون أن يكون لها أي قدر من سلطة التقدير بحيث يبدو تصرفها مجرد تنفيذ حرفي لحكم القانون، مثال ذلك الأعمال والإجراءات التي تتخذها الإدارة بخصوص التسويات والحقوق المالية للموظفين والتي ثبتت لهم بموجب نصوص القانون.

2. القرار الإداري عمل قانوني يصدر بالإرادة المنفردة للإدارة: القرار الإداري  عمل قانوني يصدر با لإرادة المنفردة للإدارة، وهذا العنصر يعتبر أساس التفرقة بين القرار الإداري والعقد الإداري، ذلك أن العمل القانوني في العقد لا يظهر أثره إلا إذا تلاقت إرادة الإدارة وإرادة الفرد أو الجهة المتعاقدة، في حين أن العمل  القانوني في القرار الإداري يظهر أثره دون تدخل من جانب الأفراد بل بالإرادة المنفردة للإدارة، وعليه فإن العقود الإدارية التي تبرمها السلطات الإدارية مع الغير ليست من قبيل القرارات الإدارية مما يجعلها غير قابلة للطعن بالإلغاء، بل تكون محلا لدعاوى إدارية أخرى كدعوى القضاء الكامل.

وإذا كان الطابع الانفرادي للقرار الإداري يعني أن هذا القرار يصدر دون إرادة المخاطبين به، لكن في حالات كثيرة يكون المعنيون بالقرار موافقين مسبقا على إصداره، أو يكون تطبيقه متوقفا على إرادتهم ، أو على صدور تصرف إيجابي من طرفهم، مثل القرارات الإدارية الصادرة بناءا على طلب، و القرارات التي تتطلب واجب الإعلام  ،والقرارات الصادرة بعد سماع المعنيين بها و غيرذلك، وصدور القرار الإداري بالإرادة المنفردة للإدارة هو الذي يميزه من العقد الإداري الذي ينشأ من تلاقي إرادة الإدارة مع إرادة أخرى، حتى لو كانت الإرادة الأخيرة لشخص من أشخاص القانون العام؛ وذلك لعدم وجود طابع الإرادة المنفردة.

3ـ أن يكون القرار الإداري نهائياً (تنفيذياً): أي أن يصدر القرار الإداري من سلطة إدارية تملك حق إصداره بشكله النهائي، دون الحاجة إلى تصديقه من سلطة إدارية أعلى؛ أي إنه استنفذ جميع مراحل التدرج الإداري اللازمة لوجوده قانوناً، وهذا يعني أنه يترتب على صدوره بشكله النهائي أثرٌ قانونيٌ معيّن، وذلك بإنشاء وضع قانوني أو تعديله أو إلغائه، وسواء تعلق الأمر بقرار تنظيمي أم بقرار فردي.

 فإالنهائية المقصودة بالقرارات الإدارية هي: أن تكون تلك القرارات صادرة من السلطة التي تملك إصدارها، ولا يكون هناك ثمة سلطة إدارية أخرى للتعقيب عليها، لأنه في هذه الحالة يكون موضوع القرار مجرّد اقتراح أو إبداء رأي لا يترتّب عليه الأثر القانوني للقرار الإداري النهائي.

وممّا يجب التنويه إليه هنا، أن توقيت القرار الإداري لا يتعارض مع نهايته، لأن التوقيت ينصبّ على آثار القرار الإداري، وكذلك ممّا يجب ذكره أيضًا: أن قابلية القرار الإداري للسحب من قِبل الجهة الإدارية التي أصدرته لا يمنع- كأصل عام- من النهائية، وبالتالي لا يمنع ذلك من الطعن فيه أمام المحكمة الإدارية.

وكذلك القرار الموقوف يقبل الطعن فيه بالإلغاء، طالما كان نهائيًا وممكنًا تنفيذه في أي لحظة دون الحاجة إلى التصديق عليه من سلطة أعلى، وذلك لأن القرار الموقوف لا يزول نهائيًا من الوجود، وإنما توقف آثاره مؤقتًا حتى يتمّ صدور قرار آخر بشأنه من الجهة التي أصدرته.

ومن باب التيسير على المتخاصمين: فلقد جرى القضاء الإداري على قبول دعوى الإلغاء، حتى ولو كان القرار المطعون فيه بالإلغاء غير نهائي، عند رفع الدعوى، طالما أنه قد اكتسب صفة النهائية أثناء سير إجراءات الدعوى.

وترتيبًا على هذا، فإن قرارات مجالس إدارات النقابات المتعلّقة بإحالة أعضائها إلى التحقيق، هي قرارات إدارية نهائية، طالما أنها قد صدرت وفقًا لأحكام اللوائح والنظام الأساسي  للنقابات ،لأن هذه القرارات لا تحتاج إلى سلطة أعلى منها للتصديق عليها.

فالنهائية في القرار الإداري ، هو القرار الأخير الصادر من الإدارة في الموضوع، والذي ينفذ بغير حاجة إلى صدور قرار آخر يصدر من جهة أعلى، وذلك كله بمعنى استنفاذ جميع مراحل التوجيه والاقتراح وإعداد المشروعات والمقترحات والاعتماد أو التصديق ممّن يملك ذلك قانونًا.

وتأسيسًا على ما تقدّم: فإن كافة الأعمال التحضيرية أو التمهيدية أو التحقيقات التي تتمّ لدى جهات الإدارة ، وتتمّ خلالها التوصية بتوقيع جزاءات أو عقوبات إدارية، فإن هذه التوصيات لا تعتبر قرارات إدارية يجوز الطعن عليها بالإلغاء، لأنها لا تعتبر نافذة بحدّ ذاتها إلا بعد التصديق عليها أو اعتماد أو صدور قرارات بشأنها من السلطة الإدارية التي تملك إصدار القرار، لأنه عندئذ يكون الطعن على القرار النهائي الصادر بتنفيذ هذه التوصيات وفق الإجراءات القانونية الواجبة في مثل هذه الأوضاع، لأن القرار النهائي في هذا الشأن يعدّ صادرًا من الجهة التنفيذية المختصّة، وقابلاً للتنفيذ بعد استنفاذ جميع مراحل الإصدار، ولم يعد في حاجة إلى أي إجراء آخر، كما أن النشرات أو التعاميم التي تصدر في المصالح والجهات الحكومية، بهدف إيضاح أو تفسير بعض الإجراءات للقوانين  لايجوز الطعن فيها بالإلغاء، طالما أنها لم تتضمّن أحكامًا جديدة من شأنها أن تحدث أثرًا قانونيًا جديدًا يؤثّر على المراكز القانونية القائمة، سواء بالإلغاء أو التعديل، ولم يكن لها ثمة سند في اللوائح والقوانين الأصلية.

وتختلط الصفة النهائية بالنفاذ، لأن القرار النهائي هو القرار الذي يكون نافذًا بمجرد صدوره، إلا أن النهائية لا تمنع جواز سحبه من الجهة التي أصدرته أو وقف تنفيذه، وكذلك لا يمنع من الطعن في القرار أن تقوم الجهة المختصة بإصداره بطلب رأي بعض الجهات على سبيل الاستئناس ما دام لها وحدها في النهاية سلطة التقدير في الأمر بغير لزوم من تدخل لاحق من أي سلطة أخرى للتصديق على قرارها.

والأمر يزداد تشعبًا في مجال القرارات الإدارية المركّبة والتي تأتي على مراحل عدة حتى صدور القرار الإداري النهائي بشأنها، وخير مثال لهذه القرارات المركّبة هو قرار التعيين، فهو يبدأ بقرار الإعلان عن وجود وظيفة شاغرة، وينتقل منه إلى مرحلة المفاضلة والتي تكون إما بصورة اختبار تحريري أو مقابلة شخصية أو كليهما معا، ثم يصدر قرار التعيين، وكل مرحلة من مراحل إصدار قرار التعيين هي مرحلة مستقلة بذاتها، وتشكل قرارا إداريا مستقلا يقبل الطعن عليه استقلالًا دون الحاجة إلى انتظار صدور القرار النهائي عن هذه العملية المركبة، لكن يجدر الانتباه إلى أنه متى ما صدر القرار الإداري النهائي الناتج عن هذه العملية المركبة فإن جميع المراحل والقرارات السابقة تندمج في القرار النهائي وتشكل معه وحدة واحدة لا تتجزأ، فمتى ما صدر القرار الإداري النهائي لا يمكن أن يتم إقامة الدعوى على أحد تلك القرارات استقلالًا، وعليه فإن القرار الذي يصلح محلًا للطعن بالإلغاء يجب أن ينفذ كي يصبح المركز القانوني الذي يحدثه حالا ومؤثرًا. أما الإجراءات التنفيذية أو إجراءات التنظيم الداخلي التي لا تؤثر في مركز قانوني، فلا ينطبق عليها وصف القرار الإداري، (القرار الإداري نفاذه، تنفيذه، نهايته، وهيب عبدالله سعد‏)، والله اعلم.

نهائية القرار الإداري
نهائية القرار الإداري


تعليقات