إحالة التحكيم إلى الغير
أ.د/
عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
في
بعض الحالات يقوم الخصوم بالإتفاق على التحكيم كتابة وتسمية المحكم وكتابة اسمه في إتفاق التحكيم، وبعد ذلك يقوم هذا المحكم
بإحالة الخصوم المحتكمين إلى محكم اخر يرى أنه أجدر واقدر على حسم الخصومة
التحكيمية، فيقبل الخصوم ذلك شفاهة فيحضر
الخصوم أمام المحال إليه التحكيم ويقوموا بالترافع أمام المحكم المحال إليه
التحكيم دون اعتراض منهم، فإذا قام الشخص المحال عليه التحكيم بإصدار حكمه فإن
حكمه يكون باطلا طالما أن الخصوم لم يتفقوا كتابة على تعيين المحكم المحال عليه
التحكيم، حسبما قضى الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 11-11-2013م في الطعن رقم (52595)، الذي
ورد ضمن أسبابه: ((فقد وجدت الدائرة: أن نعي الطاعن في غير محله، فالثابت أن (فلان
بن فلان) لم يكن محكماً وليس له ولاية لإصدار حكم التحكيم، فالتحكيم من الطرفين
كان في الأصل للمحكم....، الذي بدوره احال الطرفين مع رقم التحكيم على
الشيخ........، فما كان من الشيخ إلا أن اصدر حكمه بناءً على تلك الإحالة، ودون
إتفاق كتابي على تحكيمه، اما حضور الطرفين أمام الشيخ...... فلا يعد إختياراً
منهما للشيخ، وقد رد الحكم الاستئنافي على ذلك بالقول: فكان الصواب هو لزوم تحرير
إتفاق تحكيم للشيخ مصدر الحكم لتصبح له الولاية في التحكيم))، وسيكون تعليقنا على
هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول: المقصود بإحالة التحكيم إلى الغير :
المقصود بذلك أن المحكم المختار من قبل الخصوم يقوم
بنقل التحكيم الصادر له من قبل الخصوم إلى محكم اخر يرى أنه أجدر واقدرمنه لنظر
الخصومة التحكيمية والفصل فيها، ويقوم المحكم بذلك من تلقاء نفسه، وقد يتم بذلك
بموافقة من الخصوم المحتكمين من غير أن تتم كتابة هذه الموافقة مثلما حصل في
القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا، فإذا رفض الخصوم تلك الإحالة في حينه فان الإحالة
تبطل في هذه اللحظة، وكذا تبطل الإحالة ويبطل معها إتفاق التحكيم اذا لم يعترض
الخصوم على الإحالة وحضروا أمام المحال إليه التحكيم من غير أن يتفقوا كتابة على
تعيين المحكم المحال إليه التحكيم، التحكيم في هذه الحالة يكون باطلا لعدم كتابة إتفاق التحكيم، فاتفاق التحكيم
الشفوي باطل حسبما قضى الحكم محل تعليقنا لان القانون اشترط ان يكون إتفاق التحكيم
مكتوباً .
الوجه الثاني : موافقة الخصوم الشفوية والكتابية على المحكم المحال إليه التحكيم :
إذا وافق الخصوم شفاهة على إحالة التحكيم إلى المحكم
المحال عليه التحكيم فإن هذه الموافقة غير معتبرة، لان قانون التحكيم قد اشترط
صراحة ان أن يكون إتفاق التحكيم مكتوباً.
فالكتابة
شرط إنعقاد وصحة إتفاق التحكيم، وليست الكتابة شرط إثبات إتفاق التحكيم
حسبما سبق بيانه في تعليق سابق، وقد ابطل الحكم محل تعليقنا ابطل حكم التحكيم، لان
الخصوم لم يحرروا وثيقة تحكيم مكتوبة باسم المحكم المحال عليه التحكيم مع أن
الخصوم قد حضروا أمام ذلك المحكم وترافعوا
أمامه حتى فصل في الخصومة بحكم التحكيم الذي ابطلته محكمة الاستئناف واقرت المحكمة
العليا الحكم الاستئنافي، حيث قضى الحكم محل تعليقنا ببطلان التحكيم في هذه القضية
لان الخصوم لم يكتبوا موافقتهم على المحكم المحال إليه التحكيم .
اما إذا كانت موافقة الخصوم على المحكم المحال
عليه التحكيم مكتوبة فإن الموافقة تكون في هذه الحالة بمثابة إتفاق تحكيم صحيح على
اختيار المحكم المحال إليه التحكيم، وتبعا لذلك تكون الإجراءات صحيحة، وكذا يكون
التحكيم صحيحا.
الوجه الثالث : الكتابة في إتفاق التحكيم في قانون التحكيم :
إتفاق التحكيم عقد فيما بين اطرافه، وفي هذا المعنى نصت المادة (2)
تحكيم ضمن تعاريف قانون التحكيم نصت على أن: (إتفاق التحكيم: موافقة الطرفين على
الإلتجاء إلى التحكيم والتي تشملها وثيقة التحكيم – أي عقد مستقل – أو شرط التحكيم
– أي بند في عقد)، فالإتفاق عند بعض المؤلفين هو العقد، في حين يذهب البعض الاخر
منهم الى ان الإتفاق مرحلة سابقة على العقد أي
أن الإتفاق خطاب نوايا أو تمهيد للعقد أو وعد بالعقد الذي سيتم ابرامه
لاحقا ، وفي السياق ذاته نصت المادة (4)
تحكيم على أن: (ينعقد التحكيم بأي لفظ يدل عليه وقبول من المحكم ولا يجوز إثبات
التحكيم إلا بالكتابة)، وهذا النص صريح في التقرير بأن إتفاق التحكيم عقد ينعقد
بالإيجاب والقبول، كما أن هذا النص قد حصر وسيلة إثبات إتفاق التحكيم على الكتابة،
وبما أن إتفاق التحكيم تسري عليه أحكام العقود المنصوص عليها في القانون المدني بما
في ذلك ما ورد في المادة (13) مدني التي نصت على أن: (العقد ملزم للمتعاقدين،
والأصل في العقود والشروط الصحة حتى يثبت ما يقتضي بطلانها والغش يبطل العقود
والغرر اليسير فيها الذي لا يمكن الإحتراز عنه عادة لا يكون مانعاً من صحة العقد).
وإتفاق التحكيم وإن كان عقدا تسري عليه أحكام القانون المدني مثل غيره من
العقود حسبما سبق بيانه، إلا أن قانون التحكيم وهو القانون الخاص المقدم في
التطبيق على القانون العام وهو القانون المدني، قداشترط قانون التحكيم في إتفاق
التحكيم أن يكون مكتوباً، حسبما هو مقرر
في المادة( ١٥) تحكيم يمني التي صرحت بأن
الكتابة شرط إنعقاد إتفاق التحكيم، إذ نصت هذه المادة على أنه( لا يجوز الاتفاق
على التحكيم إلا بالكتابة ، سواءً قبل قيام الخلاف أو النزاع أو بعد ذلك وحتى لو
كان طرفا التحكيم قد أقاما الدعوى أمام المحكمة ويكون الاتفاق باطلاً إذا لم يكن
مكتوباً ويكون الاتفاق مكتوباً إذا تضمنته وثيقة تحكيم أو شرط تحكيم أو برقيات أو
خطابات أو غيرها من وسائل الاتصال الحديثة) فهذه المادة صرحت بعدم جواز التحكيم
الشفهي ووجوب أن يكون إتفاق التحكيم مكتوباً، وبناءا على ذلك فالكتابة شرط إنعقاد
وصحة إتفاق التحكيم، وعلى هذا الأساس فقد قضى الحكم محل تعليقنا ببطلان حكم المحكم
المحال إليه التحكيم، لان موافقة الخصوم على المحكم المحال عليه التحكيم لم تكن
مكتوبة.
وقانون التحكيم وان كان قد اشترط كتابة إتفاق
التحكيم بيد أنه لم يشترط أن يكون إتفاق التحكيم مكتوباً في وثيقة واحدة يقوم
بالتوقيع عليها الطرفان معا كما هو معروف في الإتفاقيأت الأخرى، كما ان القانون لم
يشترط ان يكون اسم الوثيقة( إتفاق تحكيم أو عقد تحكيم )، ولذلك يجوز بالنسبة
لاتفاق التحكيم أن يقوم كل طرف بالتوقيع على وثيقة مستقلة تتضمن موافقته على التحكيم،
بل أن قانون التحكيم قد اجاز ان تكون وثيقة التحكيم عبارة عن رسائل صادرة من
الخصوم اطراف التحكيم، ليس هذا فحسب، فقد توسع قانون التحكيم في مفهوم الكتابة
ذاتها فلم يشترط ان تكون بخط اليد فأجاز ان تكون
مطبوعة على أوراق أو رسائل عن طريق الهاتف أو الايميل ، إضافة إلى أن قانون
التحكيم لم يشترط أن يحرر اطراف إتفاق
التحكيم جميعاً إتفاق التحكيم في وثيقة
واحدة أو في مكان واحد أو في زمان واحد، فقد اجاز قانون التحكيم لاطراف التحكيم
تحرير مذكرات ورسائل التحكيم في مذكرات
عدة في يوم أو تاريخ واحد أو في مجلس أو مكان واحد بل اجاز ان تصدر موافقات
الأطراف على التحكيم في تواريخ واماكن مختلفة، وهذه المسائل كلها من خصوصيات إتفاق
التحكيم التي تميزه عن غيره من العقود، وفي هذا الشأن نصت المادة (15) تحكيم على
أنه: (ويكون الإتفاق مكتوباً إذا تضمنته وثيقة تحكيم أو برقيات أو خطابات أو غيرها
من وسائل الإتصال الحديثة ذات الطابع التوثيقي).
الوجه الرابع : طبيعة الكتابة في اتفاق التحكيم:
في هذا الشأن نصت المادة (4)تحكيم يمني على أنه(
ينعقد التحكيم بأي لفظ يدل عليه وقبول من المحكم، ولا يجوز إثبات التحكيم الا
بالكتابة ) وصياغة هذه المادة توحي
بأن الكتابة شرط لإثبات عقد التحكيم الا ان المادة( ١٥) تحكيم يمني صرحت بأن
الكتابة شرط إنعقاد إتفاق التحكيم، إذ نصت هذه المادة على أنه( لا يجوز الاتفاق
على التحكيم إلا بالكتابة ، سواءً قبل قيام الخلاف أو النزاع أو بعد ذلك وحتى لو
كان طرفا التحكيم قد أقاما الدعوى أمام المحكمة ويكون الاتفاق باطلاً إذا لم يكن
مكتوباً ويكون الاتفاق مكتوباً إذا تضمنته وثيقة تحكيم أو شرط تحكيم أو برقيات أو
خطابات أو غيرها من وسائل الاتصال الحديثة) فهذه المادة صرحت بأن إتفاق التحكيم
لايجوز إنعقاده الا عن طريق الكتابة وهذا دليل على أن الكتابة شرط إنعقاد وشرط
إثبات، وقد أستند الحكم محل تعليقنا إلى هذه المادة في قضائه ببطلان حكم التحكيم،
لأن الكتابة شرط إنعقاد أو شرط صحة، وهذا ما ذهب إليه قانون التحكيم المصري.
اما القوانين العربية والفقه والقضاء العربي فيذهب غالبيته إلى أن الكتابة شرط صحة إتفاق
التحكيم وليست شرط إثبات فقط، وقد قضى الحكم محل تعليقنا بأن الكتابة شرط لصحة
إنعقاد إتفاق التحكيم وليست شرطا لإثباته حسبما تقدم بيانه.
وقد ذهبت بعض القوانين العربية إلى أن الكتابة
في إتفاق التحكيم شرط إثبات وليس شرط إنعقاد، فقد نصت المادة 742 من قانون
المرافعات الليبي على أنه ( لا تثبت مشارطة التحكيم إلا بالكتابة)، في حين نصت
المادة 12 من قانون التحكيم المصري على أنه (يجب ان يكون اتفاق التحكيم مكتوبا و
الا كان باطلا) ، و المادة 6 من قانون التحكيم التونسي نصت على أنه ( لا تثبت
اتفاقية التحكيم إلا بكتب).
فيتبين من النصوص السابقة، أن قانون
التحكيم اليمني و قوانين التحكيم في مصر و تونس وليبيا و غيرها من القوانين
العربية متفقة على ان اتفاق التحكيم يجب ان يكون مكتوبا، ويظهر من صياغة النصوص
الواردة في قانون المرافعات الليبي و قانون التحكيم التونسي، إن الكتابة في اتفاق
التحكيم هي شرط إثبات و ليست شرط انعقاد، اما في القانون المصري فإن الكتابة شرط
انعقاد و ليس شرط إثبات.
على أي حال، لا يوجد أثر يذكر لهذه
التفرقة في الحياة العملية بالنسبة للتحكيم، سواء قلنا إن الكتابة هي لانعقاد
الاتفاق أو لإثباته، فالنتيجة العملية واحدة، إذ يندر أن يكون هناك ادعاء بوجود
اتفاق تحكيم شفوي، و يحاول المدعي إثباته بشهادة الشهود مثلا، أن ادعاء كهذا
يكاد يكون معدوما في الحياة العملية،وحسب القواعد العامة في الإثبات؛ فإنه يجوز
الإثبات بالبينة فيما كان يجب إثباته بالكتابة ( نص المادة 389 من القانون المدني
الليبي ) وعليه يجوز الاثبات بشهادة الشهود أو باقرار المدعى عليه أو اليمين
الحاسمة فيما كان يجب إثباته بالكتابة.
ولكننا نرى عدم تطبيق هذه القاعدة
العامة على الإثبات في اتفاق التحكيم للعديد من الأسباب:لأن صيغة النص على اشتراط
الكتابة في اتفاق التحكيم، جاءت جازمة بأن مثل هذا الاتفاق (لا يثبت إلا بالكتابة)
مما يعني أنه لا يجوز الاستعاضة عن الإثبات بالكتابة، بأي وسيلة إثبات أخرى.
إن مختلف الإحكام القانونية الأخرى
الخاصة بالتحكيم، تدل بوضوح على ان الاتفاق يجب أن يكون مكتوبا، مثال ذلك ما نصت
عليه المادة 760 على ان حكم التحكيم يجب ان يكون مكتوبا، و يجب ان يتضمن صورة من
مشارطة التحكيم، بل ذهب المشرع الليبي في الفقرة الخامسة من المادة 769 الي
بطلان الحكم إذا لم يراع هذا البيانات، و ما نصت عليه ايضا المادة 763 على انه لا
يصير حكم المحكمين واجب التنفيذ إلا بأمر يصدره قاضي الأمور الوقتية، بعد الاطلاع
على الحكم و مشارطة التحكيم، بداهة لا يمكن أن يتضمن حكم التحكيم اتفاق التحكيم،
و لا يمكن ان يصدر امر بالتنفيذ ما لم يكن هذا الاتفاق مكتوبا.
وما جرى عليه العرف التحكيمي،
والتطبيق العملي سواء في التحكيم الداخلي، أو الدولي من أن الكتابة اصبحت من
الاعراف التحكيمية الواجب العمل بها دون نص تشريعي، مع العمل أن العرف هو مصدر
الأول و أساسي من مصادر القاعدة القانوني.
والخلاصة: أن كتابة الاتفاق شرط جوهري
للتحكيم، و لا يجوز إثبات الاتفاق بأي وسيلة أخري، و على ذلك، إذا جرى التحكيم دون
اتفاق مكتوب، و اعترض أحد الطرفين على ذلك في حينه، و لم يؤخذ باعتراضه، فيكون هذا
سببا صحيحا للطعن في حكم التحكيم، و لا يقبل الادعاء بأن الكتابة، إذ هي شرط إثبات
فيجوز إذن إثبات الاتفاق بالإقرار أو باليمين الحاسمة، (مقالة منشورة في موقع مجمع
القانون الليبي).
الوجه الخامس : ولاية المحكم وشرط الكتابة في اتفاق التحكيم:
سبق القول بأن الكتابة في إتفاق
التحكيم هي شرط إنعقاد وصحة، وليست شرط إثبات إتفاق التحكيم، ولذلك فانه يترتب على
تخلف شرط الكتابة بطلان إتفاق التحكيم وبطلان حكم التحكيم إذا أستند إلى إتفاق
التحكيم الباطل .
ومن المعلوم ان أساس ولاية المحكم هو إتفاق التحكيم، إذ يستمد المحكم ولايته في نظر الخصومة التحكيمية من إتفاق التحكيم الذي يتضمن قرار الخصوم تعيينه واختياره للفصل في الخلاف الناشب بينهم، فاتفاق التحكيم بالنسبة للمحكم مثل قرار مجلس القضاء بتعيين القاضي، فالقاضي يستمد ولايته من قرار تعيينه، في حين يستمد المحكم ولايته في نظر الخصومة التحكيمية من إتفاق التحكيم المكتوب الذي اشترط القانون صراحة ان يكون مكتوباً وصرح القانون بأنه لايجوز بغير الكتابة، والله اعلم.